في عالم يضج بمتغيرات لا تعد، وفي وقت ينشغل فيه الرأي العام بالقضايا الكبرى وطنيا وإقليميا ودوليا، يصعب أن يقرأ إليك أحد، أو حتى أن يسمع إليك، وأنت تحاول بجرات قلمك وما تخطه أناملك أن تخط بعضا مما تحسه وتراه وتعيشه في واقعك. في الماضي كان بالإمكان، وبالطرق البسيطة والسهلة كمثل هذه السطور، أن يقرأ عنك الكثيرون أو يسمعونك أو... فتصل آراؤك ومواقفك إلى ابعد النقاط، لكن في عصر الفايس بوك والتوتير والربيع العربي والأزمات المالية والاقتصادية والسعي إلى البحت عن ملاذ بديل وجديد للبشرية في كوكب آخر، وفي عصر سرعة المعلومات وتوالي الأحداث وكثرتها وضخامتها وأهميتها، الخ، قد يبدو من يكتب مثل ما أكتب وأمثالي كمن يغرد خارج السرب أو على الأقل لا يعيش زمنه. لكن ورغم ذلك كله سنضل وسنحاول قدر الإمكان دوما تدوين بعضا مما يخالج دواخلنا جراء ما نعيشه في واقعنا، إن كان شرا وسوءا فذاك ، وما أكثره في عالمنا وبالضبط في وطننا المغرب، ونفس الأمر أيضا إن كان خيرا وإيجابيا. فهاهو ذي العام الدراسي قد انطلق بآهات وعاهات بالجملة، وهاهي ذي التقارير الدولية وغيرها تضعنا مرة أخرى في مؤخرة الترتيب بالنسبة للتصنيف الدولي المتعلق بمستوى التعليم وكل ما يحيط ويتعلق بهذا القطاع. أهي المسرحية ذاتها تتكرر عام بعد آخر أم هو الواقع وحقيقته. ألم يتغير العالم كثيرا هذا العام؟. ألم نعش عام ربيع عربي، وصعود وهبوط وأحياء وأموات وانتخابات وانتكاسات...؟ كلا. فلماذا هذه الانتكاسات في التعليم، وكذلك في باقي المجالات؟ السؤال صعب جدا، كما سبقت الإشارة مرات عديدة في مقالات سابقة، كما الجواب أصعب أيضا. لكن الذي لا شك فيه هو أننا نعيش زمن انتكاسات في جميع المجالات، لذلك لن يكون التعليم استثناء، أو بتعبير أوضح، هذا الوطن يعيش انتكاسة شاملة. وبالتالي فأمره لن يصلح عن طريق بمبادرات جزئية أو رتوشات قطاعية مجالية، بل بإصلاح عام وشامل. لكن السؤال: من أين البداية؟ قبل الربيع العربي كان الكثيرون يقترحون، هنا وهناك، اقتراحات وتصورات حول مداخل لإصلاح حال أمتنا وأقطارها. فقد تعددت التصورات، لكن قلة هم من كانوا يدعون إلى إصلاحات الشاملة. أعني بها تلك الأصوات التي تنادي بتغييرات جذرية لطبيعة الأنظمة الحاكمة كخطوة أولى، وبعدها يمكن الحديث عن الخطوات اللاحقة. أما ما عدا ذلك، فقد جربته أغلب الدول عقود وسنوات عن طريق معارضات توالت داخل كل دولة منذ الاستقلال. أغلبية الأنظمة العربية استطاعت أن تروض المعارضات حتى أصبحت جزءا من بيتها (بنية الأنظمة القائمة) بل وأصبحت تدافع عنها بقوة. أما بعد الربيع العربي فقد تأكد بأن الخطوة الأولى للإصلاح هو اجتثاث المستبدين وإبعادهم عن مراكز القرار والحكم لمباشرة عملية الإصلاحات الشاملة والجزئية، لأن إرادة الإصلاح بدون الحرية الكاملة والتعبئة العامة بعد المشروعية المجتمعية والديمقراطية لن تقدر، مهما كان طبيعتها، أن تحقق إلا أهدافا جزئية وسطحية. فالاستبداد أبدا لا يوفر ولن يوفر شروط الصلاح، ومتى كان الإصلاح مع الاستبداد. إن أصل أزمة التعليم بالمغرب وببلدان العالم الثالث عموما هو أصل باقي الأزمات. فالسياسة والاقتصاد والمجتمع و... لا يمكن إصلاحهما إلا بتوفر كل الشروط الملازمة والموازية للإصلاح. الإصلاح الحقيقي لهذه المجالات ليس له سقف ولا يرتبط بمصالح أفراد وفئات، بل بمصالح المجتمع والشعب عموما، بل بمصالح الأمة بأكملها. كما لا ينبغي أن يخضع (هذا الإصلاح)لإرادة فرد أو طرف واحد، بل لإرادة الحياة المجتمعية الشاملة بإرادة توافقية إذا أمكن. جميل أن تكون الديمقراطية، والتي تعني فيما تعنيه: حكم الأغلبية مع صون حكم الأقلية (أو الأقليات) وسيلة ناجحة لتدبير أمور الدولة وعلى رأسها الحكم. لكن الأجمل من ذلك أن يصبح الكل في توافق تام، أو ما أمكن، على مصلحة الوطن والمواطنين. ولا أعتقد آنذاك، وحتى مبدئيا، أن المصلحة العليا قد تعارض المصالح الخاصة. بل الأمر إذا كان لا ينافي الدين والعقل والمنطق سيكون متكاملا ومندمجا. آنذاك، سيصبح النقاش حول إصلاح التعليم، وباقي القطاعات، أمرا ممكنا ومتاحا وسيكون سهلا إذا نبع أصله من مشروع مجتمعي كامل ومتكامل لا يلغي لا مصلحة الفرد ولا الجماعة بل يجمعهما. أما الجزئيات التي تشغلنا هذه الأيام: كخرجات وزيري التعليم البهلوانية وقرارات السيد الوفا المتعلقة بتفاصيل لا تقل أهمية وكذلك تصريحات وزير التعليم بشأن إعادة عسكرة الجامعة مرة أخرى وإلغاء مجانية التعليم ومحاربة تحركات وتحركات الفصائل الطلابية بدواعي ومبررات متعددة ...، فسوف تبدوا أمورا من الأسهل تجاوزها ومشاكل يسهل حلها. مرة أخرى، إن إصلاح التعليم لا يمكن أن يتم إلا بإرادة سياسية وواضحة شفافة وقوية وبإشراك توافقي لكل المعنيين بالقطاع أخذا بعين الاعتبار ضرورات المرحلة ومتطلبات العصر وفق إمكانيات الوطن لكن بتطلع إلى الأحسن في عالم العولمة. لكن أن يتم هذا دون الانطلاق في ظل مشروع مجتمعي شامل يخدم مصالح الأمة الكبرى ، أعتقد بأنه لن يحقق سوى أهدافا جزئيا. يصعب هذا في واقعنا الحاضر، معناه بأن إصلاح التعليم، لن يتم بالشكل المطلوب والمرغوب في ظل شروط الواقع. وتبقى إرادة الله وحده، خاصة في ظل ما نعيشه في زمن انتفاضة الشعوب الحل البديل الأخير. أما غير ذلك فقد جربته شعوبنا طويلا. ورغم ذلك سنعود مرة أخرى إلى أزمة التعليم ومعها أزمات هذا الوطن الحبيب الذي يكسننا قبل أن نسكنه.