على إثر القرار الأخير الذي اتخذه المجلس الوطني لحزب الاستقلال والقاضي بانسحاب وزراء الحزب من الحكومة، عبر بعض قياديي حزب العدالة والتنمية عن عدم انشغالهم كثيرا بهذا الحدث العارض الذي لا يستحق في نظرهم أ ي اهتمام حقيقي على عكس ما يعتقد خصومه أو بالأحرى كما يخططون لذلك ، وحجتهم في ذلك أن حزبهم يوجد في وضع مريح بالنظر للمرتبة التي حصلوا عليها في انتخابات الخامس والعشرين من نونبر 2011 والمكانة التي يحظون بها في الأوساط الشعبية التي بوأتهم تلك المرتبة، وهو ما يجعلهم على أهبة الاستعداد وفي كامل الجاهزية للانخراط حتى في أسوأ الاحتمالات في حالة ما تم إسقاط الحكومة والذهاب إلى انتخابات مبكرة ، أي الاحتكام مجددا إلى صناديق الاقتراع ، وما يعزز ذلك هو قناعتهم الراسخة بأن أكبر ضامن لهم في العودة المظفرة إلى رئاسة الحكومة هو واقع موضوعي لايجادل فيه عاقلان ، ويتعلق الأمر بالواقع المتردي للأحزاب بصفة عامة وأحزاب المعارضة بصفة خاصة ، وأن هناك فراغ قاتل خلفه فشل التناوب الأول كان من تداعياته واقع العزوف الذي ساهم بشكل كبير في تحديد الخريطة السياسية الحالية ، وهو عين الواقع الذي لازال قادرا على إعادة الحزب المذكور إلى سدة الحكم ضدا على كل من سولت له نفسه المساهمة في التآمر على الشرعية الانتخابية. وبغض النظر عن كل التأويلات والتخمينات التي أثارها إعلان المجلس الوطني لحزب الاستقلال عن قراره بالانسحاب من الحكومة وعن الخلفيات الثاوية وراء هذا القرار وحدود استقلاليته ، وبعيدا عن كل ما يمكن أن يصنف ضمن التفسير التآمري للأحدات ، وفي غياب أية مؤشرات كافية دالة على ما يمكن أن يؤول إليه أمر هذه الحكومة التي تشكلت تحت الضغط بتحالف قهري اضطراري جمع بين النقيض والنقيض ، وسواء كانت مبادرة الانسحاب مبادرة صادقة ومستقلة ولها أسبابها الموضوعية، أوكانت زائفة مبيتة مملاة من خارج الحزب ، أو كانت بدوافع ذاتية صرفة تروم الابتزاز فقط ، يمكن القول أنها وبغض النظر عن طبيعتها ومصدرها هي مبادرة تقدم درسا بليغا لحزب العدالة والتنمية، عنوانه الكبير: من زرع الريح يحصد العاصفة. وبعناوين فرعية ثلاثة هي : 1 - حدود الشرعية الانتخابية وعدم كفاية التفوق العددي بالمقاعد. 2 - حدود التحالفات البرجماتية في غياب قواسم مشتركة من حيث المبادئ ولأهداف. 3- حدود الاستقواء بضعف الآخرين والتغول داخل الفراغ. وخلاصة هذا الدرس هي : إن المسؤول الأول عن هذه الورطة المفاجئة لحزب العدالة والتنمية هو هذا الحزب عينه الذي سارع إلى وضع نفسه كحزب عند الطلب وفي كامل الجاهزية لاستبدال موقعه من المعارضة إلى السلطة بسرعة قياسية ، ومتحملا مسؤولية تاريخية ثقيلة في إجهاض ربيع مغربي بعملية قيصرية لمخاضنا الديمقراطي العسير، ليكتشف بعد حين أن الواقع أعقد مما كان يتصوره، وليقف على حقائق ساطعة أعماه عنها بريق السلطة قبل السقوط في حبالها ، وليستفيق على واقع لايرتفع أصبح ضمنه يشتكي صباح مساء من التماسيح والعفاريت ، وليكتشف أن الرهان على الفوز العددي بالمقاعد هو رهان فاشل طالما أنه مرتهن بتحالف مأساوي بئيس مع قوى ساهمت في تأسيس الفساد والتطبيع معه ، وأن الزيادة الكمية في عدد الوافدين للمؤسسة التشريعية لاعلاقة لها بالتغيير إذا لم تتوفر شروط قطع الطريق على قوى الفساد التي استوطنت هذه المؤسسة ولم تعد قادرة على العيش خارجها، وأن لا طائل من وراء رفع شعار التغيير بدون العدة اللازمة في افق استرجاع الثقة وتمتين الجبهة الداخلية، وأن لاقيمة للوعود بدون ميزان قوى قادر على تنفيذ تلكم الوعود، وأن القضايا الكبرى للوطن كالصحة والتعليم لايستقيم إصلاحها بالهروب منها وإسنادها للأباعد الذين حولتهم المنافع والمواقع إلى حلفاء أقارب، إذ قد يشكل الهروب منها تخاذلا وتهربا غير مقبول، وأن الإصلاحات الكبرى كالمقاصة والتقاعد لاتتوقف على الحماس والخطابة أمام التجمعات الانتخابية وإنما إلى قراءة الواقع بتأني وتؤدة وتبصر، وأن الشجاعة الحقيقية هي تلك التي تكشر أنيابها في وجه المفسدين الأقوياء عوض الهجوم على الأجراء والضعفاء، وأن الخوف على البلد لايكون مشروطا ومحدودا بحدود الذات وحساباتها الضيقة، وأن نظافة اليد لاتعني عدم التطاول على المال العام فقط لأن ذلك يعتبر واجبا قانونيا وليس خصلة أخلاقية يمكن التباهي بها ،بل تعني من بين ما تعنيه اتخاذ مبادرات عملية تجسيدا لما هو معروف ضمن الأخلاقيات الإسلامية في التعفف والتأني والإيثار ونكران الذات، وأن تهالك المعارضة البرلمانية وغياب صدقيتها لا ينبغي أن يكون مبررا للاستقواء والاستفراد، وأن منهجية الانتقال ليست هي إعادة أنتاج تجربة التناوب الأول والسير على خطاه نحو نفس المصير حدو النعل بالنعل ،وأن التغيير أو الإصلاح لايكون بعقلية أنا وحدي موجود، وأن خير ما يمكن أن يخدم به الوطن هو العمل في صمت بدون مزايدة لأن عين التاريخ لاتنام. هذه بعض الدروس أو العبر التي ينبغي أن تكون حاضرة أثناء قراءة قياديي حزب العدالة والتنمية ومنظريه لتجربة سنة ونصف من الولوج أو الاندماج أو التطبيع مع بنية الفساد وترديد خطاب المظلومية :" لم يتركونا نشتغل" . دروس ينبغي أخذها بعين الاعتبار أثناء كل تلويح باستعمال ورقة ما يسميه قادة الحزب بالشرعية الانتخابية ، ذلك أن السؤال الذي يفرض نفسه هنا هو: إذا كان الحزب المذكور لايتردد في رفع شعار الخوف على البلد والحرص على ترشيد نفقاته، فبمادا نفسر هذه الدعوة العبثية لأعادة إنتاج نفس التجربة الانتخابية وضمن شروط أكثر رداءة ،والتي لايمكن أن تفضي إلا إلى نفس المأزق وبصورة أكثر اختناقا ضمن واقع هذا الحزب الذي يجد نفسه اليوم وحيدا في مواجهة الكل أقارب وأباعد؟ أليس جديرا بمنظري حزب العدالة والتنمية أن يقرأوا جيدا رسالة الأحزاب التي أعلنت عن عدم استعدادها ملء فراغ الانسحاب المحتمل والحكومة لازالت قائمة ، فكيف يمكن الرهان عليها مجددا من أجل التحالف معها ؟ وإذا ما افترضنا جدلا نجاح الحزب في الإحراز على أغلبية مريحة تخوله تشكيل حكومة حزبية خالصة بعيدا عن إكراهات التعايش مع الخصوم ودون ضغوط الحاجة لاستكمال النصاب القانوني، فما مدى قدرته وحيدا على مواجهة التماسيح بعد الاستفراد به وحيدا ووضعه أمام واقع يصبح معه يصارع ليس من أجل التغيير ومحاربة الفساد والاستبداد، وإنما كل همه هو الحفاظ على البقاء، شأنه شأن المحارب الذي يفقد سلاحه فتتحول غايته من الرغبة في تحقيق نشوة النصر إلى مجرد الفرحة بالبقاء على قيد الحياة فقط ؟ على سبيل الختام: إذا كانت العلوم الإنسانية قد قدمت الكثير بخصوص التنبؤ بما يمكن أن يحصل من نتائج تترتب حتما على مجموعة من المقدمات، وذلك في سياق استلهامها لمناهج العلوم الحقة وتوظيفها من أجل الوصول إلى معرفة أكثر موضوعية بالظواهر والمشكلات ، وكان السياسيون في بلدنا عادة ما لايعيرون الاهتمام الكافي للدروس النظرية التي توفرها هذه العلوم ، فإن مرور سنة ونصف من تجربة التناوب الثاني قد تكون كافية لتقديم درس عملي بخصوص حدود الشرعية الانتخابية، ولاجدوى إعادة استعمالها كورقة للتخويف بعد أن وجدت نفسها وجها لوجه أمام ورقة مضادة وهي التهديد بالانسحاب. ألا يمكن أن تتحول الشرعية الانتخابية ضمن واقع من هذا القبيل إلى إضفاء الشرعية على عبثية الحلقة المفرغة؟. فمن سيتحالف مع من وضد من؟؟.