أفرز صعود نجم الإسلام السياسي في كثير من الأقطار الشمال إفريقية و الشرق أوسطية في الآونة الأخيرة، "حالة سياسية" غير معهودة، ما جعل أوراق الممارسة السياسية تختلط عند كثير من الفاعلين. في ارتباط بهذا المعطى مغربيا، يسجل أن مفاهيم كثيرة – و المفاهيم هي مفاتيح لقراءة الواقع السياسي - تروج في عالم السياسة المغربي فكرا و ممارسة. مفاهيم تبدو في ظاهرها مترادفات في حين حقيقتُها الدلالية تسكنها فروق دقيقة و حاسمة. مفهوم التدافع السياسي، من المفاهيم الرائجة في هذا العالم، وهو مفهوم يحيل على ظاهرة صحية مطلوبة في هذا المجال. بيد أن الساحة السياسية المغربية، و في ارتباط بالتطورات الأخيرة، بدأ يتبلور فيها مفهوم نظنه يسعف أكثر من مفهوم التدافع في تشخيص الحالة و قراءة المشهد السياسي في هذا البلد، هذا المفهوم هو مفهوم "الإحراج السياسي"، الذي أخذ في التشكل – بدلالته التي سنبينها- مع صعود نجم عبد الإله بن كيران و حزبه. بالتعريف الغائي و الوظيفي يمكن أن نميز بين التدافع و الإحراج السياسيين بكون الأول، يعتمد على منطق تسجيل النقاط على الخصم و تصيد أخطائه، مع طرح بديل ينتظر فرصته في التصدر، بديل على مستوى الخطاب و البرامج والرؤى والتصورات السياسية، وهذا المعنى هو المتجدر في الممارسة السياسية لدى الديمقراطيات العريقة كما لا يخفى. هذا المعنى الذي يحتويه مفهوم التدافع السياسي لا يتحقق في مفهوم الإحراج السياسي؛ فغالب أمر هذا الأخير أن يكون مجرد تشويش ليس أكثر، تشويش يفرغ العملية السياسية من معنى التدافع ابتغاء المصلحة العامة مما يجعله في كلمة، سلوكا سياسيا غير مثمر. صحيح أن الإسلاميين" الحاكمين" في المغرب إذا اتفقنا مع بعض التحليلات سدوا خلة و اتخذ منهم المخزن مطية لعبور المرحلة بأمان، إلا أن هذا الدور الذي أسند لهؤلاء كان مدفوعا بالرغبة في الإحراج السياسي. و بغض النظر عما إذا كان تبوؤهم مقعد القيادة في حلبة المنافسة السياسية، ناتج عن وصول أم إيصال، فإن هذا الإنجاز بدوره لم يكن ليُسمح لهم بالظفر به دون إيقاعهم في الإحراج السياسي و لو بعد حين. إن الحرج السياسي الذي وقع و ما زال يقع فيه الإسلاميون الحاكمون في المغرب يتجلى في مستويات كثيرة، هذه بعض نماذجها: إحراج المرجعية: وهو إحراج يمكن أن يطول فيه الكلام، و خلاصته سؤال: كيف يمكن لحكومة إسلامية أن تقود البلاد في مرحل صعبة في غياب أي تجربة سياسية و اجتهاد سياسي يتأسس على المرجعية الإسلامية في النظر و التدبير السياسي. إحراج التحالف: وهو الذي أملته طبيعة الاقتراع في المغرب، هذا الذي اقتضى مثلا أن يتحالف حزب العدالة و التنمية ذي المرجعية الإسلامية، مع حزب التقدم و الإشتراكية، وريث المرجعية الشيوعية بين الأحزاب المغربية. الإحراج الذاتي: الآتي من الحكومة أو من الحزب في علاقة بهذا النموذج، نؤكد أن الإحراج السياسي لا يترك فرصة لالتقاط الأنفاس و الانتقال إلى موقع الهجوم في التدافع السياسي، بل يجعل "المحرج سياسيا" دائما في موقع الدفاع، و لعل هذا النوع من الإحراج هو الذي أوصل بن كيران إلى أن يعترف دون أن يقترف!!، و من ثم كان أول رئيس حكومة يقدم اعتراضا لملك البلاد... إلى ذلك يمكن ان نرصد "الحياء السياسي" بمفهومه السلبي المفضي بدوره إلى الإحراج الذي أبداه رئيس الحكومة في كثير من المحطات؛ منها المحطة المتعلقة بإقدام الملك على تعيين عدد من الولاة و العمال، في تناقض مع ما تم التوافق بشأنه من توزيع الاختصاصات بين الملك و رئيس الحكومة، و كذلك إقدام عاهل البلاد على توقيف عدد من المسؤولين الجمركيين في المعابر الحدودية، و هو التصرف الذي لم نسمع انتقادا له من طرف مسؤول حكومي كان تابعا لحزب العدالة و التنمية أم لم يكن، و إنما الذي بين مجانبة هذه الخطوة الملكية لمقررات الدستور الجديد للمغرب، هو عبد العالي حامي الدين عضو الأمانة العامة لحزب المصباح، أحد الأبناء الذين يمارسون "العقوق السياسي" في هذا الأخير بين الفينة و الأخرى. في مستوى آخر، نجد أن من المبادئ المقررة في إبستيمولوجيا التواصل السياسي، أن "فعالية (بعض أنواع الخطاب) يمكن أن تكون مستقلة تماما عن مدى ملاءمتها؛ ذلك أن كل خطاب يحمل للمواطنين ما يتمنون سماعه؛ فإنه لا يحتاج لأن يكون قابلا للتصديق حتى يؤمنوا به".(ج م دانكان/ علم السياسة ). بيد أن هذا المبدأ قد يسقط فيما يفسده؛ فرغبة منشئ الخطاب في جلب أجوبة واضحة و قابلة للفهم من متلقين شاردي الذهن، تؤدي إلى تعميم مفرط للمسائل الحساسة والغامضة، و إلى تطور من الصعب التنبأ به". هذا التعميم المفرط للمسائل الحساسة و الغامضة هو الذي وقع فيه بن كيران، و بسببه وصف بالشعبوي في الخطاب فوقع في الحرج، من حيث كان يبتغي تقريب السياسة من المواطنين. بل نجد أن الذين يهوون الإحراج السياسي بمختلف مستوياته، لم يستنكفوا عن تتبع كلمات و سكنات و حركات عبد الإله بن كيران. و من ثم سجلوا عليه عدم إلمامه الكافي بقواعد البروتوكول و أعطوا على ذلك كمثال تقبيله أو محاولته تقبيل رئيس الحكومة الإسبانية ماريانو راخوي في لقاء بين الطرفين، و هو تصرف لا يسمح به العرف و البروتوكول الدبلوماسي الإسباني. كما أنه لا يخفى و هذا دائما في سياق التصيد أن عبارات "العفاريت و التماسيح"، و "فهمتي ولا لا.." الإبن كيرانية، أضحت متداولة على نطاق واسع كمفردات للتفكه و الغمز السياسي. بموازاة هذا الإحراج، نعثر في التجربة الحكومية لحزب العدالة و التنمية بالمغرب، على إحراج ذاتي من طبيعة أخرى، إنه الإحراج الآتي ممن يسمون صقور المعارضة في صفوف الحزب الحاكم (عبد العالي حامي الدين، عبد العزيز أفتاتي..)، الذين يجرون الحزب إلى خطاب المعارضة حتى و إن تغير موقعه في اللعبة السياسية، في مفارقة تختلف قراءتها في صفوف المحللين السياسيين. الإحراج الموضوعي: الإحراج الآتي من قوى أخرى سياسية و حقوقية ربما كان من سوء حظ الإسلاميين المغاربة أن من يشكلون معهم الائتلاف الحكومي من الأحزاب إذا استبعدنا منهم حزب الاستقلال الآخذ في التراجع بدوره لم يمتص بهم حزبهم تيارات قوية من المعارضة، و من ثم بقيت في هذا الصف قوى سياسية لها موقعها في المغرب، كالإتحاد الاشتراكي الذي يعيش على ماض معارضاتي عنيد، وحزب الأصالة والعاصرة الذي يعيش على قوة الدفعة التأسيسية التي لا تخفى على أحد في البلاد تفاصيلها. بل إن هذا الحزب الأخير قرأ كثير من المتتبعين في خطابه وطريقة اشتغاله، أنه حزب إنما زج به في المعترك السياسي المغربي، فقط، لإنتاج البوليميك و المفرقعات السياسية حول قضايا تافهة من أجل مناوأة الإسلاميين و إحراجهم و قطع الطريق دونهم و مراكز القرار، وهو ما جرت رياح المرحلة بنقيضه جملة و تفصيلا. من جهة أخرى، و إعمالا للمقولة المغربية:"الباب الذي يأتيك منه الريح أغلقه و استرح"، اعتقد رفاق ابن كيران أن تملصهم من بعض الحقائب الوزارية "الثقيلة" في حكومتهم (الصحة، التعليم، الداخلية،...)، سيوفر عليهم بعض اللوم الشعبي، بخصوص ملفات و قضايا محرجة راكمتها هذه الوزارات منذ عقود. و هذا الاعتقاد فضلا عما فيه من جهل بطبيعة العمل الحكومي القائم على مبدأ التضامن، فيه ترك لباب الريح عكس ما كان المراد مفتوح على مصراعيه. و من هنا أصاب الحكومة الإسلامية من الإحراج نصيب وافر من وزراء لا ينتمون لحزب العدالة و التنمية، و هنا يكفي أن نسجل إصرار وزارة الداخلية التي يتولى حقيبتها وزير من حزب الحركة الشعبية، على الاحتفاظ بعمقها التاريخي كأم للوزارات بالمغرب، و أخذها المبادرة في بعض القضايا بما يخالف ما كان سيصدر من رئيس الحكومة بشأنها. أما الإحراج الآتي من مجموعات الضغط الحقوقية، فنجد مؤشرا عليه في النقاش الواسع المفتوح و الموجه و كذا المغرض حقيقة في مغرب الحكومة الإسلامية حول الحريات الفردية و حقوق الإنسان (الحق في الحرية الجنسية، الحق في الإجهاض، الدعوة إلى إلغاء عقوبة الإعدام...) و لعل مما يزيد من شدة الإحراج السياسي على هذا المستوى، تمسك حزب العدالة و التنمية، وهو في الحكومة، باختياراته التي كان يتبناها بخصوص هذه القضايا زمن المعارضة، و هو ما يطرح أمام الحزب رهان الحفاظ، أو على الأصح، رهان استرجاع هامش المناورة لتصريف مواقفه السياسية المرتبطة بهكذا قضايا. غير أنه و في ضل إكراهات النسق السياسي المغربي، مثل هذا الملفات تصلح فقط للإحراج، لأنها ملفات موروثة عن حكومات سابقة لم تكن إسلامية، و مع ذلك لم تبت فيها بحل و لا عقد، ناهيك على أنه من البديهي أن هذا الإحراج ربما كانت حدته سوف تكون أخف وطأ، فيما لو كان حزب آخر يتولى رئاسة الحكومة الحالية في المغرب، و من ثم فإن الاختيارات المرتبطة بها هي بلا تأثير على سير الشؤون العامة لأنها، مهما كانت، ستكون مضطرة بقوة البداهة لتبني نفس الحلول، الوحيدة المتفقة مع إكراهات الواقع الذي ليس شيئا آخر غير الإرادة الشعبية. إن سؤال من يحكم؟ يغدو دون فائدة في هكذا مواضيع، لأن كل الناس يحكمون بنفس الطريقة، كما أكد عالم السياسة الفر نسي الشهير جان ماري دانكان. غير أن الإسلاميين المغاربة فهموا عن عمق ربما قواعد اللعبة السياسية في هذا البلد، ففي ظل إقرارهم المبدئي بمجموعة من العراقيل و الصعوبات التي تواجههم في عملهم الحكومي، فهم على ما يبدو متفقون مع الكاردينال دوريتز حين قال بأن: "السياسية هي فن جني الشرف من الضرورة"، بل إنهم يذهبون إلى أبعد من ذلك؛ و هذا ما يتجلى في تصريحاتهم حيث يعتبرون السياسة على الأقل جني للشرف من المحاولة!. خلاصة القول، بغض النظر عن كون فشل الإسلاميين ليس ككل فشل، فإنه سواء نجح هؤلاء في إدارة المرحلة الحالية أم فشلوا فإن اللحظة الآنية من العمل السياسي في المغرب لا شك أن لها ما بعدها. إن مما لابد منه، أن نولي انتباها خاصا للواقع حتى في مظاهره الناشئة و الطارئة، و ذلك لكي لا تغيب عن أنظارنا دينامية العالم السياسي. كان هناك إذا خطأ في تقدير اللحظة السياسية، و في تقدير ما يمكن لحزب سياسي حاكم في بلد مثل المغرب أن يقدمه. هذا التقدير الذي يقتضي فهمه تجنا للإحراج السياسي شعورا و فعلا أن نعي أن ممارسة السياسة شيء، و ممارسة السلطة السياسية شيء آخر. لقد قالها ميكيافيلي ":النبي الأعزل دائما مهزوم". باحث بسلك الدكتوراه صحافي بإذاعة كاب راديو بطنجة