رحَل الرّجل الذي عُرف بعلمه وزهده، وثباته على الحق وصبره على البلاء، وتركيزه على التّربية والتّزكية وإلحاحه على تبليغ رسالة السّلام والمحبّة والتّناصح، توفي الشيخ عبد السلام ياسين رحمه الله الذي تجرّأ على إسداء النّصح للملك الرّاحل الحسن الثاني رحمه الله نصيحة الأخ لأخيه، وبعده نصح الملك محمد السّادس وفّقه الله لكل خير نصيحة الأب لابنه، كما نصح أتباعه في جماعة العدل والاحسان باللاّءات الثلاث التي حدّدت التوجه السياسي للجماعة ( لا للعنف، لا للسّرية، لا للاستقواء بالخارج) نصيحة الشيخ لمريديه، ونصح أبناء وطنه بحب الخير لوطنهم وللناس أجمعين، ونصح الأمّة الإسلامية باتّباع المنهاج النبوي للفوز بسعادة الدّارين .. أجل ترجّل "ناصح الملوك" تاركا وراءه الحصان وحيدا... إنّ رحيل الشيخ ياسين في هذه الظرفية التاريخية يجعل السّاحة السياسية المغربية بألوانها الخافتة تبعث على الغثيان، لا لأن الرّسم لم يكتمل، وإنّما لأنّ لون معارضته كان يشبه إلى حدّ بعيد أحمر وأخضر العلم المغربي الذي يرمز إلى الحبّ والسّلام بقدر ما يرمز إلى المقاومة والتحدّي، فبقاء "العدل والاحسان" بدون عبد السلام ياسين كبقاء العلم المغربي بدون نجمته الخضراء.. فلكم أن تتخيّلوا كيف سيكون هذا المشهد المغربي الجديد (...). قد نختلف مع الشيخ في الفروع وفي المنهج وفي بعض الأمور التي كان يدعوا إليها رحمه الله، لأنّ كلامه كلام بشريّ غير معصوم، لكن هذا الإختلاف يجب أن يدبّر في ضوء "فقه الاختلاف" الذي أسّس دعائمه علماؤنا، والرّد عليه يجب أن يخضع للقواعد والآداب التي يقتضيها الحوار والمناظرة حيث يؤطّر ذلك وفق منهج علمي رصين، كما كان ديدنُه رحمه الله حين ناقش خصومه بأسلوب لبق وغاية في الأخلاق والإحترام، وخير دليل على ذلك رسالتيه الشهيرتين "الإسلام أو الطوفان" و "مذكرة إلى من يهمه الأمر"، وكتابيه "حوار مع الفضلاء الديموقراطيين" و "حوار مع صديق أمازيغي" وغيرها من آثاره.. وهذا الأسلوب اللّبق الذي كان يتعامل به الشيخ ياسين رحمه الله هو الذي جعله محط إحترام الجميع داخل المغرب وخارجه رغم معارضته لنظام الحكم السّائد، وخير دليل على هذا الاحترام الكبير الذي حظي به -حيّا وميتا- شهادات الكثير من الفرقاء السياسيين الذين أشادوا بخصال الرجل وشيمه وفضله وعلمه وصلاحه حين شيّعوه، رغم اختلافهم معه في كثير من الأمور، وقد اختلف معه بعض هؤلاء اختلافا جذريا بسبب تباين الأيديولوجيات والقناعات الدّينية و السّياسية، لكن هؤلاء المغاربة بسلوكهم هذا بيّنوا للعالم بأنهم فعلا ورثة حضارة عريقة في التاريخ بُنيت أركانها على التّسامح ومحبة الخير للناس، وبحسن تدبير الاختلاف، فالاختلاف عند المغاربة لا يفسد للود قضية، وأنا كمسلم مغربي محايد أفتخر بهذه القيم الإنسانية التي أبان عنها المغاربة، والأخلاق الحميدة التي تحلّوا بها في هذا المنعطف التاريخي الحاسم بمختلف مشاربهم. فتحية حارّة إلى الشيخين الكتّاني وأبي حفص السلفيين ومن معهما من أبناء الإتّجاه السلفي المعتدل، وتحية إلى الأستاذ ابن كيران والمهندس الحمداوي ومن معهما من إخوان حزب "العدالة والتنمية" وجناحه الدعوي "التوحيد الاصلاح"، وتحية إلى الأستاذ الدغرني الأمازيغي على موقفه الإنساني، وتحية إلى اليساريين بنسعيد أيت يدّر ومحمد السّاسي ومن سار في ركبهما من اليساريين الفضلاء، وأحيي كل مغربي ديموقراطي يؤمن بقيم الأخوة والتّسامح، ويجعل حب دينه ووطنه وأبناء وطنه فوق كل إعتبار، ففعلا ما يجمعنا أكثر ممّا يفرّقنا، وحتّى إن اختلفنا مع الشيخ رحمه الله في بعض المسائل فانّ لا أحد يشك في صدقه وإخلاصه وحبّه الكبير لوطنه الذي أفنى عمره في تربية أبنائه على قيم المحبّة والتسامح والتعايش السلمي، هذه القيم هي التي جعلت هؤلاء الأتباع يخرجون في مظاهرات 20 فبراير بكل عفوية من أجل المساهمة في تغيير الفساد والإستبداد الجاثم على صدور المغاربة منذ عقود، وهذه العفوية هي التي بوّأت حزب "العدالة والتنمية" الصدارة في الانتخابات، وهي التي ساهمت في إخراج الدستور الجديد الذي ينتظر التّنزيل (...). لقد رسم المغاربة بموقفهم الحكيم وسلوكهم القويم هذا لوحة رائعة، لا سيما أنّها رسمت بكل ألوان الطّيف السياسي الوطني (اليمين، اليسار، الوسط ..)، وأبانوا عن ذلك التّسامح الكبير الذي يميّزنا عن بعض إخواننا المشارقة، لكن لولا الموقف "الشّاذ" الذي خرج به عبد الباري الزمزمي لاكتملت جمالية الصورة وروعتها، هذا الموقف النّشاز أغضب المغاربة الذين لا يسمحون بذكر موتاهم الذين أفضوا إلى ما قدّموا إلاّ بالخير، إمتثالاً لأمر الرسول صلى الله عليه وسلّم حين قال في الحديث الذي رواه أبو داود والترمذي وغيرهما، وصحّحه الحاكم: "أذكروا محاسن موتاكم، وكفوا عن مساوئهم". واتّباعاً لسنّته عليه الصلاة والسلام حين مرّت به جنازة فقام، فقيل له: انّه يهودي، فقال: "أليست نفسا؟". وإن كنتُ لا أحب التّعليق على النّاس و انتقادهم، كما أنّه من طبعي التماس الأعذار لإخواني حين يخطئون معي أو مع غيري، إلاّ أنّ الخطأ الذي سقط فيه عبد الباري الزمزمي حين أراد أن ينطح برأسه الخشن جبلا شامخا مثل الشيخ عبد السلام ياسين جعلني أعظّم الشيخ الجليل الذي انتقل إلى عفو الله تعالى وأستصغر في نظري هذا الزمزمي الذي أساء إلى المغاربة بشذوذه اللاّمحدود، شذوذ في الآراء والفتاوى، شذوذ في الخرجات الإعلامية، وشذوذ عن منهج العلماء الذين عُرفوا بالعفة والترفّع وعدم مد اليد من أجل الحصول على المأذونيات.. ثمّ هل هناك شماتة أكبر من الإساءة إلى الميّت، وخاصة إذا كان هذا الميّت هو ياسين رحمه الله، والمسيء هو الزمزمي هداه الله؟! إنّ أفضل جواب على هذا الزمزمي هو قول القائل:" سكت دهرا ونطقت كفرا " .. وكأنّي بياسين يرد بهدوئه المعهود، لكن هذه المرّة من قبره، بقول العلاء بن قرضة: إذا ما الدَّهر جرَّ على أناس = كَلَاكِلَه أناخ بآخرينا فقل للشَّامتين بنا أفيقوا = سيلقى الشَّامتون كما لقينا بعد كل هذه الخرجات الإعلامية للزّمزمي أصبحت مقتنعا بأن الرّجل يجب أن يعرض على طبيب نفساني أو يحجز له سرير داخل إحدى مستشفيات الأمراض العقلية ولا يسمح له بالخوض في أمور الدين حتى تثبت جميع النتائج الطبية بأنه معافا في عقله، وحتى يصدر القضاء حكما في حقه يقضي بأنه لم يعد سفيها أو معتوها، وإن كنت أشك بأنه لا دواء ينفع معه خاصّة وأنه بلغ من الكبر عتيا حتى أصابه التّخريف وأصبح يهرف بما لا يعرف، وبما يجعل العاقل حيرانا. لقد قرأت الكثير من التّعليقات والرّدود على رأي الزمزمي حول وفاة الشيخ ياسين حين قال إنّ موت مرشد جماعة العدل والإحسان الشيخ عبد السلام ياسين "غير مأسوف عليه"، "وغيابه خير من وجوده"، لكن أفضل ردّ أعجبني هو ما كتبه الباحث الاجتماعي الدكتور عبد الرحيم العطري، على حسابه الفايسبوكي، حين قال: "المرحوم عبد السلام ياسين، الذي قد نختلف أو نتفق معه، كانت حكمته البقاء للأثر، لقد ترك عشرات المؤلفات والمواقف التي بصمت تاريخا من الصراع حول السلطة وأنماط التدين، أما أنت سي الزمزمي فرصيدك ليس فيه سوى الجزر ويد المهراز ومضاجعة الجثة الهامدة". كما راقني تعليق لأحد الظرفاء حول البيان التوضيحي الذي أصدره الزمزمي، والذي يعتبر عذرا أقبح من الزلة، جاء في تعليق الظريف على البيان السخيف:" شتان بين عالم رباني له أزيد من ثلاثين مؤلفا ورويبضة له كريمة نقل وكتاب وحيد بعنوان:" الاحساس الممتاز باستعمال يد المهراز" (...). برحيل الزّعيم الرّوحي والمنظّر التربوي والفقيه السياسي لأكبر جماعة إسلامية مغاربية معارضة الأستاذ عبد السلام ياسين ليس بوسعي إلاّ أن أضمّ صوت العزاء إلى أصوات الشّرفاء وأتضرّع إلى الله تعالى أن يتغمّد الفقيد بواسع رحمته، وأن يرزق أهله وجماعته وجماعة المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها الصبر والسّلوان، كما أسأله تعالى بهذه المناسبة أن يغفر لأخينا السيد عبد الباري الزمزمي ويعيده إلى رشده ويرزقه حسن الخاتمة حتى لا نقرأ بعد موته بأنّ لا أحد يأسف عليه، إلاّ الذين يجعلونه مصدرا للتّنكيت على الدين والضحك على "الفقها"، والسلام على كل من أبان عن حسّ وطني، ووعي حضاري وخلق إنساني رفيع من الدعاة الاسلاميين والفضلاء الديموقراطيين في هذا الوطن العزيز وخارجه. و(إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ ) (البقرة:156). إعلامي وباحث في سلك الدكتوراه بجامعة محمد الأول بوجدة*