اطلعت على بيان أصدره حزب النهضة والفضيلة، يتضمن استنكارا للتجني على الأدارسة والطعن في نسبهم، ويعتبر النقاش الذي أثرناه حول ضرورة إعادة قراءة تاريخ المغرب في ما يخصّ بدايات الدولة المغربية في المرحلة الإسلامية، محاولة لتحريف التاريخ وتهديدا لأمن واستقرار البلاد . كما دعا إلى "التصدي بيد من حديد لهذه المحاولات اليائسة، باعتبارها تصرفات تشكل خطرا على واقع البلاد ومستقبلها". ولنا تعقيب على موقف الحزب المذكور نورده فيما يلي: 1) أن موضوع الطعن في الأنساب بهدف الإساءة إلى كرامة مواطنين مغاربة ليس هدفنا على الإطلاق، ولا هو بالإشكالية الرئيسية التي نخوض فيها منذ عقود، بل على عكس ذلك لقد أدى ذكر هذا الموضوع عرضيا وتركيز الصحافة عليه إلى التغطية على الموضوع الرئيسي الذي هو "هوية الدولة المغربية" وسياق تأسيسها في بدايات المرحلة الإسلامية. وقد سبق أن كان لي لقاء ودّي تمّ بمبادرة من بعض المواطنين من الأدارسة السوسيين في نهاية شهر دجنبر من سنة 2012، اتفقنا فيه على أنّ إثارة موضوع نسب إدريس الثاني والتشكيك فيه ولو باعتماد النقاش الذي عرفه المؤرخون منذ قرون، لا يؤدي إلى أية نتيجة إيجابية، سوى إذكاء الحزازات وإثارة الضغائن، وهو أمر ليس في صالح بلدنا ولا في صالح المسار الذي ننهجه من أجل إنجاح الانتقال نحو الديمقراطية ودولة القانون. غير أنه تم الاتفاق أيضا على أن المغاربة متساوون في كرامتهم وشرفهم ومواطنتهم جميعا أمام القانون، فلا أفضلية ل"شريف" على غيره، وأن استعمال نسب ما من أجل نيل امتيازات اجتماعية ومادية أمر مرفوض أخلاقيا وقانونيا، وأن اعتماد النسب لتبني إيديولوجيا عربية عرقية وصلت حدّ التحالف مع الرئيس المخلوع غير المأسوف عليه معمر القذافي ضدّ الأمازيغ، وتبخيس مكونات الهوية الوطنية الأمازيغية والإفريقية واليهودية أمر مُدان وغير مقبول كذلك. كما اتفقنا على أنّ طرح الأسئلة العلمية المتعلقة بدولة الأدارسة وسياق تأسيسها وموضوع هوية الدولة المغربية أمر مشروع تماما، ولا يحتمل نظرية المؤامرة. وقد قمت بعد ذلك بنشر مقالي حول "الأسئلة القلقة في تاريخ المغرب" أعدت فيه طرح قضايا جوهرية، مع استبعاد تام لموضوع النسب، لأفاجأ بعودة الصحافة إلى الموضوع بقصد الإثارة شهورا بعد ذلك. 2) أنّ الدافع إلى إثارة موضوع الأدارسة من قبل الفاعلين الأمازيغيين منذ عقود هو الغلوّ الذي طبع الإيديولوجيا الرسمية ومن يدور في فلكها، في استعمال شخصية إدريس الأول من أجل تعريب الهوية المغربية واعتبار أن "مؤسس الدولة" رجل عربي قادم من المشرق، وأنّ ذريته عرب أقحاح لم يؤثر فيهم التمازج العرقي والاثني على مدى قرون، وقراءة مبايعة الأمازيغ له كما لو أنه نوع من التنازل من طرفهم عن هويتهم ولغتهم، وهو مجرد تأويل إيديولوجي سرعان ما أصبح من أسس وبديهيات السياسة الرسمية في التعليم والإعلام، مما ألحق أضرارا بالغة بلغتنا وثقافتنا الأمازيغيتين، وكذا بالوعي بالانتماء إلى المغرب المتعدّد. وقد ظهر ذلك بشكل واضح خلال ما عُرف ب"احتفالية فاس" التي عوض أن تعكس تاريخ مدينة فاس الذي يمتد إلى 1200 سنة، أصبحت تتحدث عن اثني عشر قرنا من "تاريخ مملكة" و"تاريخ الدولة المغربية". كما استمرت هذه النظرة الإيديولوجية تستهلك في الخطابات الرسمية ولدى بعض القياديين الحزبيين حتى بعد تعديل الدستور والاعتراف بالأمازيغية سنة 2011. وقد نتج عن هذا الغلو في تعظيم الإمارة الإدريسية واعتبارها "بداية الدولة" بالمغرب تقزيم الدول الأمازيغية العظمى كالمرابطين والموحدين، وطمس رموزها وأعلامها إلى درجة أن أعظم ملوك المغرب في المرحلة الإسلامية وباني مراكش، الذي هو يوسف بن تاشفين، لا يتوفر في مدينته حتى اليوم على ضريح مُشرّف يرقى إلى مستوى ضريح شاعر عربي أندلسي خائن مثل المعتمد بن عباد. 3) أن علاقة موضوع الأدارسة بمفهوم الشرعية السياسية للدولة المغربية اليوم كما أوضحناها إنما تتلخص في أن شرعية الدولة في أيامنا هذه لا يمكن أن تظلّ قائمة على رواية مفبركة لتاريخ المغرب، ولا على ربط الصلة بمرحلة وتغييب مراحل بكاملها، ولا على المزارات والأضرحة والزوايا، و إنما الشرعية الحقيقية هي الشرعية الديمقراطية التي تتحقق بالتعاقد بين القمّة والقاعدة على أساس سموّ القانون وفصل السلط وتحقيق الحرية والعدل والتوزيع العادل للثروة، وغير ذلك يظل ذرا للرماد في العيون واستغفالا للناس. 4) ربط بيان حزب النهضة والفضيلة بين المواطنة المغربية وبين شخصيتي إدريس الأول والثاني بشكل غريب وغير مستساغ، حيث لا علاقة مطلقا بين المواطنة بمفهومها الحديث (باعتبارها حقوقا وواجبات قائمة على المساواة التامة بين المواطنين بغضّ النظر عن الدين أو النسب أو اللون أو اللغة) وبين الانتساب إلى الأدارسة، كما اعتبر البيان أن إدريس الأول والثاني يمثلان "لحمة تجمع بين الأطياف المغربية"، وهو تعبير سريالي لا علاقة له بما يجمع حقا بين أبناء هذا الوطن، والذي هو الانتماء إلى الأرض أولا، ثم الإرث الحضاري المادي والرمزي المشترك. إن تقديس الأشخاص والمزارات والدم والسلالة العرقية لأي كان لا تساهم مطلقا في بناء دولة القانون، ولا في تحقيق المواطنة الكاملة، بقدر ما تكرس استمرار كل أشكال الميز وأخلاق الطاعة والولاء والسلوكات الماسّة بالكرامة. 5) أنّ على حزب النهضة والفضيلة إن كان يرمي حقا إلى خدمة المشروع الديمقراطي المغربي أن يسعى إلى إلغاء بطائق الامتياز باسم "الشرافة" والسلالة والأصل العرقي، وتحقيق المساواة التامة بين المغاربة، وهي البطائق التي كتب عليها "يجب توقير واحترام وتقدير حامل هذه الإشارة"، أو سيكون على الحزب الإجابة على السؤالين: كيف ينبغي للإدارة أو للسلطة أن تعامل من لا يحمل تلك الإشارة ؟ وإذا كان المغاربة متساوين لدى الإدارة، فلماذا تمتيع البعض منهم بتلك البطائق دون البعض الآخر؟