يبدو أن الصحافة المغربية، في حاجة ماسة اليوم قبل الغد الى مشروع "مارشال"، وأيضا " غلاسنوست"، لإنقاذ الإعلام، مما يعانيه من "موت سريري"، أخفقت لحد الآن كافة حقن الدعم ، من إصلاحه وإنقاذ ما تبقى منه. وإذا كان مخطط مارشال الأمريكي المعلن سنة 1947، بهدف إعادة إعمار أوروبا في أعقاب الحرب العالمية الثانية، والغلاسنوست ( الشفافية والانفتاح ) التي أطلقها ميخائيل غورباتشوف رئيس الاتحاد السوفياتي المنحل في منتصف ثمانينات القرن الماضي لتخفيف الرقابة وإعطاء حرية أكبر للصحافة وفي الحصول على المعلومات، فإن وسائل الاعلام التي لم تصلها بعد رياح الإصلاح والتغيير، تتطلب مشروعين من هذا القبيل، لجعل السلطة الرابعة، سلطة حقيقية مستقلة، تمارس مهامها بمهنية، كسلطة رقابة، عوض أن تظل " بوقا للسلطة" كما جاء مؤخرا على لسان أحد الصحافيين المغاربة المخضرمين ووزير سابق ما بين 1998و2007. لقد أصبح إذن مطلوبا أن يعي الجميع بمحورية الاعلام والاتصال في السياسات العمومية، اعتبارا لما أضحى يتمتع به من مكانة قصوى، نتيجة التطور التكنولوجي، الذي أرخى بظلاله على مختلف مناحي الحياة. فمنذ سنة 2017، تعهدت الحكومة في "مخطط تنفيذي" لمدة أربع سنوات، بالرفع من حجم الدعم الممنوح للصحافة المكتوبة، لمساعدتها على التحديات التي تواجهها خاصة ما يتعلق بالزحف التكنولوجي، وسرعة انتشار الخبر الإلكتروني، ووسائل التواصل الاجتماعي، وضعف نسب المقروئية وهشاشة النموذج الاقتصادي للمقاولة الصحفية، مع مواكبة تطور قطاع الصحافة الإلكترونية والمكتوبة وصيانة استقلاليته وتعدديته ودعم المقاولات الصحفية وتعزيز نموذجها الاقتصادي وتأهيلها وتعزيز احترافيتها . ويعزى هذا الضغط، للحاجة المتزايدة للمقاولات الصحفية للدعم لمواجهة التحديات التي تعرقل مسارها و تكاد تؤثر على استمراريتها، وليس أقلها تراجع الموارد الإشهارية وتحكم الشركات العملاقة للأنترنيت في أسعار هذه السوق، فضلا عن تراجع المقروئية الذي تفاقم بفعل انتشار الصحافة الإلكترونية. فالمطلوب في المرحلة الراهنة، فتح نقاش عمومي، مجتمعي من أجل اقناع الصحف ب"التخلص من عقلية الورق" عوض الاقتصار على المطالبة فقط بالرفع من الغلاف المالي المخصص للدعم الذي لا تصرفه بعض المقاولات في المجالات المخصصة له – حسب ما ترصده الهيئات المهنية في تقاريرها- وذلك للإبقاء على "صناعة وإن كانت " تعيش على أنقاض مهنة، انتهت كشكل"، ولكنها يمكن أن تبقى وتصمد كمهنة، في ظل المنافسة الشرسة لما يسمى بالبدائل الاليكترونية. ويلاحظ أن غالبية المخططات التي تم إقرارها منذ الاستقلال، لم تولى الاهتمام الكافي لقضية الاعلام والاتصال، آخرها مشروع النموذج التنموي الجديد الذي اقتصر في التقرير المقدم للعاهل المغربي، على الإشارة في أسطر قليلة الى قضية الاعلام حينما قصر دور الاعلام " كأداة للإخبار والنقاش العام، وتحيين السياسة العمومية للاتصال من أجل تحديد نطاق المرفق العام لوسائل الاعلام، وتحديد الحكامة وطرق التمويل التي يجب أن تسمح باعتماد نموذج اقتصادي، تتوفر له فرص الاستمرار"، فضلا كونه " يشكل إطارا فعالا للتعاون مع الحكومة واستقلالية التسيير، ومواكبة تحوله الرقمي، والتحفيز على الابتكار والجودة مع تقوية العرض الإعلامي الجهوي.." إنه كلام عام عن قطاع أضحى معادلة لا يمكن تجاوزها في أي تطور مجتمعي. فإلى جانب الاسباب الموضوعية ومنها لتلك المرتبطة بالثورة الرقمية، والتي أدت الى تراجع مستوى روجان الصحف الورقية بالمغرب، كما هو شأن سائر بلدان المعمور، فإن هناك أسبابا ذاتية لهذا الانحسار منه، منه على سبيل المثال لا الحصر، فشل جزء كبير من الصحافة المغربية، في المحافظة لدى الرأي العام على مصداقيتها واستقلاليتها، ومنهيتها، وتراجع وظيفتها، كسلطة مستقلة مضادة، والالتزام بمبادئ أخلاقيات المهنة، كما هي متعارف عليها دوليا. لقد كان حريا بالحكومة أن تعيد النظر في الطريقة التي يقدم بها حاليا الدعم للصحافة، وذلك ببذل جهد من أجل ضمان حرية التعبير وفي مقدمتها حرية الصحافة، وتحديث ترسانة قوانين مهن الاعلام وتفعيل الحق في الحصول على المعلومات. فوسائل اعلام اليوم، ليست هي وسائل اعلام الأمس، ولن تكون حتما ذاتها وسائل إعلام الغد، مما يتطلب الاستجابة الى المتطلبات الجديدة للقراء ولمتطلبات الرأي العام، بمهنية، مع استيعاب التقنيات الحديثة ، فكما يقال ان " موت أسلوب، في سبيل ولادة اسلوب جديد، ليس موتا". كما أن الأمر يتطلب أيضا، الأخذ بعين الاعتبار التطورات التكنولوجية والتقنيات الرقمية، التي أثرت بشكل كبير على كافة القطاعات والأنشطة، وساهمت كذلك في تغيير عاداتنا وعلاقاتنا بالإعلام والاتصال، مع التأثير في معرفتنا ومداركنا وفي حياتنا المهنية، وطرق ترفيهنا كذلك. كما أصبحت تلك وسائل الاعلام تمس الحميمية والهوية الشخصية، وتغير من محيط علائقنا الاجتماعية. فمنذ أواسط التسعينات، غيرت الإنترنيت بعمق أداء وسائل الاعلام التقليدية، وكذلك الأسلوب الذي يجرى به إخبار الجمهور خاصة مع ظهور فاعلين جدد في بلورة انتشار المعلومة الإخبارية، وهو ما نتج عنه، تغيير واسع في مجمل البيئة الإعلامية، وأضحت الدعامات التكنولوجية ليس فقط في متناول الصحفيين والاعلامين، ولكن لدى الجمهور أيضا، نتيجة تنوع مصادر ووسائل الاعلام، ولا تقتصر – كما كان الشأن في السابق – على الاعلام التقليدي ( وكالات الأنباء، والصحافة المكتوبة، والإذاعة والتلفزيون ). بيد أن التكنولوجيات الرقمية، لا تختزل في أدوات التحرر، بل إنها تشمل أيضا الاشكال المتجددة لتوجيه الأفراد واستهدافهم والرصد الواسع النطاق لأفعالنا وتحركاتنا على الشبكة العنكبوتية، يمتد إلى ما وراء المنطق الاقتصادي والمالي، ويلمس أيضا، التصرفات السياسية. كما انه يقود إلى ممارسات تجسس متطورة جدا، والسيطرة على الأقل في إثارة للقلق التي تتحدى الرؤى المثالية لمجتمع يدعى " الرقمي" حسب الفرنسي ريمي ريفل مؤلف كتاب " الثورة الرقمية ثورة ثقافية" الذي خلص فيه الى القول بأن التكنولوجيات الرقمية، مجرد انعكاس للاستعمال الذي يقوم به المرء، وبالتالي لا يمكن أن تحلل بمعزل عن الفاعلين الذين يمتلكونها، على الرغم من أن هذه التقنيات الحديثة، لم تضع حدا لعدم المساواة فيما يتعلق بالاستعمال، ولم تخف من سوء التفاهم بين البشر، كما لم تقلص بتاتا من النزاعات، ولكنها وفرت بالمقابل، ولوجا " عادلا"، غير محدود الى المعارف، ورفعت من القدرة على التبادل والمشاركة، فهي تحاول إذن- بشكل ما- تغيير تصورنا للعالم. ومع ذلك تظل الصحافة فن الممكن، وهو ما يجعل ممارستها، تتطلب فضلا عن الكفاءة المهنية، قدرا كبيرا من التكيف مع شروط الواقع السياسي والاجتماعي والثقافي والاقتصادي، لكن بدون أن يصبح هذا التكيف تنفيذا لإملاءات أو خضوعا لما يتعارض مع حقائق الأشياء، خاصة وأن الصحف والمجلات والمحطات التلفزيونية والإذاعية والمواقع الالكترونية وشبكة الإنترنت، لم تعد مجرد وسائط لنقل المعلومات والمعطيات الوقائع، وإنما أضحت من أبرز العوامل المؤثرة في تحديد اختيارات وقناعات الأفراد والجماعات، وتمثلاتهم لما يحيط بهم، وتشكيل الرأي العام وتوجيهه، فضلا على أن تنمية وسائل الإعلام، التي هي في الأصل جزء من البناء الاجتماعي، يساهم بشكل حاسم ولا رجعة فيه في عمليات التطور الاجتماعي والاقتصادي والسياسي.