لقد أصبحت الديمقراطية في عالم اليوم، تشكل الجواب الشافي بل الوحيد على سؤال التداول السلمي على السلطة، وذلك من خلال تنظيم انتخابات دورية ونزيهة، حيث تشكل نزاهة الانتخابات هكذا شرطا أساسيا لقيام ديمقراطية فعلية. وتعني النزاهة من بين ما تعنيه، ضمان تمتع جميع المتنافسين في العمليات الانتخابية بنفس الحقوق والالتزام بنفس الواجبات، هكذا هي ببساطة، صورة من صور المساواة بين المتنافسين في هذه العمليات التنافسية، ما يفرض الاحتكام إلى مجموعة من الشروط والمعايير والقواعد المتعارف عليها، والتي يمكن أن يعرف بعضها اختلافا على مستوى تفعيلها وكيفية تحقيق الالتزام بها انطلاقا من اختلاف الأنظمة السياسية والنظم الحزبية، وهو ما يجعل سؤال نزاهة الانتخابات مرتبط بالأساس بمخرجاتها، وليس بطرق وآليات إداراتها وتنظيمها، ما دامت تحترم مجموع المعايير المتعارف عليها. فليس من السليم أبدا، ربط نزاهة الانتخابات بضرورة الالتزام بمعايير النزاهة في صورة واحدة ووحيدة لهذا الالتزام، كربط نزاهة العمليات الانتخابية مثلا بوجود هيئة إشراف مستقلة، أو هيئة إشراف جماعية تضم ممثلين عن القوى السياسية المتنافسة في هذه العمليات، ذلك أن هناك تجارب ديمقراطية عريقة، تضطلع الحكومة فيها بمهمة الإشراف، خصوصا أنه كما يستحيل الحديث عن نظام ديمقراطي نموذجي، حيث أنه لا وجود لنظام ديمقراطي مكتمل، من المستحيل الحديث عن منظومة انتخابية نموذجية، لكون أساس نزاهة الانتخابات هو ضمان تكافؤ حظوظ وفرص المتنافسين في الفوز بها. لقد شكلت انتخابات 2002 التي نظمت في عهد حكومة التناوب التوافقي، نقطة انعطاف حقيقية في مسار مسلسل نزاهة الانتخابات المغربية، وهو المسلسل الذي لا تزال حلقاته مستمرة، والذي توج اليوم بإقرار إطار قانوني من المأمول أن يضمن عدالة العمليات الانتخابية المقبلة، أي ضمان تناسب مكاسب المتنافسين فيها مع حجم الأصوات التي حصلوا عليها، على خلاف مخرجات الانتخابات السابقة، لكن كل هذه المجهودات المبذولة من أجل ضمان نزاهة الانتخابات في المغرب، تصطدم بمجوعة من العوائق، أهمها استعمال المال من أجل التأثير على سلوك الناخبين واستمالة أصواتهم، وهو ما يضرب في العمق شرط تكافؤ فرص المتنافسين في العمليات الانتخابية، وما يأثر بشكل مباشر على نزاهتها. وفي هذا السياق، من الضروري التنبيه، وكما سبق للأستاذ إدريس لشكر الكاتب الأول للاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، أن أشار في أحد تصريحاته، أن خطابا مغلوطا يثار بخصوص التنديد باستعمال المال في العمليات الانتخابية، حيث يذهب أغلب الفاعلين والباحثين والمتتبعين، إلى التأكيد على إفساد المال الحرام للعمليات الانتخابية، وكأن المال الحلال لا يفسدها، في حين أن الصواب هو كون استعمال المال حلال كان أم حراما يفسد العمليات الانتخابية، إن هو استعمل خارج ما يتيحه ويسمح به القانون. هكذا فإن ضمان نزاهة الانتخابات المقبلة، مرتبط بشكل مباشر بالحد من استعمال المال فيها، وهذه مسؤولية جماعية ومشتركة بين الحكومة والأحزاب السياسية المتنافسة، والناخبين على اعتبار أنهم العنصر الحاسم والمحدد فيها، وإلا انتفت الغاية من إقرار نمط الاقتراع باللائحة، والتي تمثلت في تعزيز حضور الأحزاب السياسية، والحد من سطوة الأعيان ومن الاستعانة بخزان المرشحين الاحتياطيين من أجل التحكم في مخرجات العمليات الانتخابية. الأكيد، أن هناك علاقة وطيدة بين المال والسياسية، وبالتالي بينه وبين الديمقراطية، حيث لا يمكن تصور تأهيل نموذج ديمقراطي ما من دون استثمار الموارد المالية، لكن الاستثمار المقصود هنا، هو الاستثمار الإيجابي الذي يكون هدفه تجويد الممارسة السياسية وتطوير الآليات الديمقراطية، والذي يضمن استمرار حضور وأنشطة الأحزاب السياسية، وحسن تنظيم العمليات الانتخابية، وليس ذلك الاستثمار الذي يفسدها ويؤثر في مخرجاتها، من خلال التأثير على إرادة الناخبين، وبالتالي التأثير على نزاهة الانتخابات وعلى نجاعة الديمقراطية. إن الاستمرار في استعمال المال في العمليات الانتخابية، على صورة رشاوي نقدية مباشرة، أو عينية غير مباشرة، أي تلك التي يسميها البعض الأفعال الإحسانية، سيجعل من هذه العمليات كما سيجعل من الممارسة السياسية مجالا للاستثمار وللمضاربة، بما يعنيه الاستثمار من عمليات تحويل الرأسمال المالي إلى وسائل إنتاج مختلفة من أجل تحقيق الإنتاج، وبالتالي تحقيق الربح، حيث ستصبح الانتخابات كما السياسة "بورصة"، والأحزاب السياسية "شركات"، والديمقراطية مجرد قواعد وأدبيات تنظم التنافس بين "المستثمرين السياسيين".