المال العام في نظر فقهاء الشريعة، وفقهاء القانون، هو كل ما تعود ملكيته للأمة، سواء كان نقدا أو عقارا أو وسائل نقل أو أدوات، ليس من حق الأشخاص الذاتيين أو المعنويين التصرف فيه بيعا أو استغلالا لأغراض شخصية، فهو أمانة في عنق أولى الأمر من المسؤولين الذين يتولون تدبيره نيابة عن الأمة وباسمها ولفائدتها. لأجل ذلك تعتبر قواميس اللغة ومعاجمها، الفساد المالي، هو الاعتداء على المال العام نهبا أو اختلاسا باستغلال النفوذ أو الزبونية وباستعمال وسائل وطرق خارج القانون، فالمال مارد جبار تخضع له الرقاب وتنجذب إليه النفوس، يبعث على الخيانة والكذب والسرقة والتزلف والنفاق، وأثره واضح وبين في السياسات، فهو عنوان الضعف والقوة، وسلاح الصمود والتقهقر في نفس الآن. في نظر العديد من الباحثين والخبراء، إن الفساد المالي، كالفساد الإداري والفساد السياسي، ينتمي إلى عائلة واحدة، هي التي تصادر السلطة ومصادرة الحريات وتفسد الانتخابات وتغيب الرقابة وتلغي دور المجتمع المدني، وهي الأسرة القائمة على إشاعة ثقافة الفساد في مؤسسات المال العام، وكافة المؤسسات الاقتصادية. والفساد المالي صفة تنتمي إلى منظومة واسعة وشاسعة، تستقطب جيشا من المفسدين، الذين استعملوا سلطاتهم ومراكزهم ووظائفهم وقرابتهم للاغتناء اللامشروع، والكسب الحرام بالرشوة والسرقة والابتزاز والاستغلال، وبالحصول على القروض السخية والصفقات الوهمية. وقد كشف تقارير لجان تقضي الحقائق التي شكلها البرلمان المغربي (بمجلسيه/ النواب والمستشارين) سنة 1997، للبحث في بعض القضايا التي فلتت من التخفي والتكتم، عن هول هذه "المنظومة" وعن هول سيطرتها على الأموال العامة في العديد من المؤسسات والقطاعات، وكشفت أن المال المنهوب كان له أن يكون عنصرا أساسيا في التنمية والانتاج والعدالة الاجتماعية. والفساد المالي، ليس معضلة مغربية، فثمة اليوم جرثومة تنخر جسد "النظام الدولي الجديد" تدعى الفساد المالي... وقد أصبح هذا الفساد ظاهرة رائجة في المجتمع العالمي، ومتجدرة في حوالي مائة وسنتين (160) دولة، حسب تقارير المؤسسات المختصة في عالم الجريمة. وقد نظمت الهيئات الحقوقية والبنوك والصناديق الدولية، خلال العقدين الماضيين 1990-2010 العديد من المؤتمرات والندوات لمناقشة هذه الظاهرة على المستوى الأخلاقي والثقافي والحضاري بهدف التوصل إلى علاجات قابلة للتنفيذ، وإلى قوانين ونظم لازمة وقادرة على استئصال هذه الظاهرة من جذورها وتخليص النظام الاقتصادي من شرورها. وأظهرت الدراسات العلمية التي اعتنت بهذه الظاهرة، أن الفساد المالي لا يعم فقط الدول المتخلفة، ولكنه يشمل الكثير من الدول الصناعية والنامية... كما أظهرت أن الأوضاع الاقتصادية والسياسية والاجتماعية التي يمر بها العالم اليوم، وهو في قلب الألفية الثالثة، قد زادت أمر هذا الفساد تعقيدا، بسبب الفراغ المؤسساتي الذي نجم عن انهيار الاتحاد السوفياتي، وهو ما وفر بعض الفرص الجديدة لشبكات الفساد الإداري والجريمة المنظمة في العديد من دول الغرب وافريقيا وآسيا للانخراط في هذه المنظومة. وليس بعيدا عن الدراسات والمؤتمرات العلمية العالمية، التي اعتنت/ تعتني بالفساد المالي، هناك الواقع اليومي، الذي يعطي الدليل القاطع على التوسع المستمر لدائرة الفساد في عالم اليوم، حيث تجذب قوة المال رؤساء دول وحكومات ووزراء ومسؤولين على مستويات مختلفة، إلى السقوط في فخ الإغراء، حيث ضبط/ يضبط القانون كل لحظة مئات الملايين من الدولارات، التي تدخل حسابهم لقاء خيانة الوظيفة أو خيانة القانون. إذن... الفساد المالي، ليس قضية مغربية أو افريقية، فهي ظاهرة شائعة في العديد من دول الشمال والجنوب، ولكنها تحتل مكانة متقدمة في العالم السائر في طريق النمو/ المتخلف إذ تستغل طبقة المفسدين مواقعها بالسلطة أو بالمعارضة/ داخل الإدارة العمومية وخارجها، للقيام بانحرافات وسرقات للحصول على الامتيازات والأراضي والعقارات والصفقات والقروض الكبيرة، وهي سلوكات تتخذ مظهرا سياسيا في العديد من بلدان العالم المتخلف. وحسب ملاحظات الخبراء الدوليين حول هذه الظاهرة، فإن وضع الفساد المالي الممزوج بالسياسة، أبرز في العالم السائر في طريق النمو ظواهر جديدة تتصل بتبييض أموال الرشوة والصفقات، والأموال المسروقة والمهربة، وهو ما طبع العلاقات بين المؤسسات المالية بالعديد من هذه الدول والبنوك والمؤسسات المالية الدولية بعدم الثقة والإرتياب. والفساد المالي، كما يشكل أحد أهم العوامل المؤسسة للتخلف، يعتبر اساءة مطلقة للوظيفة العمومية واستعمالها للكسب الخاص، أو لمراكمة المكاسب ضدا في مصالح الدولة، أو لتضخيم الثروة الشخصية أو الاستفادة إلى أقصى حد من تأثير النفوذ المالي للبقاء في السلطة. والفساد المالي، ظاهرة خطيرة ومؤثرة، ابتلى بها المغرب في عهد احتكار السلطة التي طبعت الفاعلية السياسية والاقتصادية والاجتماعية على مدى فترة طويلة من الزمن المغربي، صنعت تحالفات متعددة متداخلة ومتشابكة، بين "شركاء السلطة" وشركاء المال والأعمال، بين الوسطاء والبيروقراطية الفاسدة، وهو ما صنع في النهاية "لوبي" إقطاعي اتخذ بتراكم السنين حجم الغول الذي أصاب الديمقراطية وحقوق الإنسان والمواطنة بخسائر فادحة لا تقدر بثمن. والفساد المالي، لم يوجد على الأرض المغربية بالصدفة، إنه نتيجة طبيعية وعادية لفساد متعدد الأسماء والصفات والانتماءات والأشكال، وجد مناخه المناسب في إدارة مريضة بالرشوة والمحسوبية واستغلال النفوذ، فتغلغل وتعمق في دواليبها، إلى أن جعل منها إدارة لمنظومته... الفساد المالي، في كل زمان ومكان، كان ولا يزال هو النواة الأساسية لمنظومة الفساد، التي تعم الإدارة والاقتصاد والسياسة والمجتمع، انطلاقا من المال... فهذا الأخير هو أرضية للرشوة وللزبونية ولاستغلال النفوذ وللفساد الانتخابي وللتهرب من الأداء الضريبي، وبالتي فالمال الحرام، هو مفتاح كل فساد في الأرض. وعلى أن ظهور "الفساد المالي" لا يعود لحقبة معينة من التاريخ، إلا أنه ارتبط في العقود المغربية الأخيرة بسلسلة من الظواهر السلبية، منها الفقر والأمية والبطالة والتهميش والجريمة المنظمة والعبث بحقوق الإنسان ومفاهيم دولة القانون، ففي فقرات غابرة من تاريخ المغرب، سيما قبل الفترة الإستعمارية (1912-1956) عانت البلاد من فساد مالي، تنوعت أساليبه وأشكاله ومآسية، وتنوعت مظالمه وفواجعه، حيث كان إعلان الحماية نتيجة طبيعية وحتمية لآثاره. والفساد المالي في تاريخنا الحديث، لم يكتف بالاعتداء على مال الدولة ومال الشعب، نهبا واختلاسا وابتزازا، ولكنه عمق ثقافة احتكار السلطة ومصادرة الحريات وفساد القيم والانتخابات، وغيب الرقابة وعمل على إلغاء دور المجتمع المدني داخل مؤسسات القرار السياسي ليبقى مستمرا، وبعيدا عن المساءلة. والفساد المالي، في تاريخنا الحديث كان ولا يزال هو العدو الأول والأساسي للتنمية وللديمقراطية، وحقوق الإنسان، ودولة الحق والقانون. إنه آلية حادة، تخترق الإنتخابات والقرارات السياسية والمؤسسات الإنمائية، وتحول الحكومات والبرلمانات والمحاكم إلى مؤسسات شكلية، كما تحول المجتمع إلى فضاء للعبث والمتاجرة. والفساد المالي في المغرب الحديث، لا يقتصر على تحويل إمكانات الدولة وأموالها ونفوذها للمصالح الخاصة بل يحول الدولة إلى أداة نهب الثروات وتراكمها في حسابات اللصوص والمقامرين، وإلى احتكار المناصب والزعامات والإنفراد بها، وبالتالي يتحول إلى أداة لتخريب للديمقراطية وقيمها وتحويلها إلى ديكتاتورية مقنعة. في العقود الأخيرة من تاريخ المغرب، تعاظم الفساد المالي، بعدما أصبحت ثقافة احتكار السلطة ومصادرة الحريات، واقعا قائما على الأرض، ففي أفق سبعينيات القرن الماضي، ظهرت بوادره الأولى، من خلال انفجار بعض ملفاته في العديد من المؤسسات والمقاولات، حيث تمت متابعة العديد من الوزراء والشخصيات النافذة، ولكن قبل طي هذه الملفات، اصطدم المغاربة ثانية (في أفق التسعينات) بمعطيات البنك الدولي حول كارثة الفساد المالي، ليتأكد الجميع أن سوسة هذا الفساد نخرت الإدارة والسلطة، وحولتها إلى مرتع للفساد المتعدد الصفات، في غفلة آليات المراقبة المتعددة. هكذا تحركت سلطة القضاء من جديد سنة 1996 ، لتكشف للشعب المغربي، أقنعة العديد من الأسماء البارزة، ولتنقل معظلة الفساد من الدائرة المظلمة إلى المشهد الإعلامي الوطني بالكثير من التفاصيل التي جعلت منها حدث "الزمن السياسي" وكشفت بالأدلة أسباب الخلل الذي أصاب لفترة طويلة من الزمن المغربي، خطط التنمية والاستقرار الاجتماعي، ومقتضيات الديمقراطية وحقوق الإنسان والمواطنة. ففي هذه السنة (1996) جرت محاكمات عديدة عن الأموال والعقارات والرشاوي والأراضي والامتيازات والقروض التي سيطر عليها المفسدون بأساليب الفساد المختلفة، وجعلت الرأي العام الوطني على بينة من "القوة التدميرية" التي دفعت بالمغرب إلى هوة الفقر العميقة والتي جعلت منه بلدا مهددا بالسكتة القلبية، على حافة الانهيار. وفي أفق الألفية الثالثة انفجرت ملفات الفساد المالي من جديد، (في حضور حكومة التناوب الأولى 1997-2001) بعدما دمر هذا الفساد العديد من المؤسسات العمومية وحولها إلى امبراطوريات خاصة أو شبه خاصة، ظلت زمنا طويلا خارج المراقبة والمساءلة، إذ كشفت المحاكمات وتقارير لجان التقصي البرلمانية، أن الفساد المالي صنع لنفسه منظومة/ طبقة جديدة كونت لنفسها نفوذا إداريا و أرصدة كبيرة وممتلكات واسعة واستثمارات ضخمة، بالوساطات والرشاوي والسرقات ونفخ الفواتير وتدليس الصفقات وغيرها من أفعال الاغتناء اللامشروع، وهي طبقة واسعة من هياكل الإدارة والسلطة، أعادت انتاج الفساد بكل أصنافه في القطاعات الحكومية والخاصة، ساهمت بشكل واضح في الأزمة الاقتصادية/ الاجتماعية/ السياسية التي وضعت البلاد على حافة الفقر والفاقة. قبل وصول حكومة التناوب إلى السلطة (سنة 1997) كانت هذه الطبقة قد احتلت مواقعها بمؤسسات المال والأعمال والخدمات، وحولت العديد منها إلى مؤسسات منهارة، غير قادرة على الاستمرار، بسبب ما أصابها من تسيب وفساد، وهو ما جعل حكومة التناوب وجها لوجه أمام الكارثة وهو ما جعلها تسلم الأمر إلى الخبراء لتحديد حجمها وحجم خسائرها، فبادرت منذ البداية (سنة 1998) بوضع العديد من المؤسسات الوطنية المالية والاجتماعية والمؤسسات الاقتصادية والمالية أمام مكاتب الخبرة (وطنية ودولية) للكشف عن الحقائق المتصلة بالتجاوزات والخروقات التي تعرضت لها هذه المؤسسات ولتقوم حجم الفساد المالي الذي تسببت فيه هذه التجاوزات. وقد مكنت تقارير مكاتب الخبرة حكومة التناوب، من وضع يدها على حقيقة ما تعرضت له المؤسسات المالية والصناعية من سرقات وتجاوزات واختلالات... وجعلتها أكثر قدرة على الدفع بملفات الفساد، مرة أخرى إلى القضاء وإدخال الفساد المالي مرة أخرى إلى "قفص الاتهام" من أوسع أبوابه. ونذكر أن "محكمة العدل الخاصة" (أعلنت الحكومة المغربية إلغاءها يوم 6 يناير 2004) استقبلت ما بين سنة 1998 (سنة وصول حكومة التناوب إلى السلطة) وسنة 2002 (سنة خروجها منها) حوالي مائتي (200) ملف تهم قضايا الفساد المالي، تتعلق غالبيتها ب"الجمارك/ المطاحن/ المطاعم المدرسية/ القرض الفلاحي/ القرض العقاري والسياحي/ وكالة المغرب العربي للأنباء/ كوماناف/ البنك الشعبي/ بنك الوفاء/ بنك الإنماء الاقتصادي/ الجماعات المحلية ..." وكلها ملفات تحبل بمئات الملايير من الدراهم، المسروقة والمنهوبة، التي ساهمت في تخريب الاقتصاد الوطني، وتكريس ظاهرتي الفقر والبطالة ووضعت المغرب على حافة الانهيار الاجتماعي. السؤال الذي يطرح نفسه اليوم بحدة: هل قرأت حكومة عبد الإله بنكيران هذا التاريخ؟ وهل تستطيع مواصلة الطريق التي فتحتها حكومة عبد الرحمن اليوسفي للكشف عن الفساد والمفسدين..؟ نضع السؤال، ولا ننتظر جوابا.