لا تزال المدرسة المغربية بكل أثاثها من قضايا المجتمع الأكثر اثارة للجدل، فضلاً عما هي عليه من تعقيد وتشعب ومستويات كذا رأي واسع لا يقتصر على فئة ولا جهة دون أخرى. علماً أن واقع الحال هو بأسئلة متداخلة عدة تبدأ بما هو معنى عبر ما هو تدبير حتى ما هو نسق وأبحاث وتجويد وأفق، ناهيك عن سؤال درجة انسجام ما هو بيداغوجي بما هو أدوار منوطة ومواصفات متعلمين. وغير خاف ما عقد من لقاءات وندوات هنا وهناك وما حصل من قراءات ونصوص، منها ما توجه بعنايته لِما هو سياسة تعليمية كذا ما كان عليه المجال من تدخلات منذ اعتماد الميثاق الوطني للتربية والتكوين قبل حوالي عقدين من الزمن. وكانت المدرسة بمحطات توجيهية متتالية عدة، رغم أنها لم تكن بما ينبغي من نسق وتناسق ونجاعة وتصور واضح قد يكون جعلها بمحدودية نتائج. وإذا كان ما هو بيداغوجي كخيار هو من مكونات إنجاح ورش المدرسة المغربية بأطوارها الثلاث فليس سهلاً الحديث عن نموذج وبديل في هذا الاطار، مع أهمية الاشارة لِما هناك من حاجة لتكوين أكاديمي وإلمام بما هو واقع وأفق اقتصادي اجتماعي سياسي وثقافي، فضلاً عما ينبغي أيضاً من قدرة استشراف وتبصر وحسن قراءة متغيرات على أكثر من صعيد، دون نسيان زئبقية مستقبل يصعب التحضير له باعتماد أنماط وسبل تفكير على أهمية ما كانت عليه في زمن ما من نجاعة ما. ولعل ما يحضر من خيار بيداغوجي ضمن سياسة تعليمية ما ببلد ما فضلاً عما هو غايات ومضامين وأهداف وآليات وغيرها، من شأنه تحديد معالم مشروع مجتمع ما تروم المدرسة إرساء قواعده ومن ثمة ما ينبغي من رهان وأدوار منشودة. علماً أن الحديث عن سياسة تعليمية ما هو تفكير في مواصفات مخرجات وفق ما ينبغي من برامج وآليات، للاجابة عن سؤال طبيعة الانسان المراد إعداده كذا طبيعة مقاربة بيداغوجية لبلوغ ذلك. والى جانب ما هو تكوين ذاتي لا شك أن تنمية ما هو تفكير نقدي لدى المتعلمين، من شأنه تيسير تفاعل هؤلاء مع واقعٍ كذا مع متطلبات مستقبل. فإلى عهد قريب كان حديث عن جديد وتجديد من خلال ما حصل من ربطٍ لمقاربة كفايات ببيداغوجيا إدماج، تلك التي قيل عنها يوما أنها تروم مدرساً بدور ليس الذي كان عليه سابقاً، بانتقاله من موقع ملقن وتلقين واحتكار معرفة الى موقع موجه لعملية تعلمية تعليمية، ناهيك عما ملأ هذه المقاربة من قيل وقال وكثرة سؤال حول قيام مكتسبات متعلمين على وضعيات ومشكلات، في أفق تعلمات بمثابة خبرات حية اجرائية وليس مجرد معلومات سرعان ما تنتهي وتتبخر بعد كل حال. أين هي المدرسة المغربية من ميثاق وطني للتربية والتكوين، وأين هي هذه المؤسسة بأسلاكها الثلاث مما حصل من محطات اصلاح خلال العقدين الأخيرين، وأين هي أيضاً من مقاربة إدماج ومعها مقاربة كفايات شغلت كل الأثاث التربوي باختلاف أدواره لفترة من الزمن، وأي أفق بيداغوجي لتعليم مدرسي ومن ثمة مدرسة. أسئلة وغيرها ارتأيناها ذات أهمية لتسليط بعض الضوء حول إصدار جديد هو نتاج بحثي أكاديمي توجه بعنايته للموضوع في ظل واقع وافرازات وتطورات وتحديات. إصدار موسوم ب:"مدرسة التحدي أو بيداغوجيا المهارات النقدية"، مقاربة تربوية جديدة لتحدي صعوبات التعلُّم وإكراهات المنافسة باستعمال الاستفهام وقلب الأدوار، ضمن طبعة أولى لصاحبه الدكتور عبد الكريم جلام. وقبل الحديث عن هذا العمل العلمي وإشكاله التربوي"مدرسة التّحَدِّي أو بيداغوجيا المهارات النقدية"، وسيراً على خُطى سلفٍ من مفكرين ونقاد وغيرهم- يقول المؤلف- من المفيد الاشارة الى أن في حقل العلوم الإنسانية ومنها التربية، ليست هناك نظرية تربوية محصنة وأن ما يطالها من رأي ونظر ونقد يكون عندما تصبح براديغما عادياً عاجزاً عن حل مشكلات تم اختياره أساساً لحلها، خاصة لمَّا يتبين أن ما اتخذ من اصلاحات في ظلها قد فشل ولم تعد هذه الاصلاحات بما هو مفيد لتجاوز أزمةِ مدرسةٍ، يمكن لِما تتخبط فيه من مشاكل أن يتحول إلى أزمة قيمية من شأنها تهديد منظومة كليا أو جزئيا. وعليه، يصبح التفكير في رهان جديد ضرورة لوقف تزايد شعور بعجز المدرسة عن إيجاد حلول لمشاكل اقتصادية اجتماعية وثقافية من شأن استمرارها تهديد علاقة دولة بمجتمع. بهذه الاشارات استهل الدكتور عبد الكريم جلام تقديماً لمؤلفه، مضيفاً أنه إذا كان مفهوم "الكفايات" مفهوما اقتصاديا دخيلاً على حقلي التربية والتكوين، وأن الدول التي قامت بإصلاحات بيداغوجية وفق هذه المقاربة تعيش أزمات تربوية منذ تسعينيات القرن الماضي، فبالمقابل لا يمكن إنكار كون المدرسة المغربية تعيش أزمة حقيقية في ظل بيداغوجيا كفايات، وأن انتقاد هذه المقاربة مع تصريفها بشكل ضمني هو ما ورد في خطب ملكية ضمن مناسبتين: منهما تلك التي توجهت لعلماء الاقتصاد الدولي وقد ورد فيها: "وهكذا، فإن القضايا المتعددة المرتبطة بالنمو والتشغيل وبمحاربة الفقر والفوارق وبالاستثمار والتمويل والتبادل الحر، كذا تلك المتعلقة بنجاعة المؤسسات والحكامة الجيدة ودور المرأة في المجتمع وبقيم وأخلاقيات الاقتصاد، تستدعي كلها تحيينا وتجديدا مستمرين على مستوى النظريات الاقتصادية لا سيما في ارتباط بالتقدم الحاصل في الحقول العلمية الأخرى وفي مواكبة دائمة للأسئلة الجديدة". أما الثانية فقد توجهت للشعب المغربي وورد فيها:"ينبغي إعادة النظر في مقاربتنا وفي الطرق المتبعة في المدرسة للانتقال من منطق تربوي يرتكز على المدرس وأدائه مقتصرا على تلقين المعارف للمتعلمين، إلى منطق آخر يقوم على تفاعل هؤلاء المتعلمين وتنمية قدراتهم الذاتية وإتاحة الفرص أمامهم في الإبداع والابتكار فضلا عن تمكينهم من اكتساب المهارات، والتشبع بقواعد التعايش مع الآخرين في التزام بقيم الحرية والمساواة واحترام التنوع والاختلاف. إن الأمر لا يتعلق إذن في سياق الإصلاح المنشود بتغيير البرامج أو إضافة مواد أو حذف أخرى، وإنما المطلوب هو التغيير الذي يمس نسق التكوين وأهدافه وذلك بإضفاء دلالات جديدة على عمل المدرس لقيامه برسالته النبيلة، فضلا عن تحويل المدرسة من فضاء يعتمد المنطق القائم أساسا على شحن الذاكرة ومراكمة المعارف إلى منطق يتوخى صقل الحس النقدي". إن أزمة قطاع التعليم المدرسي- يضيف مؤلِّف "مدرسة التحدي أو بيداغوجيا المهارات النقدية"- شرط لظهور نظرية تربوية جديدة، وأن ما هو منشود من اصلاح لا يتحقق إلا بالتخلي عن نظرية تربوية قديمة، وأنه بتحليل الخطابين أعلاه يتبين أن جلالة الملك الذي يتحمل دستوريا صيانة حقوق وحريات كذا ضمان ما هناك من تعهدات دولية، يدعو صراحة لتسريع بملء ما تركه إلغاء وزارة التربية الوطنية لبيداغوجيا الإدماج من فراغ باعتبارها أحد أوجه المقاربة بالكفايات التطبيقية، ما يؤكد أن إيجاد بديل بيداغوجي بات ضرورياً لتجاوز عجز نموذج عجز عن حل مشاكل وكان وراء أزمة مدرسة وقطاع. إن إحداث نظرية جديدة في علوم التربية يقتضي ليس فقط التخلي عن نظرية قديمة إنما إيجاد البديل- يقول المؤلف- ، ما يؤكده"توماس كون" بقوله:"عندما تحقق النظرية العلمية مرتبة البراديغم، فإنها لا تُعلَن غير صالحة إلا إذا أمكن الحصول على مرشح بديل ليحل محلها". وعليه، فإن فشل بيداغوجيا الادماج في حل المشاكل كما تؤكد الممارسة والنتائج، كان وراء احساس معنيين بعدم الاطمئنان للمقاربة بالكفايات ذاتها. وكما يمكن للمرء أن يتوقع فإن عدم الاطمئنان الذي تجلى من مضمون الخطابين أعلاه، متولد من إخفاق نموذج بيداغوجي قديم في حل مشاكل منظومة المغرب التربوية، ما يجعل قرار رفض بيداغوجيا الادماج باعتبارها آلية اجرائية للمقاربة بالكفايات مرتبطاً بقرار قبول بيداغوجيا بديلة، وأن الانتهاء لهذا القرار يقتضي الإيمان بحتمية تغيير وقبول بديل مقترح. إن عدم اتخاذ قرار رسمي تجاوبا مع ما هناك من نداءات تخص إيجاد بديل بيداغوجي، سواء تلك المشار إليها في الخطابين أعلاه أو التي نص عليها الميثاق الوطني للتربية والتكوين والقانون الإطار الذي يقول بضرورة:"اعتماد نموذج بيداغوجي موجه نحو الذكاء، يطور الحس النقدي وينمي الانفتاح والابتكار ويربي على المواطنة والقيم الكونية"، قد يكون مردُّه إخفاق مماثل في نقد المقاربة بالكفايات ذاتها، وهو موقف غير مقبول- يقول المؤلف- لأنه كما يقول توماس كون: "لطالما برهن فلاسفة العلم على أنه يمكن دائما وضع أكثر من بناء نظري على مجموعة معينة من المعطيات، كما أن تاريخ العلم يدل، وبخاصة في المراحل الأولى لتطور براديغم جديد [نظرية تربوية جديدة]، على أن اختراع مثل تلك البدائل ليس بتلك الصعوبة الجمة". ويذكر المؤلف أن ما تقوم به الوزارة الوصية من إجراءات تخص مشروع "ثانوية التحدي"، الممول من قِبل"وكالة حساب تحدي الألفية- المغرب"، يعد قرارا رسمياً اتُّخِذ أساسا لإصلاح منظومة البلاد التربوية. وعليه، مع تقويم قبلي للقرار يمكن التأكيد على أهميته لكن ما هو عليه من أجرأة أولية تقتضي إخضاعه للتمييز من جهة والحكم من جهة ثانية، فبإخضاعه "للتمييز" باعتباره تخمينا يتم به إدراك المراد تمييزه (مشروع ثانوية التحدّي) كذا طبيعته مكوناته وقيمته. وبإخضاعه للحكم وهو ما يتم اعتماداً على مرجع معين أي إذا حُكِم على "ثانوية التحدي" بناء على المادة 132 من الميثاق والفقرة 10 من المادة 4 من القانون الإطار 51.17، والخطاب الملكي 20 غشت 2012، يتبين أنه مشروع بحاجة لنموذج بيداغوجي جديد ينطلق منه ويوجهه، وهو ما يقترحه المؤلف من خلال "بيداغوجيا المهارات النقدية" التي تقوم على قاعدة استفهام وقلب أدوار. وإذا كان استكمال إرساء المقاربة بالكفايات قد جعل الوزارة الوصية تعتمد بيداغوجيا إدماج كإطار منهجي ضمن برنامج استعجالي خاص بتجديد النموذج البيداغوجي قبل ما حصل من إلغاء، وإذا كان القانون الإطار يلزم اعتماد نموذج بيداغوجي جديد لملء فراغ بيداغوجي تركه إلغاء بيداغوجيا الادماج، وإذا كان أيضاً وضع بيداغوجيا جديدة ليس أمراً صعباً، فإن المؤلَّف يحتوي نموذجاً بيداغوجياً منشوداً علماً أن كل تطور تربوي هو في أساسه بطابع تراكمي يستفيد جديده من قديمه، وطفرات العلم دوماً تكون بأثر سابق باعث على مسار جديد لعله ما ينطبق على"مدرسة التحدي أو "بيداغوجيا المهارات النقدية" كنموذج بمثابة بديل لبيداغوجيا الادماج، كذا براديغما يمكن تعميمه لِما يجسده من خصوصية مغربٍ ويعكسه من طموحات بلد صاعد، مؤمن بأهمية مواكبة كل تحول ويجعل المدرسة والمتمدرسين محور ورش كل تربية وتكوين. ولعل في أجرأة وممارسات البحث التربوي لا توجد ضمانات ضد أخطاء يمكن حصولها بسبب صعوبة بلورة أفكار تربوية لبلورة نموذج بيداغوجي جديد، وأن تجاوز هذا وذاك يقتضي نقد نموذج بيداغوجي تم قبوله في فترة ما وكان الرهان عليه لحل مشاكل تربوية مدرسية لم يعد قادراً عليها طبقا للواقع. والآن وقد ترسّخ بما فيه الكفاية مفهوم سلطة تربوية متجدد، ليس مجرد كلام ورد في خطب ملكية بل مذهب يروم في بعديه التربوي والبيداغوجي تأسيس مدرسة تحدّي تنطلق من أصالة وخصوصية ثابتة لتحقيق غايتين يقول المؤلف: الأولى ثقافية عبر تعزيز هوية البلاد بمكوناتها العربية الإسلامية الأمازيغية الصحراوية الحسانية مع مواصلة تحصينها، ما يقتضي الانطلاق من أسس ثلاثة تجمع بين عمل جاد ومستمر وتعزيز ثقة في الذات مع ما ينبغي من بادرة واقعية وابتعاد عما هو تقليد وعشوائية وارتجال. وأما الثانية فهي اجتماعية تتحقق بجعل المتعلمين ومتواضعي الذكاء منهم خاصة محور سياسة الدولة التعليمية، بتربيتهم تربية أصيلة متطورة تضمن لهم ما ينبغي من كرامة وحرية وحق في ممارسات نقدية وإعادة بناء عبر قلب أدوار، علما أن ما يميز مدرسة التحدّي التي يروم المؤلف رسم معالمها هو هذا النموذج البيداغوجي الجديد: "بيداغوجيا المهارات النقدية". وحيث إن مشروع "ثانوية التحدّي"وهو في بداية تجريبه يحتاج لنموذج بيداغوجي موجه، فالمؤلف يلتمس من "وكالة حساب تحدي الألفية-المغرب" تتبنى رهان "بيداغوجيا المهارات النقدية" على أساس قاعدتين، كونها من جهة تستهدف طريقة تقليدية للتدريس تعتمد إلقاء دروس رئيسية في الفصل مع إنجاز تمارين فيه وخارجه )المنزل(، ومن جهة ثانية سعيها لتغيير هذه الطريقة بطريقة جديدة شبيهة بما يعرف في الممارسات التربوية الغربية ب"la pédagogie inversée " التي وردت في المؤلف ب"المقاربة العكسية أو مقاربة قلب الأدوار، وهي مقاربة تتحقق بأسلوبين أولاً بفهم دروس فرديا في المنزل وإنجاز تمارين في الفصل ضمن مجموعات، وثانياً بتغيير دعامات تعليمية تقليدية بأخرى رقمية، لإعادة الاعتبار للتعلُّم وللمتعلم بما ينسجم مع الخصوصية المغربية. فضلاً عن كونها بيداغوجيا جديدة توظف الاستفهام لتصحيح ما هو أفكار ومفاهيم متجاوزة ، وتجعل المتعلمين خاصة متواضعي الذكاء أو المحرومين بتعبير "باولو فريري" قادرين على ضمان مكان لهم في سوق شغل. وعليه، إلى جانب ما يحيط بهذا الرهان البيداغوجي من صعاب، من المفيد – يقول المؤلف- ترتيب جملة أفكار ذات علاقة، منها أولاً كون هندسة "بيداغوجيا المهارات النقدية" تمت بناء على انتقادات توجهت لبيداغوجيا كفايات بسبب عجزها وبشكل واضح عن إيجاد حلول ملائمة لِما هو منافسة وقضايا شغل، ثانياً كون "بيداغوجيا المهارات النقدية" تجسد خصوصية وطنية وأن أهميتها تكمن ليس فحسب باعتبارها طريقة جديدة للتعامل مع مفاهيم اعتاد المتعلم استهلاكها منذ الصغر في إطار تربية تلقينية كحقائق ثابتة، بل باعتبارها مفتاح سوق شغل لمتعلمين حاصلين على ميزة "مقبول"، والتي كثيراً تحرمهم من تحقيق آمالهم. ولعل هذه الفئة هي التي يستهدفها المؤلف الذي يروم جملة أهداف منها: أولاً: إحداث تغيير إيجابي في إدراك وتقييم أفكار مألوفة بشأن نظريات تربوية وطرائق بيداغوجية بقدر ما ملأت المجال بقدر ما كانت بعيوب عدة ومتداخلة، وإقناع فئة المدرسين بكون"بيداغوجيا المهارات النقدية" نتيجة عمل بحثي ارتبط بما هي عليه البلاد من رهان منذ بداية الألفية الثالثة في محيط متوسطي مغاربي عربي اسلامي وافريقي. ثانياً كون المؤلَّف لا يعني أنه وضع ملامح نهائية لبيداغوجيا جديدة "بيداغوجيا المهارات النقدية" كأحد أوجه المقاربة بالكفايات التطبيقية، وأن البادرة تبقى مشروعا تربويا وبيداغوجيا قابلا للتطوير. ورغم ما هناك من قناعة بأهمية هذه البيداغوجيا الجديدة المواطنة والوطنية، فالمؤلِّف يتوجه بدعوة خبراء المجال من مغاربة مختصين بقضايا التأصيل كذا الداعمين لكل جديد من مفكرين ومهندسي التغيير في التربية خاصة ادارة "وكالة حساب تحدي الألفية- المغرب"، إلى تبني هذا الرهان البيداغوجي وتطويره على أساس ما يحتويه من رؤى عجزت عنها نظريات تربوية تقليدية منها بيداغوجيا الإدماج، لاسيما ما هو حلول تخص مشاكل مرتبطة بالمنافسة وسوق الشغل. ثالثاً: يتمثل في استقطاب دعم رسمي لازم لتأصيل هذا النموذج وجعله مرجعا مغربيا مقبولا في مجال التربية، رابعاً: أن تكون "بيداغوجيا المهارات النقدية" اجرائيا مدخلا جديدا لترسيخ مفهوم مواطنة ملتزمة بما يخدم البلاد ويحقق أمنها واستقرارها، خامساً: تحسيس كل المعنيين بالشأن التربوي كذا شركاء مدرسة التحدّي بأهمية هذا النموذج البيداغوجي كنتاج بطبيعة مغربية، وبضرورة الثقة في مشاريع وطنية رامية لتعزيز الذات وتحقيق الوحدة، وفي البحث العلمي التربوي النظري والتطبيقي الوطني لإيجاد حلول ملائمة قضايا اعتمادا على الذات، سادساً: تنشئة المتعلمين مرتفقي مدرسة التحدي على مهارة التنمية الذاتية من تكوين ذاتي مستمر وتعلُّم مدى الحياة، والذي أعادت صياغته لجنة "جاك ديلون" وبات بأربعة دعائم أساسية أولها التعلم للمعرفة، وثانيها التعلم للشغل، وثالثها التعلم للعيش بسلام مع آخرين، ورابعها التعلم لنكون، ما يبين أن بيداغوجيا المهارات النقدية هي امتداد خالص للهوتاغوجيا. ولعل تحقيق الأهداف مجتمعة- يقول المؤلف- رهين بأمرين أساسيين: أولا: فهم السياق الذي ظهرت فيه مدرسة التحدّي وفرِض فيه تجديد المقاربة البيداغوجية، يرتبط بفهم السياق الاقتصادي العالمي الذي فرضت فيه المقاربة بالكفايات وبيداغوجيا الإدماج والأسباب التي أجبرت الحكومة على إلغاء العمل بها. وأنه دون فهم حقيقي للموضوع ضمن جوانب اقتصادية واجتماعية وثقافية بناء على مضامين اتفاقيات المنظمة العالمية للتجارة وصندوق النقد الدولي واتفاقيات الأممالمتحدة (اليونيسكو، واليونيسف)، لا يمكن فهم أحكام ميثاق وطني للتربية والتكوين، ومضامين قانون اطار17.51، ولا أهمية مشروع "ثانوية التحدي" الذي تموله وتشرف عليه"وكالة حساب تحدي الألفية- المغرب" ما يعيق مشاريع ومبادرات اصلاحية حية، ثانيا: كون ما أحيط ببيداغوجيا الكفايات من نقد لا ينبغي أن يحجب حقيقة عدم قدرة هذا النموذج على تأهيل النموذج الاقتصادي الذي اعتمده المغرب منذ حصوله على الاستقلال، وتحقيق مطمح البلاد في التحول الى دولة صاعدة، وهو ما يتطلب اعتماد نموذج بيداغوجي جديد قادر على تجاوز ما توجد عليه المدرسة من اكراه وتحدي، وهو ما يطرحه المؤلف وما يقوم على قاعدتين: أولهما توظيف الاستفهام في التعلم قصد صقل الحس النقدي لدى المتعلمين، وهو ما دعا إليه جلالة الملك في خطاب 30 يوليوز 2012، وثانيهما قلب الأدوار عبر فصل دراسي معكوس وهو محور مقاربة تربوية جديدة تعرف في الولاياتالمتحدةالأمريكية وكندا وأوروبا ب l'approche inversée أو la pédagogie inversée ou renversée، والتي طورها المؤلف في مؤلفه تحت اسم بيداغوجيا قلب الأدوار أو البيداغوجيا العكسية، والتي تفيد إجرائيا أن ما كان يتم تقليديا في الفصل أصبح ينجز في المنزل وما كان يتم تقليديا في المنزل أصبح ينجز في الفصل. ما كان وراء قلب الهندسة التقليدية في التربية والانتقال من الصيغة التقليدية المعروفة ب "العملية التعليمية التعلمية"، إلى صيغة جديدة هي "العملية التّعلُّمية التعليمية"، فالصيغة التقليدية الأولى كانت تُعطى فيها الأولوية للأستاذ على المتعلم [مفهوم دوركايم للتربية]، فيما الأولية في الطريقة الجديدة تعطى للمتعلم [التّعلّم] وهي ميزة بيداغوجيا المهارات النقدية، مع أهمية الاشارة لِما هناك من رغبة رسمية في جعلها بديلا لبيداغوجيا الادماج التي تم الغاءها قبل عدة سنوات. أمر طبيعي ختاماً ما قد يثيره مشروع "بيداغوجيا المهارات النقدية" من نقاش وتباين رأي وردود فعل، علما أن أي رهان بيداغوجي ليس أبداً حلاً سحرياً لتجاوز اختلالات بقدر واسع من الامتداد، بالمقابل هناك بحث مستمر ودراسات ومقاربات من شأنها إحداث تغيير ومساهمة في تطوير عملية تعلمية تعليمية ما وعقلنتها. وغير خاف أن ما تعاني منه منظومة البلاد التربوية لا شك يخص خيارها البيداغوجي، كاطار موجه لسيرورات تعلمية تعليمية يحتوي طرائق ومناهج ووسائل وتقنيات ومفاهيم ونظريات، ولعله رهان حاسم في نجاح أية منظومة تربوية تعليمية الى جانب ما هناك من مكونات أخرى مكملة. وليس سهلا بناء نموذج بيداغوجي فلابد من اعتبارات عدة ذات علاقة تجمع بين ما هو سسيو ثقافي واقتصادي، بل من المفيد ما ينبغي من نظر في سبل أجرأة هذا النموذج أو ذاك على أساس ما هو كائن من امكانات ونظم ونسق ومؤسسات. يبقى مشروع "بيداغوجيا المهارات النقدية" للباحث عبد الكريم جلام، بشجاعة أدبية ورؤية منفتحة على ما هو معرفي من حقول، بكيفية خاصة ما هو تربية كآلية لتطور المجتمعات وتحقيق طموحاتها في زمن يحكمه اقتصاد معرفة. ولا شك أنه بقدر ما ليس سهلا أجرأة مشروع بيداغوجي واستثماره في سياقات مغايرة فضلاً عما هو بحاجة اليه من نظر دقيق ونقد بناء، بقدر ما بلادنا بحاجة لنموذج بيداغوجي رافع لمنظومتها التربوية وأكثر انسجاما مع واقع حال، لعله ما توزع على محاور مؤلف "بيداغوجيا المهارات النقدية" مقاربة تربوية لتحدي صعوبات تعلُّم وإكراهات منافسة باستعمال استفهام وقلب أدوار.