نظمت جماعة العدل والإحسان ندوة صحفية بسلا يوم 24 دجنبر 2012 للإعلان عن أسماء قيادتها الجديدة بعد وفاة مؤسس الجماعة المرحوم عبد السلام ياسين، حيث احتفظت الجماعة لهذا الأخير بلقب المرشد، وأصبح الأستاذ محمد عبادي هو الأمين العام، وهو منصب جديد، وأصبح الأستاذ فتح الله أرسلان نائبا للأمين العام. على العموم، لقد نجحت الجماعة في امتحان تدبير انتقال القيادة بسرعة و سلاسة، وحافظت على تماسكها، فلم تعصف بها أزمة ولم تنشطر إلى أطراف متناحرة على خلاف بعض الأحزاب التي تمر مؤتمراتها في جو يطبعه تقاذف التهم وتبادل الشتائم، وتغيب الأفكار والبرامج. إلا هذا النجاح لا يمنع من التوقف عند النقطة التالية: خلال الندوة تناول الكلمة الأمين العام الجديد فشكر الأعضاء - نساء ورجالا - الذين انتخبوه قائلا : " أتقدم بالشكر لإخوتي في مجلس الإرشاد ولإخوتي في مجلس الشورى ومن وراءهم من المؤمنين والمؤمنات على ثقتهم التي وضعوها في هذا العبد الضعيف حيث انتخبوه أمينا عاما لهذه الجماعة المباركة. هل أقول لستُ أهلا لهذا المقام؟ أنا كذلك، ولكن اعلموا أيها الأحباب، أن أدنى أخ أو أخت في هذه الجماعة يمكن أن يسيّر، ليس حركة، ولكن يمكن أن يسيّر دولة. لماذا ؟ لأن المواصفات الأساسية في التسيير متوفرة والحمد لله من الصدق والإخلاص وتحمل المسؤولية ونكران الذات، الأمور التدبيرية تُكتسب. في حين، وأتذكر هنا كلمة قرأتها للإمام المودودي رحمه الله أن أكبر رئيس دولة لا يصلح أن يكون بوابا للدولة التي ننشدها، لانعدام هذه الشروط الأساسية لتحمل المسؤولية من حفظ الأمانة ونكران الذات وتحمل المسؤولية والحرص على المصلحة العامة". أما الجزء الأول من هذا الكلام، فلعله من جهة من باب التواضع الشخصي، ومن جهة أخرى لأجل الثناء على أعضاء الجماعة الذين انتخبوه، والاعتزاز بالجهد التربوي الذي تقوم به الجماعة وبالأوصاف الأخلاقية التي يعتقد السيد عبادي أنها توفرها للمنتمين لها، وهي الصدق والإخلاص وتحمل المسؤولية ونكران الذات، مع شيء من المبالغة التي قد تطبع هذا النوع من الخطاب، علما أن الثناء على الذات، بما فيها الذات الجماعية، يجب أن يبقى في حدود معقولة عملا بالآية الكريمة : فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى (سورة النجم- 32). وعلى كل حال فهذه ملاحظة ثانوية. إلا أن الجزء الثاني، حيث استشهد بكلمة قرأها لأبي الأعلى المودودي، يطرح مسألة أعمق من الملاحظة السابقة، وهي تصوُّر الأمين العام الجديد للشروط الأساسية لتحمل المسؤولية، والتي يكاد يجعلها هذا النوع من الخطاب حكرا على صنف المؤمنين. فهل انعدم الصدق من بين الناس في العالم ؟ وهل أصبح الحرص على المصلحة العامة ماركة مسجلة لدى المسلمين أو فئة من المسلمين من دون غيرهم من أتباع الديانات السماوية – أو غير السماوية - الأخرى أو الملحدين ؟ ألا يتحمل رؤساء الدول الكبرى مسؤولياتهم أمام ناخبيهم وأمام الرأي العام الذي أوصلهم للقيادة ؟ هل كلهم لا يعرفون حفظ الأمانة، ونحن نرى ونسمع أخبار الوزراء ورؤساء الحكومة في الدول الغربية وإسرائيل أيضا يستقيلون من مناصبهم إن حامت حولهم شبهة من شبهات الفساد حتى قبل أن يثبتها القضاء وذلك احتراما للتعاقد مع مواطنيهم ؟ ألم يقدِم الوزير الأول الفرنسي السابق بيير بيريغوفوا على الانتحار لمجرد أن أصبحت نزاهته المالية موضع شكوك ؟ هل فشل الجينرال دوغول في إعادة بناء فرنسا وتشرشل في إعادة بناء بريطانيا بعد ما أنهكتهما الحرب العالمية الثانية ؟ بعبارة أخرى، هل الأخلاق الحميدة والأوصاف النبيلة مرتبطة بالضرورة بالالتزام الديني وجودا وعدما؟ علما أن الرسول الكريم عليه الصلاة والسلام قال "إنما بعثتُ لأتمِّم مكارم الأخلاق" ولم يقل أبدا إنما بعثتُ لكي أعَلّم الناس مكارم الأخلاق من البداية. لقد عرف التاريخ قبل الإسلام أمثلة راقية لمكارم الأخلاق ولو في وسط غير مؤمن، نذكر منها اثنين يدلان على أن ما يسمى الجاهلية لم تكن فقط ظلاما في ظلام. أولها قصة سفانة بنت حاتم الطائي، حيث تروي كتب التاريخ أنه أسرها المسلمون بعد غزوهم لبلاد طيء، ولما قدمت مع الأسرى إلى الرسول قالت له: "يا محمد ! إن رأيت أن تخلّي عنّي فلا تشمت بي أحياء العرب ؟! فإني ابنة سيّد قومي، وإن أبي كان يفكّ العاني، ويحمي الذمار، ويقري الضيف، ويشبع الجائع، ويفرّج عن المكروب، ويفشي السلام ويُطعم الطعام، ولم يردّ طالب حاجة قط، أنا ابنة حاتم الطائي." فقال لها رسول الله عليه الصلاة والسلام : " يا جارية، هذه صفة المؤمن حقاً، لو كان أبوك مسلماً لترحّمنا عليه، خلّوا عنها فإن أباها كان يحب مكارم الأخلاق، والله يحب مكارم الأخلاق ". فكانت سبباً في إسلام أخيها عدي بن حاتم، وكان مسيحياً قبل ذلك. ثانيها قصة حلف الفضول الذي أسسه المشركون في مكة أيام الجاهلية لنصرة المستضعفين، والذي شهده رسول الله وهو يافعٌ ثم أشاد به وهو نبي فقال " لقد شهدت في بيت عبدالله بن جُدعان حلفاً ما أودُّ أن يكون لي به حمر النَّعم ، ولو دُعيتُ إلى مثله في الإسلام لأجبت " وهذا الحلف الذي يقال إن المبادرة لنشأته تعود للزبير بن عبد المطلب دفاعا عن تاجر يماني باع بضاعة لرجل من قريش كان معروفاً بالعناد والباطل والظلم، هو العاص بن وائل السهمي، و لم يحصل على ثمنها، فاستنجد في وسط الحرم جوار الكعبة وأنشد بأعلى صوته شعرا أوله : يا آل فهر لمظلوم بضاعته * ببطن مكةَ نائي الدار والنَّفر فأجابه الزبير: "لَبَّيْك جاءتك النَّصْفَة، والله إن هذا ظلم لا يُصَبُر عليه ولا يُترك"، ثم دعا إلى هذا الحلف الذي لعب آنذاك دورا شبيها بدور جمعيات الدفاع عن حقوق الإنسان اليوم. أما القرآن الكريم، فقد أوضح بما لا يدع مجالا للشك أن هناك من أهل الكتاب من يحفظ الأمانة ومنهم من لا يحفظها " وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ". (سورة آل عمران 75) على صعيد آخر، ولكي نواصل أخذ الأمثلة والبراهين من صميم المرجعية الإسلامية التي تنهل منها الجماعة، ألم يكن عمر بن الخطاب رضي الله عنه رجلا مشركا لحظات فقط قبل أن يعتنق الإسلام ؟ ورغم ذلك فقد عاش قبل إسلامه شجاعا ذكيا أمينا نبيل الأخلاق، ولم يكتسب هذه الصفات فجأة بعد إسلامه. ألم يكن خالد بن الوليد وهو مشرك قائدا عسكريا فذا ساهم في معركة أحد في هزيمة المسلمين، ثم هداه الله للإسلام بعد ذلك فاستمر قائدا عسكريا فذا ؟ إن أوصاف الصدق والإخلاص وتحمل المسؤولية ونكران الذات وغيرها من الأوصاف الحميدة، كصلابة الإرادة وبُعد الرؤية، والصبر وصيانة العهود، والتضحية من أجل رفض الظلم، والسعي للعدل والمساواة واحترام حرية وكرامة البشر، والالتزام بالشورى بدل الاستبداد بالرأي الواحد، ليست بالضرورة مرتبطة بعقيدة الإنسان أو مدى تدينه أو انتمائه لمذهب أو طائفة بل هل مِلك مُشاع بين الإنسانية جمعاء، ولو أن الرسالة الخاتمة التي أتى بها القرآن وبلغها الرسول الكريم عليه السلام تحث على كل هذه المكارم وتربط الوفاء بها بالجزاء الدنيوي والأخروي. وقد قيل قديما : " إن الله ينصر الدولة العادلة وإن كانت كافرة ولا ينصر الدولة الظالمة وإن كانت مؤمنة"، بل إن بيان الجماعة نفسه، الذي قرأه على الصحافة رئيس مجلس الشورى يتضمن هذه الفقرة : "يعلن التمسك بخيار المقاربة الجماعية مدخلا لتغيير الأوضاع المتردية بالبلد، ويدعو إلى تضافر جهود كل القوى الحية والمخلصة في هذا الوطن الحبيب من أجل التأسيس الجماعي لمغرب جديد، مغرب الحرية والكرامة والعدل والاختيار الحر للحاكمين ومحاسبتهم، والتداول الحقيقي على الحكم، والفصل بين السلط "، ولا شك أن مِن بين هذه "القوى الحية والمخلصة" مَن لا يتفق مع الجماعة في كل قناعاتها السياسية واجتهاداتها الفكرية، ولا شك أنه تتوفر في أفراد هذه القوى الحية الشروط الأساسية لتحمل المسؤولية دون أن يكونوا قد مروا من مدرسة الجماعة أو دون أن يكون لهم اهتمام كبير بالجانب الروحي أصلا، فجميع القناعات تستحق الاحترام. ليس المراد من هذا الكلام تحميل فقرة عابرة من خطاب الأستاذ عبادي أكثر مما تحتمل، أو فصلها عن سياقها، ولا تأويلها كأنها شر مستطير، ولكن المراد فقط هو الإشارة إلى خطورة منطق الاقتناع بامتلاك الحقيقة المطلقة، والتفرد بسبيل الهداية، وهذا ما يميز الأنظمة الاستبدادية والمنظومات الفكرية الاستبدادية، بل إن مجرد الاقتراب من هذا المنطق، ولو عن حسن نية، يخلق بسرعة نوعا من التوجس لدى فئة من ذوي الحساسيات والمرجعيات المختلفة، بل يعطي فرصة لكل من يتربص الشر بجميع محاولات التأليف بين القوى المناهضة للفساد والاستبداد، والتي هي في حاجة إلى التعاون والتضامن مع احترام الاختلاف الفكري، لأن الاختلاف من الرحمة. إن الجماعة تدرك، كما تدرك كل القوى النزيهة والمخلصة، أن إجهاض التغيير الحقيقي يتم بسبب الانهماك في فخ المعارك الجانبية والوهمية، والتي تصب دائما في مصلحة الدولة العميقة على حساب مصلحة الوطن والمواطنين، والدولة العميقة ليست هي الحكومة المسكينة بل هي السلطة وعلى رأسها الملك وأصدقاؤه وأعوانه وأجهزته، وكل المستفيدين من استمرار الوضع القائم على ما هو عليه أي على استغلال النفوذ لأجل الاغتناء السريع، حيث أصبح الفساد – السياسي والمالي والإعلامي والقضائي والثقافي والرياضي واللغوي... – يسري في مفاصل البلاد كما يسري الدم في العروق. إنها المعارك الوهمية بين السياسي والحقوقي، وبين العلماني والإسلامي، وبين الإسلامي والأمازيغي، وبين الأمازيغي والقومي العربي، وبين المعرًّب والفرانكوفوني، وبين المدينة والقرية، وبين وبين وبين.. إن المعركة الحقيقية هي بين العدل والظلم، بين الشفافية والفساد، أي بين المواطنين من جهة ومن سمّاهم الإمام الزمخشري في كتابه (الكشاف): "اللصوص المتغلّبة"، أي زُمرة المفترِسين بالمصطلحات العصرية، المسنودين بالقوى الدولية، سواء منها المالية والسياسية والإعلامية، التي تستفيد بدورها من إبقاء المغرب تحت وصايتها: له واجهة براقة جميلة ولكنها تغطي واقعا تفضحه بين الفينة والأخرى تقارير وتصنيفات دولية جد متأخرة ومخجِلة على مؤشرات التنمية وحرية التعبير والديمقراطية ومحاربة الرشوة و جودة التعليم. أما ما سُمِّي إلى الآن "إصلاحا" فإنه من قبيل ما وصفه رجل الدولة الفرنسي Edgar Faure بقوله : L'immobilisme est en marche, rien ne saurait l'arrêter.