لا شيء يكشف للإنسان حقيقته (أمام نفسه) أكثر من أن يوضع في مأزق يهدد وجوده، حينها يتعرف على ذاته حقا، يعرفها تمام المعرفة، كما لم يعرفها من قبل. فإما يثبت أو ترتعد فرائصه مثل فأر مرعوب. في هذا " القبْل" نعيش بوهم أننا نعرف أنفسنا، مطمئنين إلى هذا النوع من الوهم الخادع، في حين أنّ المواقف المهدِّدة لوجود الإنسان هي وحدها الكفيلة بعكس صورته الحقيقية، فإما تقصر لينتهي هذا الكشف (المتأخر) بالموت، أو تطول، فتُكتب للكائن البشري حياة جديدة، أبدا لن تكون مثل سابقتها، بعد أن عاش تجربة القرب من الموت. ما يميزّ هذه الجائحة الحالة بالناس اليوم، أنها تجربة موت جماعيّ مهدِّد، لا تخصّ فردا دون الآخرين، ولكنها وباء يتوعد الناس في صلب ما يمتازون به عن كثير من الكائنات الأخرى، في اجتماعهم، في قابليتهم لتداول المرض، وتمرير هذا الموت الجماعي الذي يُعدي باجتماعهم. وهذا شأن جميع الطواعين والآفات التي لا تهدأ دائرتها إلا بعد أن تشطب عددا لا يستهان به من أصحاب الاجتماع والاحتكاك اللّذين لا مندوحة عنهما. في مثل هذه الأحوال ينكمش الجنس البشري، ويحاول جاهدا أن يتبرأ من اجتماعياته، فيغلق الحدود ويسد المطارات والموانئ ، ويُؤمر بإغلاق فمه وجمع يديه ولا يبسطهما لا مصافحا ولا معانقا (ونحن والعناق والبوْس قصة حميمية)، ولا يعود يطلب من الدنيا غير شربة ماء وكسرة خبز وورق مرحاض. بعد أن يكون قد تخلى عمّا بيده من أدوات حجبته عن نفسه، وحالت بينه وبينها. فلا المتاع ينفع ولا الأشياء تدفع، يترك اختراعاته العظيمة التي تعب في تشييدها، فينكمش ويعود إلى ذاته، إلى جسده، خائفا، يرهب كائنا مجهريا ( لا يراه حتى) يتوجس منه خيفة، في كل عطسة أو مصافحة أو مقبض باب. فما الذي يجعل الناس يفرّون رعبا، ويتركون صحن الطواف خاويا، وما الذي يجعلهم يولون فرارا من بعضهم البعض، ينظرون إلى أحدهم الموبوء كالخارج من جهنم، يودّون لو يطمروه، مادام يحمل الجرثومة التي ستقتلهم بدورهم، ومن ذا الذي خطر على باله مرّة أن بيوت الله ستفرغ من مرتاديها!. منذ البدء والناس يطاردون غيبهم، ما غاب عنهم، ما لا يبصرون، فأصاخوا سمعهم في الكون الفسيح لعلهم يسمعون ركزا، ومدّوا أيدهم لعلّهم يطؤون بعضا من أجرامه. ومهمّة الإنسان اليوم ثقيلة والتحدي جسيم، في أن ينظر إلى ما لا تراه عيناه، إلى هذا الغيب الآخر، إلى هذه الكائنات التي لا يبصرها ولا يسمعها، الكائنات التي تهدم لذته وتهزم شمله. أمسِ حلّت الجائحة بالقرب من دارنا، واليوم تحل بين ظهرانينا، فلسنا بدعا بين الورى، فتكشفت عورة كثير من الناس، من ناقصي المروءة ومعدوميها الذين تاجروا في لوازم التطبيب، والذين بلغ بهم الجشع مبلغه، والآخرين الذين راكموا القوت والطعام ( إلى حد لا يصدقه عاقل) مثل قوارض عفنة، يبغون نجاتهم وحدهم من دون الناس. تجار حرب (ألسنا في أجواء شبيهة بالحرب) يعولون على مآسي الناس ليراكموا متاعا دنيويا حقيرا، فبس ما يوعون. يفرض هذا الفيروس الجامح قدرا عاليا من الانضباط والجدية، فلا مجال للتراخي والتلكؤ، فقد أخطأ مدير منظمة الصحة العالمية (الإثيوبي الجنسية) خطأ جسيما عندما استمر في طمأنة العالم طمأنة مريبة، مع أن جميع المؤشرات تنذر بالكارثة، فتباطأت الدول في غلق أبوابها، وحتى بعد إن فعلت لات حين مناص. صرّح مسؤول فرنسي أن ما حال بين الصينين وبين الإبادة هو انضباطهم، وهو ما تعجز عن مجاراته الشعوب الأوربية تمام المجاراة، لذلك يسارع أهلها إلى سنّ قوانين تخلوا عليها منذ زمن بعيد، فصعُب عليهم أن يخشوشنوا (ولو قليلا)، بالنظر إلى ما ألفوه من المتع التي هي من "حقوق الإنسان" في نظرهم، في حين كان من الأيسر على الشعوب الأسيوية (شرقها) أن تتأقلم مع الوضع الجديد، بالنظر إلى بنيتها وماضيها الاشتراكي القريب، والأمر في النهاية أمر تربية وسلوك وأخلاق، فإلى الأخلاق ترجع الأمم وترتدّ، وهي خط الأمان الأخير إنْ هي أرادت البقاء. كما يطرح المصدر المريب لهذه الجائحة أكثر من علامة استفهام، فيبدو الأمر سخيفا أو غير معقول على الأقل، عندما تُلصق التهمة بهوام الأرض من خفافيش وكلاب وثعابين وعقارب…، ويبدو أكثر سخافة عندما يرجع إلى دورة وبائية تظهر من حين إلى حين، تُنقص عددا من الناس وتزيحهم من على الأرض. لابدّ أن الأمر تحوم حوله شبهة فاعل ، ولا بدّ أن شيئا مريبا صنعوه وأفلتوه أو انفلت لهم ، صنعوه في المختبرات السرية التي لا يعلم بها أحد، مختبرات شبيهة تلك التي أعدوا فيها القنابل النووية التي محت مدينتين من سطح الأرض ( ومن يفعل فعلته تلك ، قادر على أن يفعل أروع منها). فمن ينطلي عليه هذا الكذب، ومن يصدق أن الأمر لا يعدو أن يكون وباء خرج من أصلاب سابقيه، من جنون البقر وأنفلونزا الدجاج والخنازير. ( هلا تساءلتم مرة، ماذا يعنون بالقنابل الجرثومية، وأي جراثيم يضعون فيها؟!). ونرجو أن نكون مبالغين. اليوم تتسابق أعتى المختبرات العالمية إلى إيجاد التطعيم الذي سينقذ حياة الآلاف من الموبوئين، ويتسابقون كذلك إلى أن يقبضوا مقابل ذلك مالا وافرا يستعصي على العد، يقبضونه ضغطا على الدول والحكومات بتوسط من المنظمات التي يفترض أن ترعى صحة الناس، وهي الأجواء التي تنتعش فيها صناعة العقاقير من قِبل المختبرات التي تأخذ بناصية الحكومات والدول ضغطا وربما ابتزازا ( يبلغ اليوم ثمن حقنة واحدة ما يفوق ملياريْ سنتيم ! علاجا مؤقتا لمرض الضمور العضلي للنخاع الشوكي AMS الذي يصيب الأطفال دون السنتين !). وبين هذا وذاك تتواصل عملية الشدّ بين الألمان والأمريكان والروس وغيرهم، حول من يسبق إلى امتلاك الترياق، ليطأطئ الآخرون رؤوسهم وجيوبهم طلبا ورغبا. ويبقى شؤم هذا الفيروس تاجا (أليس الفيروس من فصيلة التاجيات) على الأفواه والأيدي وفي الرذاذ المتطاير من عطسات المرضى والمعافَيْن لا يراه أحد.