هل الوقف مسألة دينية تنظمها أحكام فقهية فقط أم أنه أيضا مسألة إدارة وكفاءة في التدبير، ومساطر قانونية وعقود واستثمارات عقارية، وصفقات ومناقصات وميزانية لها موارد ونفقات، وبالتالي مسألة شفافية وحكامة ومراقبة. لماذا في حكومات المغرب الحديث، ارتبط الإشراف على الأوقاف (أو الأحباس) وممتلكاتها بالشؤون الإسلامية التي تشمل رعاية المساجد ومراقبة هلال رمضان والعيدين وتنظيم مسابقات تجويد القرآن وتأطير موسم الحج ؟ إن تدبير مالية الأوقاف وممتلكاتها أمر يكتنفه بعض الغموض ولا يحرص المشرفون عليه أن يحتل مساحة كافية من الفضاء العام والنقاش الإعلامي خاصة منذ أن تسريت إلى الصحافة سنة 2007 فضيحة تفويت بقعة أرضية من أملاك الأوقاف بالمدار السياحي لمدينة تارودانت إلى منير الماجيدي الكاتب الخاص للملك بثمن زهيد ودون طلب عروض (البقعة تبلغ مساحتها 40.376 مترا مربع اقتناها الماجيدي بثمن 50 درهما للمتر بينما سعرها في السوق أنذاك قيل إنه كان يتراوح بين 700 و1000 درهم، وكانت موضوع نقاش في البرلمان). أما عن حجم هذه الممتلكات، فقد سبق لوزير الأوقاف أن تحدث في حوار مع جريدة لوماتان المغربية بتاريخ 30 يونو 2010 عن 200.000 هكتار من الأراضي و46.000 محل تجاري دون ذكر المساكن والعمارات. سنحاول بسط بعض المعطيات عن الموضوع وإثارة تساؤلات حولها. 1. في بلد يفتخر كثير من المسؤولين العموميين فيه بوجود مؤسسة دستورية اسمها المجلس الأعلى للحسابات، نجد أن هذا المجلس لم يقم أبدا بافتحاص مديرية الأوقاف التابعة لوزارة الأوقاف التي تقوم بتسيير الأملاك الوقفية من عقارات ومتاجر وأراضي فلاحية ومقالع. هناك جهاز رقابي آخر هو المفتشية العامة للمالية، هل قام يوما بزيارة مديرية الأوقاف؟ 2. في سنة 2010 صدرت مدونة الأوقاف (ظهير رقم 1.09.236 بتاريخ 23 فبراير 2010 الجريدة الرسمية عدد 5847 بتاريخ 14 يونيو 2010) وتم بموجب هذه المدونة و خاصة المادة 157 إحداث هيأة جديدة سميت "المجلس الأعلى لمراقبة مالية الأوقاف العامة". إلا أن المدونة لم تنص صراحة على أنه تمت سحب صلاحية المراقبة من المجلس الأعلى للحسابات، فما الجدوى من هذه الازدواجية وهذا التكاثر في المؤسسات ؟ 3. يتناول الدستور الجديد في فصله 41 مفهوم إمارة المؤمنين ثم يتحدث عن مؤسسة واحدة تعنى بالحقل الديني هي المجلس العلمي الأعلى الذي يخول له الدستور مهمة إصدار الفتاوى الرسمية، كما يتحدث نفس الفصل عن الصلاحيات الدينية دون أية إشارة للمجلس الأعلى لمراقبة مالية الأوقاف العامة، فهل تعزِّز هذه الصياغة فكرة كون هذا الأخير له مهمة تدبيرية وليست دينية ؟ 4. خصص الدستور الجديد الباب العاشر للمجلس الأعلى للحسابات - الفصول 147 إلى 150- حيث يقول: "المجلس الأعلى للحسابات هو الهيأة العليا لمراقبة المالية العمومية بالمملكة ويضمن الدستور استقلاله". نلاحظ أن الدستور استعمل صيغة المعرف بالألف واللام عندما قال هو الهيأة ولم يقل هو هيأة أي من بين هيئات أخرى. لقد أسند الدستور لهذا المجلس مهمة "تدعيم وحماية مبادئ وقيم الحكامة الجيدة والشفافية والمحاسبة بالنسبة للدولة والأجهزة العمومية". القراءة البسيطة تفيد أنه ليس هناك ما يحصِّن إدارة الأوقاف من الخضوع لافتحاص المجلس الأعلى للحسابات. كما نص الدستور على أن المجلس الأعلى للحسابات ينشر جميع أعماله بما فيها التقارير الخاصة والمقررات القضائية. على العموم فإن التقارير السنوية للمجلس تظهر خبرة تراكمية لدى قضاة هذه المؤسسة. 5. من جهة أخرى أفرد الدستور الجديد بابه الثاني عشر الممتد من الفصل 154 إلى الفصل 171 للحكامة الجيدة فنص على كون "المرافق العمومية تخضع لمعايير الجودة والشفافية والمحاسبة والمسؤولية وتخضع في تسييرها للمبادئ والقيم الديمقراطية التي أقرها الدستور". أليست إدارة الأوقاف من المرافق العمومية؟ ثم تناولت فصول هذا الباب المخصص للحكامة لائحة الأجهزة المعنية وهي على التوالي : - المجلس الوطني لحقوق الإنسان - الوسيط - مجلس الجالية المغربية بالخارج - هيأة المناصفة ومحاربة جميع أشكال التميز - الهيأة العليا للاتصال السمعي البصري - مجلس المنافسة - الهيأة الوطنية للنزاهة والوقاية من الرشوة - المجلس الأعلى للتربية والتكوين والبحث العلمي - المجلس الاستشاري للأسرة والطفولة - المجلي الاستشاري للشباب و العمل الجمعوي هنا أيضا لا نجد أثرا ولا إشارة للمجلس الأعلى لرقابة مالية الأوقاف العامة. ما سبب هذا الغياب؟ ألا تستحق الأوقاف ومالية الأوقاف سطرا من الدستور؟ 6. نعود إلى مدونة الأوقاف فنقرأ في المقدمة أنها "تجمع الأحكام الفقهية المتناثرة للوقف وتحسم التضارب في أموره المختلفة وتعيد تنظيم أحكامه القانونية شكلا ومضمونا بما يضمن تقييدها بأحكام الفقه الإسلامي ويضفي عليها طابعا عصريا متميزا" كما تشير المدونة لكونها تزود الوقف " بوسائل قانونية حديثة تضمن له الحماية الناجعة وبنظم تدبيرية تيسر حسن استغلاله والاستفادة منه وبطرق استثمارية تمكنه من المساهمة في مشاريع التنمية الاقتصادية والاجتماعية..." ورغم أن من بين المهام التي أوكلتها المدونة لهذا المجلس نجد اقتراح الإجراءات الهادفة إلى ضمان حسن تدبيره مالية الأوقاف وفق مبادئ الشفافية والحكامة الرشيدة، والقيام بافتحاص سنوي لوضعية التدبير المالي للأوقاف العامة وإعداد تقرير سنوي يقدم للملك وتبعث منه نسخة لوزير الأوقاف، رغم ذلك فإن المدونة لا تلزِم المجلس بنشر هذا التقرير، فأين هي الشفافية ؟ 7. أما تركيبة المجلس حسب المادة 158 من المدونة فهناك الرئيس، والكاتب العام، وممثل عن المجلس العلمي الأعلى، وشخصية علمية من الفقهاء الذين لهم دراية واسعة بشؤون الوقف، وقاض له صفة رئيس غرفة بالمجلس الأعلى للحسابات، ومستشار قانوني خبير في مجال الوقف، وخبير محاسب مقيد بهيئة الخبراء المحاسبين، وثلاثة خبراء من الشخصيات المشهود بكفاءتها في مجال التدبير الإداري والمالي. لكن اللافت للنظر أن كل الأعضاء يُعيَّنون بظهير، دون أن تتضمن المدونة آليات للاقتراح ولا تحديدا للمدة الزمنية ولا انفتاحا على هيئات المجتمع المدني المهتمة بالحكامة والشفافية وحماية المال العام، مما يترك قرار اختيار الأعضاء محتكَرا من طرف القصر بشكل شامل وشمولي. الغريب أن عضو المجلس الأعلى للحسابات بمجلس مراقبة مالية الأوقاف هو نفسه رئيس الغرفة المكلفة بمراقبة مالية وزارة الأوقاف، فكيف يُنتظر من رئيس الغرفة المندرجة تحت رقابتها وزارة الأوقاف أن يقوم ببرمجة هذه الوزارة في برنامج الرقابة السنوي بينما هو عضو في المجلس الأعلى لمراقبة مالية الأوقاف... أي هل سيراقب نفسه أم سيراقب الأوقاف مرتين ؟ أم إن المغرب في حاجة أيضا إلى مجلس أعلى للمصداقية ومحاربة العبث... 8. ماذا أنجز هذا المجلس منذ سنة 2010؟ لقد سبق لجريدة التجديد أن نشرت على موقعها الرقمي بتاريخ 11 ماي 2012 أن أحمد رمزي رئيس المجلس الأعلى لمراقبة مالية الأوقاف العامة انتقل سنة 2011 رفقة فريقه إلى بناية المقر المخصص له كما قام بتعاون مع وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، بيوم تحسيسي لنظار الأوقاف من أجل التعريف بالمجلس واختصاصاته. وخلال نفس الفترة التي يمكن تسميتها ب "التأسيسية" عقد المجلس العديد من الاجتماعات من أجل دراسة وإعداد القرارات والنصوص سواء تلك التي كلف بإعدادها أو التي أحيلت عليه من طرف الوزارة لإبداء الرأي، كالتنظيم المالي والمحاسبي ومصنفة الميزانية السنوية الخاصة بالأوقاف العامة ومشروع النظام الخاص بصفقات الأوقاف العامة. كما توصل المجلس بمشروع قرار لوزير الأوقاف يتعلق بتحديد شكل سندات الوقف وكيفية إصدارها وطريقة الاكتتاب فيها، وكذا كيفية جمع التبرعات النقدية والعينية لإقامة مشاريع وقفية ذات صبغة دينية أو علمية أو اجتماعية. لكن نفس الجريدة أفادت على موقعها الرقمي بتاريخ 19 دجنبر 2012 أن وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية تقول إن المجلس الأعلى لمراقبة مالية الأوقاف العامة، شرع خلال هذا العام، بمزاولة الأنشطة التي أسندت إليه حسب مدونة الأوقاف من كونه هيئة مستقلة تتولى الرقابة والإرشاد والتوجيه، وتعزيز الرقابة الداخلية بإحداث مراقبين محليين على مستوى كل نظارة للأوقاف، يشرف عليهم مراقب مالي مركزي. لكن واقع الحال، حسب الجريدة دائما، يبين أن المجلس لم يبدأ عمله في المراقبة المالية وما زال عمله منحصرا في إعداد القوانين التنظيمية في الوقت الذي يقول فيه البعض إن هناك من يعرقل عمل المجلس وانطلاق تدبيره المالي للأوقاف بالنظر لاستفادتهم من الوضع الحالي. وللرفع من مستوى أداء هذا المجلس، تم إيفاد بعض أعضاء المجلس للاستفادة من الدورة التكوينية التي نظمها المعهد الدولي للوقف الإسلامي بماليزيا. لكن يوما واحدا بعد ذلك أعلنت وكالة المغرب العربي للأنباء يوم الخميس 20 دجنبر 2012 أنه انتقل إلى عفو الله بالرباط أحمد رمزي٬ رئيس المجلس الأعلى لمراقبة مالية الأوقاف العامة. من الذي سيخلف الراحل رمزي؟ ومن سيعين من سيخلفه؟ هل سيُعينه الملك وفقا لمدونة الأوقاف وضدا على الدستور الجديد الذي لم يتضمن هذا المنصب من بين المناصب التي يدخل تعيين من يشغلها ضمن اختصاصات الملك ؟ نطرح هذه التساؤلات عسى أن يتفضل أهل الاختصاص بتسليط المزيد من الضوء على الموضوع.