بعد تونس ومصر، وفي مقالة تستشرف ما سيجري في وطن العرب نشرت تحت عنوان «إصلاح أم تمرد»، قلت: إن الخيارات باتت واضحة كالشمس، فإما أن تبادر النظم العربية إلى إصلاح أحوال بلدانها ومواطنيها أو أن تعيش تمردا مجتمعيا كاسحا يشبه ما وقع في البلدين العربيين الثائرين. ثم أضفت: إن الإصلاح المطلوب لا يجوز أن يكون من طبيعة جزئية أو التفافية واحتيالية، ولا بد أن يكون، كما قال أستاذنا إلياس مرقص، «إصلاحا أكبر من ثورة» أو ثورة كاملة من فوق، بعد ثورة العسكر التي بدأت أوائل الخمسينيات وانتهت، في مختلف أشكالها، إلى فشل كامل مطلع العقد الأول من القرن الحالي. وها نحن نعيش إخفاقها الذي بدأت معالمه تتضح مع تونس، وتأكد في مصر أنه يفتح الباب أمام تحول لن يكون حدثا عابرا أو انقلابا عاديا، بل سيعد من الآن فصاعدا فاتحة تاريخ جديد يرجح ألا يبقى بعده أي شيء على ما كان عليه. هي إذن «ثورة من فوق»: انقلاب على الذات تعده الحكومات، يشبه ما فعلته حكومات أوربا بعد عام 1789 عندما أدركت أن زمنا جديدا أتى مع الثورة الفرنسية، وأن من الحتمي ملاقاته بتدابير وإجراءات حكومية تقوم، من جهة، على شد مفاصل الفئة الحاكمة وتوسيع صفوفها عبر دمج قوى اجتماعية جديدة في عالمها السياسي ومشاركتها في مصالحها، وإن لم تنتم إلى عالمها الاجتماعي، على أن يتم الدمج بمنظار هذه القوى ولفائدتها، وبما يؤدي إلى تغيير وتجديد طابع القوى التي يراد الدفاع عنها، وهي هنا قوى الإقطاع؛ وتنهض، من جهة أخرى، على تحييد قوى المجتمع العاملة والمحرومة، التي يمكن أن تهدد أو تهدد بالفعل النظام القائم، منفردة أو بالتحالف مع رأس المال. اعتمد الإصلاح، إذن، على ركائز ثلاث: الحفاظ على ولاء قوى الأمر القائم العسكرية والأمنية؛ واستبعاد إمكانية قيام تحالف يضم قوى المجتمع الجديد: قوى العمال ورأس المال من خلال ربط الأخيرة بالنظام ربطا يجعل مصالحها منه فصاعدا معيار ومرشد سياساته ومصالحه، وإن بصورة تدريجية؛ وأخيرا، اتخاذ ما يلزم من إجراءات إصلاحية تمس علاقات الملكية وأشكال الحكم وممارسة السلطة، من شأنها أن تحول دون نشوب ثورة من تحت كالثورة الباريسية التي أحيت أمل الحرية في عقول كبار فلاسفة ومفكري وأدباء أوربا، مثلما يوقظ «الربيع العربي» أمل الحرية في قلوبنا، نحن عرب اليوم. الإصلاح مرفوض لأنه انقلاب على الذات، هذا ما يقوله اليوم بعض حكامنا ممن يخافون الخروج من القوقعة الضيقة التي سجنوا أنفسهم وشعوبهم فيها، ويرفضون خيار الشراكة مع قوى المجتمع الجديدة، قوى العمل والمعرفة، واتخاذ تدابير من شأنها الحيلولة دون تمرد المجتمع الأهلي، تلاقيه في منتصف الطريق وتلبي حاجاته ومطالبه، ويفضلون انتهاج طريق مختلفة تقوم على استخدام ما يملكونه من قوة ضد مواطنيهم، كأن القضاء على هؤلاء يكفي للقضاء على ضرورة الإصلاح الذي إما أن يجعله فشل النظم أكبر من ثورة أو أنه لن يرضي أحدا ولن يمنع طابعه الناقص أو الاحتيالي انطلاق التمرد تلو الآخر، إلى أن يقع أحد أمرين: دمار النظام وتغييره بالقوة أو دمار المجتمع كله وإصابة الدولة بضرر بالغ يعطلها ويرميها على سكة انحدار قد تكون مديدة، لكنه لن تقوم لها قائمة ولن تقدر على أن توقف انزلاقها نحو هاوية التاريخ السحيقة أو تنجح في استعادة توازنها والتقاط أنفاسها مهما بذلت من جهد، لأنها تكون عندئذ كمحتضر يريد إيقاف زمان يسرع موته أو كمهزوم يسعى إلى إخضاع الواقع لحسابات تقادمت وفات أوانها، مثلما حدث لدول شرقية عديدة بدت جبارة وعصية على التحدي والموت، لكن انفجار تمرد اجتماعي تلو الآخر قوض أركانها وحولها إلى حطام جعل كل من هب ودب من جيرانها يطمع فيها ويخضعها، مع أنها عاشت سنوات بل وقرونا بعد ذلك. الغريب أن هؤلاء الحكام يسمون عنفهم ضد مجتمعهم عامة وقواه الجديدة خاصة إصلاحا، أو هم يجعلونه شرطا للإصلاح، كأنه يمكن أن يوجد في عصرنا إصلاح لا يغير السلطة، يقوم على إسكات المواطنين بالقوة وتخليهم عن مطالبهم وحاجاتهم، بما في ذلك تلك التي تتوقف عليها حياتهم وعلاقاتهم مع الدولة وفي ما بينهم، أو كأن القوة تصلح لحل مشكلات من طبيعة معنوية وروحية، لا تستقيم حياة الإنسان بل ولا تكون حياة بدونها. هذه الطريقة في الإصلاح يبررها أصحابها بمسوغين اثنين: أولا: الشعب متآمر أو يسير وراء متآمرين، فلا مجال لإصلاح يغير أي شيء قبل القضاء على تمرده. وثانيا: ليس الإصلاح ابن ضرورة تاريخية/مجتمعية، بل هو نتاج إرادة سلطوية/سلطانية، ولا مفر من أن يقبله الشعب المهزوم باعتباره منحة من سادته، مع أن هدفه تثبيت سلطتهم لا الاستجابة لحاجاته أو لمقتضيات التطور. هذا الأسلوب يجعل الإصلاح مساويا لإرجاء الحلول والتهرب منها، ويبني السياسة على تجاهل المشكلات كي تزول من تلقاء ذاتها أو تحل ذات يوم على حساب المجتمع، لكن النتيجة العملية الوحيدة التي تترتب عنه تتجسد في تعاظمها الذي ينقل معالجتها من فشل صغير إلى فشل كبير ومن أزمة قابلة للحل إلى أزمة مستعصية، هذا إذا فرضنا أن إصلاحا كهذا يمكن أن يحقق المحال: القفز على الواقع وضروراته والعيش خارج التاريخ وضد إرادة البشر! هناك، بلا شك، طرق أخرى للإصلاح، فالحتمية ليست تاريخية إلا بمعنى مجرد وعام. وما حدث هنا بهذه الطريقة قد يتحقق هناك بطرق مختلفة، لكنه يؤدي إلى النتائج عينها، وإن بعد زمن قد يطول. وهناك أمثلة تاريخية تؤكد صحة ما أقوله جسدها نجاح بقية أوربا في منع تكرار النموذج الفرنسي للتغير: نموذج الثورة من تحت. وكذلك نجاح الرأسمالية في فصل العمال عن المثل الأعلى الاشتراكي في البلدان الغربية، بقوة نمط حياة وعمل عاد عليهم بمغانم كثيرة وحقق لهم ما لم تحققه الثورة للعمال في روسيا ومعسكرها. واليوم، والعالم العربي يقف أمام أحد احتمالين: الإصلاح أو التمرد، لا بد أن يكون الإصلاح هو الاختيار، على أن يلبي مطالب الناس، وفي مقدمها حاجتهم إلى الحرية والعدالة الاجتماعية. ولا عذر بعد اليوم لقائل: إننا لا نملك الوسائل والقدرات الضرورية لتلبية هاتين الحاجتين وما يتفرع عنهما، لكننا نملك العنف الكفيل بإقناع الشعب بالتخلي عنهما. بغير إصلاح هذه مقاصده ومضامينه، سيلي التمرد الصغير التمرد الكبير، والمأزق السهل المأزق العصيب، والصمت الذليل الانفجار المدوي، إلى أن يتغير كل شيء: بدءا من ذلك الذي لا يدري أنه يذبح نظامه بيديه، إن هو ذبح شعبه!