منذ ربيع 2011 تعيش ليبيا أزمة حكم تحولت إلى حرب أهلية طال أمدها، واستعصى الحل على الأطياف الليبية، مما فسح المجال لدول عربية وإسلامية وأوروبية وأمريكية التدخل في الشأن الليبي، بعضها لإنقاذ الشعب الليبي من محنته وآخر لإغراقه. ووسط هذا التهافت الدولي يبرز اسم المغرب، كأحد الفاعلين في المشهد الليبي المعقد، مما جعل العديد من المراقبين والخبراء يعكفون على تناول وتسليط الضوء حول دور المملكة ومساهماتها في تدبير هذه الأزمة التي يعرفها هذا البلد المغاربي. فبغض النظر عن العلاقات التاريخية القائمة بين المغرب وليبيا، فإن أول ظهور بارز للدبلوماسية المغربية في الخلاف الليبي، كان من خلال الاتفاق السياسي بالصخيرات الموقع عليه شهر دجنبر 2015، من طرف مختلف أطراف النزاع الليبي، والذي وضع أسس التوافق بهدف إعادة بناء الدولة الليبية. ومن المعلوم أن هذا الاتفاق حظي بمباركة وتزكية الأممالمتحدة وبدعم عالمي كبير، ليصبح مرجعا دوليا رئيسيا، بعدما فشلت معظم اللقاءات والمساعي من مختلف الدول المعنية بهذا الخلاف. وهكذا تمكن المغرب من احتلال هذا الموقع المتقدم في معالجة الأزمة الليبية المعقدة، بفضل دبلوماسيته المتزنة الهادئة، وموقفه الحيادي الذي أخذ منذ بداية الأزمة مسافة من صراع لإخوة الأعداء لكل واحد منهم حساباته وارتباطاته السياسية المحلية والإقليمية والدولية. فظل المغرب بذلك مراقبا من بعيد، لكن في ذات الوقت بقي منشغلا بهموم ليبيا، معربا عن المخاوف من تداعيات هذه الأزمة على أمن واستقرار منطقة الشمال الإفريقي. فنادى إلى تكاثف الجهود الدولية لمساعدة الشعب الليبي على الخروج من هذا المأزق الخطير، ودعا كل الفرقاء الليبيين على حد سواء دون إقصاء أو ميول سياسي، إلى الحوار البناء والتمسك بالحل السلمي كخيار وحيد، وطالب المجتمع الدولي بفسح المجال لليبيين لتدبير شؤونهم الداخلية دون تدخل أو استغلال لظرفهم المتأزم. الأهم من ذلك، أن أيادي المغرب لم تتلطخ بتقديم مال أو سلاح أو جند أو ميليشيات أو مرتزقة بل اكتفى بالنصيحة وفتح الباب للحوار. كما حافظ على نهج متوازن منضبط لم يتأثر بإملاءات القوى الدولية الكبرى، بل ركن إلى مبدأين رئيسيين، الأول يتمثل في اعتماد دبلوماسية مبنية على احترام السيادة والوحدة الترابية والحوار لتسوية الخلافات، والثاني يقوم على التمسك بقواعد الأممالمتحدة الداعية إلى حفظ الأمن والسلم الدوليين وحل النزاعات بالوسائل السلمية. وقد لخص هذا الموقف المبدئي بكل وضوح وزير الشؤون الخارجية المغربي،ناصربوريطة، عندما قال " إن المغرب يرى بأن المبادرة الأساسية لحل الأزمة الليبية هي المبادرة التي يتفق عليها الليبيون…وأن الحل لا يمكن إلا أن يكون ليبيا وسياسيا وشاملا " موضحا أن "المملكة لا تتوفر على أي مبادرة فيما يخص الشعب الليبي.. وأن مصلحة المغرب الذي هو ضد تضخم المبادرات الخارجية .. الوحيدة هي مصلحة ليبيا واستقرارها وخروجها من هذا الوضع المتأزم. وهي مواقف ثابتة تجعله قبلة للأخوة في ليبيا، إذا أرادوا أن نفتح لهم المجال لتقريب وجهات النظر والسعي للوصول إلى الحلول" يقول بوريطة. وهذا ما دفع أطراف النزاع الليبيين إلى الوثوق في الموقف المغربي، انطلاقا من تجاربهم مع محيطهم العربي والإقليمي والدولي المتعب، معتبرين أنه موقف مبني على احترام استقلالية القرار الليبي دون ضغوط أو إملاءات، يمكن من توفير الأجواء لتدبير الخلافات الداخلية في إطار الحوار السياسي البناء. وقد سبق لمبعوث رئيس البرلمان الليبي، السيد عبد الهادي لحويج، أن " أكد على قناعة كل ألوان الطيف الليبي بأن المغرب، بفضل قيادة جلالة الملك محمد السادس، قادر على لعب دور طلائعي في حل الأزمة الليبية "، مضيفا أن "المغرب يتمتع بتجربة واسعة في حل الأزمات وليس له مصلحة أخرى غير أمن واستقرار ليبيا". بي أن الجهود المغربية تجاه الأشقاء الليبيين، تواجه بمناورات جزائرية مكشوفة، بغية عرقلة هذه المساعي ولو على حساب القضية الليبية، حيث تنطلق الجزائر في تعاطيها مع هذه الأزمة من عدة محددات جغرافية وسياسية أهمها طول حدودها البرية مع ليبيا التي تصل إلى 982 كلم، واعتبارها بلد جوار إلى جانب كل من تونس ومصر والسودان وتشاد والنيجر، والإصرار على استبعاد المغرب من المساهمة في المساعي الإقليمية والدولية للحل. وفي هذا الصدد قدمت الجزائر الدليل على ذلك بعدم دعوتها المغرب للمشاركة في الاجتماع الإقليمي لوزراء خارجية دول الجوار الليبي، الذي احتضنته أواخر يناير 2020، بينما حرصت على حضور كل من مالي وألمانيا. لم تستسغ الجزائر، احتضان المغرب وبنجاح شهر دجنبر 2015 بالصخيرات، لقاءات الأطراف الليبية وتوصلها إلى الاتفاق السياسي. وازداد الحنق الجزائري باعتماد الأممالمتحدة على المغرب مرة أخرى لدعم جهودها في التقريب بين الليبيين من خلال حوارات بوزنيقة الأخيرة. وقد كشف النقاب عن أن الجزائر كرست جهودها في الآونة الأخيرة للتشويش على جلسات الحوار التشاورية التي انعقدت مؤخرا. ورغم طموح النظام الجزائري الجامح لإيجاد موطئ قدم في مسلسل الحل الأممي للأزمة الليبية، فقد فشل في تحقيق مساعيه التي اصطدمت بعدة عقبات واعتراضات دولية أظهرت ضعف حضورها ونفوذها في الساحة الليبية. وخير دليل على ذلك، رفض عدة أطراف دولية وإقليمية وليبية اختيار وزير الخارجية الجزائري السابق، رمطان لعمامرة، مبعوثا للأمم المتحدة في ليبيا، خلفا ل "غسان سلامة" المستقيل. نهج الدبلوماسية المنفردة للنظام الجزائري، حالت دون وجود أي دور لاتحاد المغرب العربي، المفترض فيه أن يأخذ زمام المبادرة في معالجة هذه الأزمة بحكم الجوار الجغرافي وكون ليبيا دولة عضو بالاتحاد المغاربي، فأصبحت ليبيا بذلك ملف خلاف وساحة للتنافس بدل التعاون، وهذا ما أدى إلى تعطيل دور اتحاد المغرب العربي مرة أخرى في التعاطي مع مشاكل المنطقة المغاربية. وتتواصل بالمقابل ثقة المجتمع الدولي في جهود المغرب لرأب الصدع الليبي عبر دمجه في مشروع الأممالمتحدة الشامل للتسوية في ليبيا،بعد تكليفه بمساعدة الأطراف الليبية للتوصل إلى اتفاق شامل حول المعايير والآليات الشفافة والموضوعية لتولي المناصب السيادية بهدف توحيدها ووضع حد لحالة الانقسام السائدة بين غرب وشرق ليبيا، طبقا لما نصت عليه المادة 15 من اتفاق الصخيرات بشأن تعيين قادة المناصب السيادية وتوزيعها وآلية الاختيار. وهي مهمة جد معقدة. وانعقدت لحد الآن جولتان من المفاوضات بمدينة بوزنيقة، الأولى منتصف شهر شتنبر 2020 والثانية أوائل أكتوبر الجاري، تمكن خلالها طرفا الحوار المكون من وفد المجلس الأعلى للدولة ووفد برلمان طبرق، من التوصل إلى تفاهمات أساسية حول آليات ومعايير التعيين. ومن المنتظر أن يعودا إلى المغرب لاستكمال الحوار بغاية تسمية قادة المناصب السيادية السبعة. الطريق أمام الدبلوماسية المغربية للنجاح في مهمة الوساطة الليبية، لازال محفوفا بالمخاطر، فهناك أطراف إقليمية تسعى إلى عرقلة هذا الدور وهناك إكراهات سياسية أخرى. لكن يظل الرهان بالدرجة الأولى مرتبطا بثقة الأطراف الليبية في الدور الرائد والمشرف الذي يلعبه المغرب للمساهمة في إنقاذ ليبيا من محنتها، وإيمان الأممالمتحدة في دور المغرب كدولة محبة للسلام والأمن والاستقرار، وتجربته الرائدة في التعامل مع النزاعات الدولية. وفي هذا الصدد، أكدت ستيفاني ويليامز الممثلة الخاصة للأمين العام ورئيسة بعثة الأممالمتحدة للدعم في ليبيا، أن " المغرب يقدم دعما ثابتا ومتواصلا لجهود الأممالمتحدة في ليبيا".