لا صوت اليوم يعلو فوق شعار الإصلاح الذي يتغنى به الجميع، إصلاح يستهدف نظاما سياسيا غير ديمقراطي أفرز اقتصادا ريعياّ، وتعليما تجهيليا يخدم اقتصاد الريع ولا ديمقراطية النظام المخزني، شعار إصلاح لم يأتي من صحوة ضمير الماسكين بزمام الأمور في هذه البلاد السعيدة، إنما جاء بعد إحساس أعمدة المخزن أن هيكله قد ينهار في أي لحظة بعد أن تنهال عليه معاول الشعب الغاضب في غمرة الربيع الديمقراطي الذي أسقط رؤوسا لم تينع فقط وإنما تجاوزت ذلك إلى تفريخ رؤوس أخرى، فأصبحت اليوم مشتتة في أرض الله الواسعة بين متابع في المحاكم وضيف في بلاد البترودولار أو مختبإ في أدغال إفريقيا. من المعروف أن أي إصلاح يتطلب أداء تكاليف يختلف مقدارها حسب كل بلد ودرجة التسلط والفساد فيه، ومدى صدق الراغبين في هذا الإصلاح وغيرتهم على مصالح المواطنين، والحديث اليوم في المغرب دائما ما يذهب إلى الجوانب الاقتصادية التي تقض مضجع المواطن البسيط المغلوب على أمره، نتحدث على أنه لابد من التضحية في سبيل تحقيق نوع من رد الاعتبار لفئات يرتزق من وراءها الكثيرون فيما لا يصلها أي شيء، لكن الملاحظ هو أن الحديث عن التكلفة السياسية للإصلاح يبقى مغيبا بشكل كبير. التكلفة التي يؤديها المغرب من أجل الإصلاح السياسي تظهر اليوم بشكل جلي في التطورات السياسية الأخيرة وعلى رأسها إعلان حزب الاستقلال انسحابه من حكومة بنكيران، بعد ان ضاق شباط ذرعا من الحواجز التي ما فتئ يضعها بنكيران أمام الطموحات الشباطية اللامتناهية لتحقيق أكبر قدر من المكتسبات (الشخصية في نظر الكثيرين ) لدرجة جعلته يفكر في قلب الطاولة على حزب العدالة والتنمية والخروج من الحكومة في ظرفية حساسة وعصيبة اجتماعيا سياسيا اقتصاديا ودبلوماسيا.. بعد انتخابات نونبر التشريعية التي أعطت الفوز لحزب العدالة والتنمية وأوصلت بنكران لرئاسة الحكومة بمقتضى المنهجية الديمقراطية المنصوص عليها دستوريا، وأصبح المغرب أخيرا أمام صيغة واضحة لتعيين رئيس الحكومة بعد أن كانت المنهجية الديمقراطية مجرد منة بعد الرضى – بعد كل هذا – سنجد أنفسنا أمام من يحاول أن يأخذ بيسراه ما أعطاه بيمناه، والوسيلة المستخدمة هنا هي حميد شباط الذي يقبل أن يلعب كل الأدوار للوصول إلى مبتغاه ومبتغى من يدور في فلكه، وإعادة المشهد السياسي إلى الصفر، وبعثرة الأوراق أمام الشعب المغربي الذي لم يعد يستطيع التمييز بين الصالح والطالح في ظل خطاب شعبوي قائم على التخوين والتباكي على الفئات المسحوقة والتنديد بالدخول إلى البرلمان في حالة سكر، وكل هذا من أجل إرجاع المشهد السياسي المغربي إلى زمن الضبابية والاستفراد بالقرار، والسعي نحو عدم امتلاك المواطن المغربي لفهم سياسي واضح ونموذج سليم للممارسة الديمقراطية. إن المغرب اليوم يؤدي ثمن رغبة الشعب والقوى السياسية الغيورة في الإصلاح السياسي، وبالنظر إلى البطئ الكبير والعراقيل الكثيرة التي تواجه هذا الإصلاح، والمحاولات المتكررة لإجهاضه، فإن تكلفته على ما يبدو ستكون كبيرة جدا، وربما لن تقتصر على النقاشات الصاخبة أو إعادة تشكيل التحالفات وإجراء التعديلات الحكومية، المشكل اليوم يكم في أن هناك لاعبا مهما بدأ يحجز لنفسه مكانا أساسيا في المشهد السياسي، إنه الشعب الذي ضاق ذرعا بخطابات الإصلاح العصماء والمراهقة السياسية لبعض أشباه الزعماء، ومن جهة أخرى إصرار الماسكين برقاب العباد ومفاتيح البلاد على إبقاء الوضع على ما هو عليه، صونا لمصالحهم الخاصة واستنزافا لأقوات الشعب وخيراته. يوما ما سيندم هؤلاء على هذه الفرص المتاحة أمامهم للفرار بجلدتهم في ظل "عفا الله عما سلف"، مادام حزب العدالة والتنمية اختار الرجوع خطوة للوراء من أجل خطوتين إلى الأمام، وإذا ما استمر الإصلاح في التعثر فقد يحل الشعب مكان الأحزاب، ومن خصوصيات قوانين الشعوب في الإصلاح بطريقتها الخاصة، محاسبة المتورطين في تفقيره بأثر رجعي قديم جدا، وبعدم التمييز بين رؤوس الفساد وأقدامها، حينذاك فقط ستبدو فاتورة الإصلاح ثقيلة جدا، ويمكن أن يتجه الشعب نحو هدم كل شيء وإعادة البناء من جديد.