كانت المناسبة أزمة عامة تلك التي تولى فيها الرئيس المصري حسني مبارك السلطة في أعقاب حادث مجلجل من أحداث العنف السياسي الذي اقترن بتمرد مسلح. وبعد 30 عاما مازال مبارك يتشبث بالسلطة وسط احتجاجات عنيفة لقي فيها أكثر من 130 شخصا مصرعهم في الشوارع ولم يتضح بعد الأسلوب الذي ستنتقل به السلطة في البلاد. وخلال هذه العقود الثلاثة ورغم عشرات الوعود الفارغة لم يفعل مبارك شيئا لوضع إطار مؤسسي لانتقال السلطة بطريقة سلمية وديمقراطية في مصر أكبر دول العالم العربي سكانا. بل انه عمل على تكريس نظام لم يكن فيه للحياة السياسية بالمعنى المتعارف عليه أي وجود يذكر وأدار شؤون البلاد وكأنها جيش أو مؤسسة. يدين مبارك بالرئاسة للرئيس أنور السادات الذي رأى فيه تابعا مخلصا وعينه نائبا للرئيس عام 1975. وكان مبارك في ذلك الوقت قائدا للقوات الجوية بلا أي خبرات أو طموحات سياسية. في عام 2005 قال مبارك في مقابلة تلفزيونية انه حين استدعاه السادات للقصر الجمهوري كان أقصى توقعاته أن الحال سينتهي به سفيرا لمصر في إحدى العواصم الأوروبية. وفي السادس من أكتوبر عام 1981 أردى متمردون إسلاميون السادات بالرصاص في عرض عسكري بالقاهرة وملا مبارك الذي كان جالسا بجوار السادات وأصيب بجرح طفيف في يده الفراغ وسط مشاعر ارتياح واسعة النطاق بين المصريين. وفي الوقت نفسه حاول المتمردون الإسلاميون الذين أغضبتهم معاهدة السلام التي وقعتها مصر مع إسرائيل الاستيلاء على مدينة أسيوط بصعيد مصر فما كان من مبارك إلا أن أرسل إليهم الجيش لسحق التمرد. وكان لحضوره ومسلكه الذي اتسم بطابع الحذر وقع طيب على بلد هزه حادث اغتيال السادات ومخاوف من الفوضى والحرب الأهلية. لكن ما أن تولى مبارك السلطة فانه لم يقدم للمصريين أي رؤية سوى التنمية الاقتصادية في ظل النظام الشمولي الذي ورثه عن ضباط الجيش الذين أطاحوا بالنظام الملكي عام 1952. وكلما سنحت الفرصة كان مبارك يتحدث عن الديمقراطية لكن أفعاله لم تشر قط إلى أنه استوعب مفهوم الديمقراطية بما يعني إمكانية التقاعد المبكر أو ترك السلطة عن طريق الانتخابات. وفضل مبارك أن يتحدث عن الأمن والاستقرار وصور نفسه على أنه أب حنون يحمي البلاد من مجموعة من الأعداء بعضها حقيقي وبعضها من وحي الخيال. وخلال أزمة أقل بكثير خلال الانتخابات الرئاسية عام 2005 عندما كانت واشنطن تضغط عليه من أجل مزيد من الانفتاح رفض بكل ازدراء ما نصحه به مثقفون من ضرورة إقامة مؤسسات حقيقية. وظل مبارك إلى عام 2005 المرشح الوحيد في الاستفتاءات الرئاسية بل انه في تلك السنة لم يتنازل ويوافق على إجراء مناظرة مع منافسه الرئيسي أيمن نور المحامي الليبرالي الذي دخل السجن بعد ذلك لعدة سنوات بسبب اتهامات مشكوك في صحتها بتزوير توقيعات. حتى التنمية الاقتصادية كانت بطيئة ومتفرقة حتى أقنعه ابنه جمال المصرفي السابق بإشراك رجال أعمال واقتصاديين من أصحاب الاتجاه الليبرالي الجديد كوزراء في الحكومة. وانتعش النمو الاقتصادي وبلغ 7.2 في المائة في السنة المالية 2007-2008 لكن الفجوة اتسعت بين الأغنياء والفقراء وظل التضخم مرتفعا وارتفعت شكاوى الفقراء من أن فوائد هذا التحسن لم تصل إليهم. وعلى الصعيد السياسي لم يتغير شيء يذكر. فقد ارتقى رجال أعمال من أصدقاء جمال مبارك ومعارفه المراكز العليا في الحزب الوطني الديمقراطي الحاكم الذي تحولت مكاتبه إلى هدف رئيسي في الانتفاضة الحالية. ومع تقدم العمر به وازدياد شعوره بالرضا عن الوضع تغاضى مبارك أو غض الطرف عن التآكل التدريجي لسيادة القانون الأمر الذي زاد من صعوبة تحقيق انتقال سلس ومقبول على نطاق واسع للسلطة. وكان رجال شرطة يمارسون التعذيب بكل صلف مع من يتحدى سلطتهم واحتكر ساسة فاسدون المشهد السياسي بالتلاعب بالانتخابات واللوائح بما يقصي كل منافسيهم. ثم يقول المسؤولون إن الانتخابات كانت نزيهة وأنهم يحققون في أي حالات للتعذيب. وبدا أن الأخطار لم تدر بخلد مبارك فقد سئل العام الماضي عمن سيخلفه في الرئاسة فقال "الله أعلم". وتتفق السفيرة الأمريكية في القاهرة مارجريت سكوبي مع هذا الرأي إذ قالت ملخصة رؤية مبارك في برقية سربها موقع ويكيليكس "يبدو أنه يضع ثقته في الله والقوات المسلحة ذات النفوذ المتغلغل (في الدولة) وقوات الأمن المدنية لتحقيق انتقال منظم للسلطة." --- • عمل جوناثان رايت مراسلا لرويترز في الفترة بين عامي 1979 و2010 في الشرق الأوسط وإفريقيا والولايات المتحدة. وقد بدأ حياته العملية مع رويترز في مصر وأنهاها فيها أيضا كما أنه يقيم فيها ويعمل الآن بترجمة الكتب. وكان رايت يقف على بعد أمتار من الرئيس الراحل أنو السادات عندما اغتاله جنود إسلاميون عام 1981. كما تعرض للاختطاف في لبنان وتمكن من الهرب. وفي التقرير التالي يروي رايت شهادته لعصر مبارك والتحديات التي يواجهها الآن. والآراء الواردة في التقرير كلها أراؤه الشخصية. • رويترز