بعد تنصيب الحكومة الجديدة في ظل الدستور الجديد طفا على سطح الساحة السياسية مصطلح "المقاصة"، وكأنه لم يظهر إلا معها، والحال أنه أحدث في 1941، وأعيد تنظيمه بعد الاستقلال بظهير 1-74-403 في 19 شتنبر1977 ، ولكنه لم يكن يستهلك من ميزانية الدولة سوى اليسير؛ إذ في 2002 بلغ 4 مليار درهم، ولكنه تصاعد بوتيرة كارثية في السنوات الأخيرة حيث بلغ 55 مليار درهم في 2012. ولم يعد خافيا على أحد المقصود من مصطلح "المقاصة" نظرا لحدة ذيوعه على مستوى الإعلام بكل أصنافه المرئي والمقروء والمسموع؛ فهو مخصص لأداء الفرق بين السعر الحقيقي لبعض المواد الأساسية والسعر المتداول في السوق. وفي غمرة الاحتجاجات المطالبة بإسقاط الفساد لم يجد المخزن من سبيل لترطيب الأجواء، وتلطيف المناخ، سوى الرفع من وعاء صندوق المقاصة كي يستطيع الالتفاف على المطالب المشروعة للشعب، أو على الأقل التخفيض من حدة مستوى المطالب، أو تجميدها في مستوياتها الدنيا كي لا تتعدى الخطوط الحمراء. والصندوق مؤنثة في اللغة العربية ولكن حملها لأعباء كثيرة جعلها تبدو مذكرا في المخيال المغربي فذكّرت في الأبحاث والبرلمان. وإذا ما سارت هذه الصندوق على هذا النهج، وواصلت الصعود، فإن الكارثة متوقعة في كل حين. وهي الآن قد بلغت مرحلة اللاعودة، وأمست تشكل عبئا يخنق أنفاس التنمية، وتعطل عجلة الاقتصاد، وتنذر بغد قابل لكل الاحتمالات. والإشكال خبرته الحكومات المتعاقبة، وتهيبت الاقتراب منه لحساسيته المفرطة، وإن كانت قد تدارست خططا تساعد على الخروج من هذه الدوامة التي ما إن تكمل دورتها السنوية إلا وتكون قد تضخمت أكثر ككرة الثلج التي تكبر بتدحرجها. وقد قُدمت دراسات كثيرة، وحلول متباينة، ولكن التطلع كان منصبا نحو التوجه إلى تحرير الأسعار، والعمل على مساعدة الطبقات الدنيا مساعدات نقدية. ولم تستطع أي حكومة اللعب بمستقبلها السياسي في فورة الغضب الشعبي، ولا النبش في الصندوق التي يمكن اعتبارها صمام الأمان، وكاتمة أصوات المستضعفين، ومخففة معاناة طبقات واسعة من الشعب. ولكن بخمود حركة 20 فبراير عاد التفكير بقوة للبحث عن بدائل تساهم في تقليص العجز الذي يتضخم سنة بعد أخرى. فعملت الحكومة على الزيادة في المحروقات، وترشيد النفقات، والزيادة في فينيات السيارات الفارهة، وفرضت بعض الضرائب على الطبقات الغنية، ولكن كل هذه الإجراءات كانت قاصرة عن تحقيق توازن بين المداخيل والنفقات. لذلك لم يكن من بد للحكومة سوى التفكير بجدية لتحرير الأسعار تدريجيا، وكان في المنظور أن تساعد حوالي 3.5 ملايين أسرة بمبلغ يتراوح بين 400 و 1000 درهم شهريا، وهو ما يكلف الدولة 25 مليار درهم لتبقى 30 مليار درهم تخصص للاستثمار وخلق فرص الشغل. وبغض النظر عن القيل والقال، والتجاذبات السياسية، والاتهامات المتبادلة بين الأحزاب المشكلة للحكومة وأحزاب المعارضة، فإن العدوى انتقلت إلى داخل التحالف الحكومي، فكيلت الاتهامات من كل حدب وصوب إلى رئيس الحكومة باعتباره، في نظرهم، المستفيد الأكبر من هذا التوزيع للمال العام على الفئات المعوزة؛ لأن تلك الفئات، في زعمهم، سوف تصوت للعدالة والتنمية في الاستحقاقات المقبلة، بل هناك من ادعى أن بنكيران يسعى إلى شراء ذمم الناس بهذه الإعانات المفترضة، وهناك من ربطها بشروط صندوق النقد الدولية التي اشترطت توفير قيمة القرض الائتماني بتحرير الأسعار . فيا ترى هل يمكنا التعاطي مع هذه الصندوق بهذه النظرة المبسطة؟ وهل إذا أعانت الدولة 3.5 مليون أسرة أي حوالي 12 مليون شخص تكون قد تجاوزت المحنة بسلام؟ فإذا ما علمنا أن رفع الدعم عن المواد المعلومة سوف لن يكون مفعوله مرتبطا بتلك المواد فقط لأن بنية المقومات الإنتاجية متشابكة ومتقاطعة فإن الإشكال سيزداد تعقيدا. فعلى سبيل التمثيل يمكننا التساؤل عما إذا كان المبلغ المزمع تسليمه للأسر الفقيرة والموجه أساسا لموازنة مصاريف الغاز والخبز والسكر والغازوال سوف يصرف فعلا في تلك المواد؟ ثم هل فعلا ما زالت هذه المواد هي الضرورية فقط؟ أليس التمدرس والتطبيب والألبسة والتنقل والكهرباء والماء من الضروريات أيضا؟ وهل هذه المصالح لن تتأثر بتحرير الأسعار؟ وهل المعامل والمصانع إذا ما أحست بالزيادة في الكهرباء والغاز والسكر والدقيق التي هي ضرورية للحلويات والمشروبات الغازية وتسويقها... لن تسرح العمال، أو تخفض من الأجور، أو تزيد في الأثمان، أو تغلق أبوابها وتنقل الرساميل إلى الدول المجاورة؟ ألا ينعكس تحرير الأسعار سلبا على كل المجالات والميادين لتشابك المصالح والمواد والخدمات؟ ثم من يضمن للحكومة أن أموال الدعم سوف تصرف في مخصصاتها ولن تذهب إلى الكماليات أو مساعدة الأبناء والبنات أو أداء الديون... وآنئذ سيكون المستفيدون من الدعم هم أول من يرفع لواء الاحتجاج. فالمساعدات النقدية لها سلبيات كثيرة وأهمها إمكانية استهلاك الإعانة في أول يوم من دون التفكير في العواقب، ثم إنها قد تخلق جيلا من الكسالى الذي ينتظر الريع مهما كان زهيدا. إذن حين نتحدث عن تحرير أسعار المواد الأساسية لا يمكننا أن نستحضر الأغنياء فقط في استهلاكهم اليومي كأشخاص، بل علينا أيضا أن نركز على استثماراتهم التي هي متوجهة إلى جميع الشرائح الاجتماعية، وهكذا نصبح أمام إشكال عويص يصعب التكهن بعواقبه التزامنية والتعاقبية؛ فالمستثمر في ميدان الدواجن مثلا يستهلك مئات القنينات من الغاز شهريا للتدفئة فهل يا ترى حينما تضاف الملايين إلى مصاريفه بسبب تحرير الأسعار لن يضطر إلى الزيادة في أثمنة الدجاج الذي يستهلكه الفقير أكثر من الغني؟ وقس على هذا الفنادق والمطاعم والشاحنات والباخرات والطائرات وهلم جرا. لا أظن أن معادلة صندوق المقاصة سوف تحل بين عشية وضحاها، أو في الولاية الحكومية الواحدة، أو من الأغلبية مهما نالت من ثقة المقاعد، وإنما لا بد من إتاحة الوقت لوضع مخطط طويل الأمد تراعى فيه جميع الحقوق والواجبات، ويرعاه رئيس الدولة لتكون الاستمرارية فيه ملزمة للحكومات المتعاقبة. ولكن ما يجب القطع معه بداية وعاجلا هو إيقاف النزيف والعمل على تجميد مستواه. إن إشكالية العجز الذي تترنح على أمواجه ميزانياتنا المتتالية لن يحل إلا بالتضامن المطلق. فالمغرب غني بثرواته المعدنية والبحرية والفلاحية والعقارية والبشرية، وبأساطيل النقل في البر والبحر والجو، وفقير بسياسة التعليمات الشفوية التي تغني الأقلية وتفقر الأغلبية. فقبل سنوات قليلة علمنا أن فوسفاطنا ينتج الأورانيوم، واليوم نكتشف أن أرضنا تنتج الغاسول والرمال للمحظوظين، وتقدم الريع في أعالي البحار، وفي الصحراء وراء القفار، وكذا مأذونيات الحافلات والسيارات في واضحة النهار. ولكي يتضامن الشعب المغربي لابد أن تكون لنا الأسوة في الدول التي تشاكلنا؛ فهذا المنصف المرزوقي الرئيس التونسي يبيع بعض القصور ويستغني على معظم مرتبه ويكتفى بحوالي ألفي دولار، ثم السيد مرسي يكتفي بمرتبه الجامعي ويستغني عن المرتب الرئاسي وخدمات القصر الرئاسي، ورئيسين في أمريكا الجنوبية يكتفون بألف دولار في مرتبيهما، ورئييس فرنسا يتنازل عن ثلاثين في المائة من مرتبه، وملك إسبانيا يتخلى عن 7 في المائة رغم شح مرتبه بالمقارنة مع باقي الملوك، وملكة إنجلترا تستغني عن خدمات كثيرا من العاملات لتخفيف النفقات... ولتكييف الفصل 40 من الدستور واستلهام الفلسفة العامة منه والروح الوطنية فإن المغاربة ليسوا مضطرين للوقوف في انتظار حصول الكارثة لينهضوا من سباتهم، لذلك نقول إن المغرب أمام فترة عصيبة، ومحتاج لكل أبنائه من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار، واللحظة تحتاج إلى تكاثف الجهود، وتآزر النيات، ونبذ العصبيات، ونسيان صراعات الأحزاب وأجنداتها للخضوع جميعا لنداء الوطن. فالصناديق شبه فارغة والعجز يتفاقم والوضعية المالية العالمية في انحدار مطرد، وهذا كله يدعونا إلى التفكير بجد في أمرنا، والعمل سويا على نكران ذواتنا، والابتعاد عن ثقافة الاستهلاك المفرط، والدخول فورا في التقشف والزيادة في ساعات العمل، وتزيير المناطق. وهذا لن يتم إلا إذا أحس المواطنون أن هناك إرادة حقيقية في التضامن الوطني، ويبدأ من أعلى سلطة في البلاد بحيث يعلن الملك عن تنازله عن جزء من راتبه الشهري، ويتبعه الأمراء، ورئيس الحكومة، والوزراء، والنواب، وكل الموظفين الذين يسمح مرتبهم بالمساهمة. وبعد ذلك يأتي دور الشركات، والمتاجر، والمناجم، والخدمات، والبحث عن السبل الواجب اتباعها والكفيلة بالوفاء بهذا الواجب. وقبل هذا وذاك لابد أولا من سن قوانين لإحداث دفاتر تحملات جديدة لكل من كان يستفيد من الريع من دون أدنى حسيب أو رقيب لضبط حالات الاختلال القديمة، ومتابعة سير المؤسسات العمومية وشبه العمومية، وتتبع حساباتها، ثم خلق لجنة وطنية تراقب الشركات الكبرى والمتوسطة للتأكد من التزاماتها ووضعياتها المالية. وأخيرا لابد من مراجعة السياسة الفلاحية، وفرض ضرائب على الفلاحين الميسورين. ولن يكون هذا إلا بوضع السلطة التنفيذية كلها بيد رئاسة الحكومة لكي لا يفلت أحد من المحاسبة. إن الشعب المغربي شعب مسلم ومؤمن بالتكافل والتضامن، ويضحي بالغالي والنفيس إن رأى أن وطنه في حاجة إليه، وإن لمس أن الكبار كلهم قد ساهموا بدون محاباة أو تمييز أو استثناء. ونحن مستعدون للتضحية من أجل وطننا شريطة أن يكون الوطن للجميع ولا يكون للمحظوظين في فترات الازدهار، وللفقراء في أوقات الأزمات. وليكن الدستور فوق الجميع وهو الوثيقة العهد بيننا، ولنقطع مطلقا مع السلطات الطفيلية التي تنبت كالفطر في غياب الإرادة الحقيقية للتغيير من خلال ثغرات في الدستور شبه الممنوح، ولنجعل الحكامة تضبط التسيير، والعدل يردع كل منحرف بغض النظر عن موقعه وأصله وقيمته.