أول مرة في تاريخ البرلمان المغربي يقوم وزيرا للعدل باتهام أحد أعضاء البرلمان بالفساد. الاتهام هذه المرة لم يكن سرا بلغة: بيني وبينك.. بل كان علانية وعلى مرأى ومسمع المغاربة الذين تابعوا ذلك -الحدث المتميز لحد الآن ( على اعتبار أنه الأول من نوعه في تاريخ عمل الحكومة والبرلمان ) على قناتهم التلفزية الرسمية التي نقلت ذلك على الهواء مباشرة. غير أن المفاجأة لم تكن في هذا فقط. بل كانت في تعاطي زمرة من المستشارين البرلمانيين مع الواقعة، وعلى رأسهم مستشارا برلمانيا هو أيضا ينتمي لحزب سياسي ثار المغاربة في وجهه واعتبروه رمزا للفساد والاستبداد إبان الحراك الشعبي المغربي بقيادة حركة20 فبراير . حيث عمد أولئك المستشارين إلى التعاطف مع المستشار المتهم بالفساد وتضامنوا معه، وأحدثوا ضجيجا وصراخا، بل طالبوا وزير العدل بالاعتذار عن التهمة التي وجهها ل "المستشار الفاسد" أو مقاطعة الجلسة تضامننا مع زميلهم في الحرفة( أقصد حرفة الفساد وليست حرفة تمثيل المغاربة في مجلس المستشارين ). فصار في نظرهم وزير العدل والحريات هو المخطئ و السيد "المستشار المحترم" هو المحق. كل هذا له في نظري دلالات عدة، ويجعل الأمر ينفتح على عدة سيناريوهات محتملة في تعاطي حكومة عبد الإله بنكيران مع ملفات الفساد في دخولها السياسي الجديد. ويمكن إجمال تلك الدلالات والسيناريوهات كالتالي: 1) الدلالات: أ) يتضح من واقعة اتهام السيد مصطفى الرميد - وزير العدل والحريات - للمستشار البرلماني وزعيم الفريق الدستوري في الغرفة الثانية إدريس الراضي، أن الحكومة لا تزال تسير على نهج فضح المفسدين إعلاميا على الأقل ( وهي خطوة لا تكفي إن لم تقترن بجر المفضوحين أمام العدالة لتقول فيهم كلمتهم ) وتمكين المغاربة من حقهم في المعلومة التي من بين مكوناتها تعريفهم برموز الفاسد في المغرب على رؤوس الأشهاد. المفسدون الذين استمرؤوا النهب والسرقة سنوات وسنوات دون حسيب أو رقيب. ويجد هذا النهج صدا له فيما ذهب إليه أيضا السيد وزير التربية الوطنية بنشر لائحة موظفي وزارته المستفيدين من السكن الوظيفي دون وجه حق رغم أن البعض منهم قد تقاعد أو توفي أو لم تعد له أية علاقة بالوزارة لا من قريب ولا من بعيد. ب) أن رموز الفساد لا تزال قوية، وتتضامن فيما بينها، بل وتصارع من أجل إبقاء الحال كما هو عليه، رغم ما عرفه المغرب من تغيرات متمثلة في: دستور جديد من بين مضامينه أنه يعلي من شأن الحكامة الجيدة ومحاربة الفساد في كل المجالات؛ وكذا نتائج انتخابات 25 نونبر2011 التي أفرزت لنا حكومة مختلفة عن سبيقاتها. وتتجلى قوة الفاسدين وتضامنهم في ما قام به المستشار البرلماني رئيس فريق حزب الأصالة والمعاصرة في مجلس المستشارين حين تضامن وحث عناصر فريق حزبه على التضامن مع السيد إدريس الراضي عوض أن يذهب في اتجاه مطالبة السيد وزير العدل والحريات بتقديم الأدلة إلى الرأي العام الوطني على صدق اتهامه للمستشار البرلماني. 2) السيناريوهات المحتملة وتتجلى في: أ) كون الحكومة المغربية الحالية مرغمة على أن تسير في اتجاه التنزيل الأمثل للدستور خاصة في أبوابه المتعلقة بمحاربة الفساد المتعدد المجالات، والعمل على ترسيخ أسس الحكامة الجيدة والتوزيع العادل للثروات. إضافة إلى تفعيل مبدأ الحق في الوصول إلى المعلومة أيا كان مجال ارتباطها، مع تفعيل مسطرة المتابعة في حق كل من تبث تورطه في ملفات فساد وتجاوز منطق ((عفا الله عما سلف)) الذي لم ولن يقبل به المغاربة. الاتجاه في هذا السيناريو سيمكن المغرب من كسب رهان "الطريق الثالث" الذي اختاره - فعلا لا قولا- لأجل إحداث التغيير المنشود في أسس تسيير الشأن العام في قطع نهائي مع الفساد والاستبداد. ب) التلكؤ عن المسير في السيناريو الأول سيؤدي بحكومة السيد عبد الإله بن كيران إلى الدخول في متاهة، قد نعلم أولها ولكننا قطعا لا نعلم آخرها. متاهة تأجيج غضب الشارع و الدفع في اتجاه فقدنا الأمل - الذي لا يزال عند فئات شعبية غير قليلة - في كل تغيير يأتي عبر صناديق الاقتراع . كما أن ذلك سينتج عنه إعطاء جرعة قوية لكل رموز الفساد التي أنهكت جراء ما عرفه المغرب من "حرب شرسة" عليها خلال المرحلة السابقة عن تعيين الحكومة الحالية، وجعلها تتأكد أن الاختيار المغربي '' التغيير في ظل الاستقرار " ليس إلا مرحلة زمنية قصيرة ولت مع أفول نجم الاحتجاجات الشعبية وأن ( حليمة ستعود لسياستها القديمة). إضافة إلى أن ذلك سيؤدي إلى تآكل الرصيد الشعبي للحكومة الحالية بقيادة حزب العدالة والتنمية، مع تعريتها من أي غطاء شعبي مؤيد لسياساتها وداعم لها في مواجهة ''التماسيح والعفاريت'' التي لا يزال لم يجرأ أحد إلى الآن على تسميتها أومحاكمتها.