يتعامل معنا الإسلاميون، نحن معشر العلمانيين، "كخراف شاردة"، فتجدهم، في كل مرة يحتد فيها النقاش بيننا، يلوحون بعصاهم، يهشونا كي نعود إلى "حظيرة القطيع". يهدف الإسلاميون من وراء حوارهم للعلمانيين، إلى إقناعهم بوجهة نظرهم، لأنهم يعتقدون، مدعومين بفهم خاص للعلوم الشرعية، امتلاكهم وحدهم للحقيقة المطلقة، وما دونها ظلال مبين. من جهتهم، ينطلق العلمانيون من نفس المبدإ في حوارهم مع الإسلاميين، متسلحين بمبضع المعرفة والعلم الحديثين، يشرّحون طروحات هؤلاء، فيصفونها باللا تاريخية، والقفز على مجموع التحولات العميقة، والتطورات السريعة، التي عرفتها وتعرفها البنى السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية لمجتمعاتنا. هذا السجال ليس وليد اللحظة، بل هو سجال مستمر، كرد فعل على المأزق التاريخي والتحدي الحضاري، لصدمة الحداثة، متمثلة في استفاقة الأمة العربية خلال القرن 19 وقد وصلت أساطيل الدول الاستعمارية الكبرى قبالة سواحلها... ورغم مرور كل هذا الزمن، إلا أننا لم نصل بعد إلى مخرج لهذا التمزق الفكري، بين دعاة الأصالة ومبشري المعاصرة، تمزق يؤثر على التوافق المجتمعي المطلوب لكل نهضة سياسية، اقتصادية، واجتماعية... بداية، يجب أن نقر، أن كلا الطرفين، لن أقول مخطئان في ما يذهبان إليه، أو ليسوا على دراية بأدبيات الحوار، أو ليس لهما الرغبة في التوافق لما فيه خير هذه الأمة، لكن أقول أنهما منجذبان أكثر إلى السجال الإيديولوجي، المولد لعوامل التباعد والتفرقة، منه إلى الحوار الفكري، المولد لعناصر التقارب والانسجام. الأطراف جميعها تدعي امتلاك الحقيقة وبالتالي تصم آذانها عن الإنصات إلى حقيقة الآخر، ليبدأ حوار الطرشان، ومنه فشل كل مساعي التوافق إلى الآن. عندما نبدأ الحوار، فالأساسي ليس أن تتبنى فكرتي أو أتبنى فكرتك، هذا الأسلوب لا يفيد في شيء، إنه لا ينتج إلا الإقصاء المتبادل والمزيد من التمزق. الحوار يقتضي، أن نبدأ من نقطة تماس تجمعنا، أظنها النية الصادقة والرغبة الأكيدة في الوصول إلى ترتيبات تجعل التعايش ممكنا، ومن تم خلق منطقة ثالثة، منطقة محايدة، أي منطقة نمارس فيها اختلافنا من أجل توليد "حقيقتنا المشتركة"، منطقة تخضع لمنطق التفاوض، فلا أحد يجب أن يفرض حدودها ولا ثوابتها. ويمكن التمثيل لهذه الاستراتيجية بدائرتين، واحدة تمثل الإسلاميين وأخرى تمثل العلمانيين، فلا يجب أن نبقى في حدود التماس(السجال)، ولا التطابق الكامل(النفي)، فبين المنطقتين يجب خلق منطقة ثالثة للحوار المثمر، تكون غايته إصلاح أحوال هذه الأمة. أعتقد أن التحولات الطارئة على المستوى الدولي والإقليمي وكذا الوطني، المتمثلة في ما اصطلح على تسميته بالربيع العربي، تعد بحق، فرصة تاريخية، من أجل بناء نموج سياسي يسمح للجميع بالحق في الوجود والعمل على بلورة مشاريع مجتمعية، يكون الفاصل بينها المشروعية الديمقراطية الخارجة من صناديق الاقتراع، والثابت فيها التداول السلمي على السلطة، في أفق التأسيس لتقاليد ديمقراطية، تصلح لأن تكون صمام أمان، أمام أي شكل من أشكال الاستبداد، سواء المرتدي لبذلة العلماني أو لجبة الإسلامي؛ حتى لا نصل إلى مرحلة القطيعة، التي لن تنتج إلا المزيد من التدهور والاحتقان السياسي، الذي يترجم كاستمرار للوضع الراهن، الموسوم بالتخلف والتردي في جميع مناحي الحياة؛ ولنا في تجربة مغرب ما بعد الاستقلال (والدول الوطنية في عموم الوطن العربي) خير دليل على ذلك، فكم من الجهد والمال والوقت ضاع بسبب حروب إيديولوجية طاحنة، لم يجن المغرب من ورائها إلا المزيد من الفقر والبؤس والتخلف، جهد ومال ووقت كان من الأجدى توظيفه في بناء مشروع مجتمعي متفاوض حوله، يسمح بمستوى مقبول من الانسجام، مع الحفاظ على هامش معقول من الاختلاف، يبقى ضروريا، لإغناء تجربتنا الخاصة، فالتنميط يقتل الإبداع والتجديد الضروري، للتكيف مع الطارئ وغير المتوقع، الذي يفاجئنا في كل مرة وحين. هي فرصة جديدة يمنحها لنا التاريخ، كيف ننفض غبار الانحطاط والتخلف الذي تراكم فوق مجتمعاتنا على طول القرون الماضية، فهل سنكون في مستوى اللحظة التاريخية؟ هذا هو السؤال الملح نترك إجابته للقادم من السنوات، رغم أن الإشارات الأولية لا تبشر بخير، ومع ذلك فالأمل في مثل هكذا مرحلة انتقالية، يبقى التشبث به هو السبيل الوحيد لاتقاء صدمات النكوص والإحباط.