حينما يحس المرء في نفسه زهوا أو غرورا أو حماسة زائدة يصدّق نفسه أنه هو وحده الواعي، ولا أحد غيره يفهم ما يدور في المحيط العام، فيركب قلما ضحلا، ويتأبط شرا لمحاربة ما يتوهمه أعداء، ولا ينجو من سلاطة لسانه إلا من رحم ربك. لقد وقفت على أحكام جاهزة، واستنتاجات لا تخلو من شفقة على صاحبها، وتوهمات لا تتجاوز مخيلة مبتكرها. لن أبالي بجميع الهلوسات، ولكنني سأقتصر وبإيجاز على المقال المعنون ب"إرهاب النساء في الشارع الأهداف والخلفيات" للسيد أحمد عصيد المنشور في هسبريس. فهو يفتتح مقالته بمحاولة بئيسة لتمرير خطابه العدواني المتحامل غير المبرر. فهو يتهم أطرافا تتستر على المجرمين ولا يسميها ويستخلص من خلالها أحكاما خطيرة ضد المحافظين والمتشددين الدينيين بكل فصائلهم وتياراتهم. ففي حين انطلق من قوله: "تحاول بعض الأطراف التقليل من شأن حوادث العنف والاعتداء الشنيع التي يرتكبها أصوليون ضد النساء". فإنه عاد ليوضح من هم هؤلاء ليشير تارة إلى الإسلاميين المتشددين وتارة أخرى لا يجد ضيرا في جر المعتدلين أيضا. فالظاهر أن هذا المقال بني على افتراض لم تتأكد صحته بعد؛ (صاحب الدراجة الذي يرهب الفتيات في تيزنيت). وهذا الافتراض إن صدق فهو حالة معزولة، والقوانين لا تبنى على حالات شاذة كما هو معلوم حتى عند تلامذة الأسلاك الأولى. ثم لا أدري كيف يهيج الأستاذ خلافاته مع الإسلاميين بهذا الشخص الذي لم تتضح صورته بعد، ويصدق بسذاجة مفتعلة ما قيل من إشاعات، ويبني عليها أطروحته المهزوزة، ويخلق منها بؤبؤا يُرجف به أتباعه ويخال أنه يرعب به أعداءه. فهل فعلا يمكن اعتبار هذا الشخص الذي اعتدى على بعض الفتيات بطريقة يمتزج فيها الغرائبي بالعجائبي شخصا يخدم أجندة إسلاميين معتدلين كما بدا له؟ فأين هذا الشخص من باقي المجرمين والمتسكعين والمخمورين الذين يتحرشون بالنساء أمام أعين الآباء والأبناء بحجة الحرية الشخصية؟ وأين نضع من هم فوق القانون باعتمادهم عصبيات أو مناصب فيشكلون عصابات تبيع وتشتري في اللحم البشري البض وتصدره إلى الخليج؟ أليس في هذا الفعل المشين أيضا ما يعتبر تشييئا لآدميتهن وزرعا للفتنة وترغيبا للفتيات من لدن كبار تجار النخاسة في البداية وترهيبا لهن حين تنتزع منهن جوازات سفرهن في البلد المضيف؟ ألا تعتبر الدعوة إلى التحرر الكلي في غياب استراتيجية موازية تضمن التعليم والتكوين بمثابة تحريض على الفساد وهو ما يعاقب عليه القانون؟ فلم لا يعكس السيد عصيد الآية، و يُدير بصره نحو تلك العصابات والسكارى والمشردين الذين يعيثون في الأرض فسادا، وينشرون الرعب ليل نهار في قلوب الفتيات والنساء أمام الإعداديات والثانويات والجامعات والمعاهد والأسواق والحافلات والقطارات والمقاهي... أليس هؤلاء المنحرفون نتاج تلك الفلسفة التي يدعو إليها، ويحرض الناس عليها بدعوى الحرية والتحرر في بلد يعاني من الجهل والبطالة والتشرد والانحلال الذي تنتج عنه ولادات غير شرعية تعد بعشرات الآلاف سنويا؟ فهو ينطلق من إدعاء لم تثبت صحته، ويمضي قدما في حبك إخراج لا يتقنه إلا أمثاله ممن يرون بعين واحدة، ويسمعون بأذن فريدة. إنه يعمل في البداية على إيهام الناس أن إرهاب الفتيات من طرف إسلاميين متشددين أمر واقع و عام، وينفي أن تكون حالات شاذة ومعزولة، ثم يختم ذلك بإلباسها لبوس الساحرات ليصل من خلالها إلى اتهام الإسلاميين بكل تياراتهم أنهم هم من يحرض على الفتنة ويعملون في الخفاء باستعمال العنف لخدمة أهداف مبطنة. وفي هذه التهم الخطيرة وحدها ما يستدعي تحريك مسطرة المتابعة. كنت انتظر من الأستاذ "المتنور" أن يذهب مباشرة إلى مكمن الداء، فيدخل مختبره، ويأخذ عينات من المجتمع بجميع أصنافه، ويعتزل الدنيا، ويعكف على دراسة علمية ومتوازنة يُغَلب فيها العقل والمنطق والموضوعية لعله يصل إلى نتيجة تقترب مما ذهب إليه جل علماء الاجتماع من أن الخلل يكمن في الجهل المتفشي وانعدام الشغل، ويحقق بذلك هدفا في مرمى الفكر الإنساني الخالد. فالمتطرفون الإسلاميون والمتطرفون العلمانيون والحداثيون هم أبناء هذا البلد؛ فهؤلاء يريدون أن ينشروا الفضيلة بطريقتهم الخاصة وبأيديهم، وأولئك يبتغون نشر الرذيلة بوسائلهم خارج إطار القانون أيضا. فأين يوجد الفرق بين الفريقين وكلاهما غارق في أوحاله؟ فلو قام مركز مستقل بإحصائيات دقيقة لوجد أن أتباع عصيد وخريجي مدرسته يقومون بجرائم العرض بنسب تعلو ولا يُعلى عليها، وأن نسبة المتطرفين دينيا؛ الذين يريدون تغيير "المنكر" بأيديهم أقل بكثير مما يطبل له السيد عصيد ويدعو له بالويل والثبور وعظائم الأمور. إذن ما هذه الأحكام المذبذبة إلا دليل واضح على أن الأستاذ بعكس ما يدعو له لا يقبل بالرأي الآخر، ولا يريد أن ينصت له أصلا. فهو يظن في قرارة نفسه أنه الوحيد الذي يملك الحقيقة، وأن أحكامه تُقبل من المجتمع المغربي مهما كانت درجة انحدارها و تحيزها المطلق. ويعتقد جازما أنه يملك الحقيقة المطلقة وأن ما تعلمه في الجامعة لمدة أربع سنوات أو طوال سنوات التدريس يعلو على ما تعلمته الأمة المغربية والأمة الإسلامية واستوعبته طيلة قرون خلت. ولا أدري كيف نسي وجود النسبية في العلوم البحتة وبالأحرى في العلوم الإنسانية. وإذا كانت ذاكرة السيد عصيد فقيرة فإن ذاكرة الشعب المغربي قوية ولا تنسى. وليتذكر أن خريجي المدرسة التي يدعو إليها من المتسكعين والسكارى والمجرمين الذين ظنوا أن الحرية هي الاعتداء على أعراض الناس وأموالهم فاستباحوها ثم وجدوا أنفسهم في السجون هم ممن وقفوا ضد حركة 20 فبراير، وهم من جندتهم السلطات لترهيب المنادين بالقضاء على الفساد والاستبداد. أفلا يسأل الأستاذ نفسه عمن أعطاه الحق ليطعن في الإسلاميين فهل يُناصب جل الشعب المغربي عداءه؟ فمن اعطاه الحق لتقديم الدروس للمغاربة الذين زكوا الاسلاميين وأوصلوهم إلى سدة الحكم بعد أن لفظ الشعب المغربي التقدميين والعلمانيين الذين لبثوا في الحكم سنين عددا وما استطاعوا إلا أن يضاعفوا تفقير الشعب وإغناء الأغنياء وتكريس القسمة الضيزى. أظن أن الإشكال ليس في الإسلاميين ولا في العلمانيين ولا في ما يتهيأ له من هلوسات من حين لآخر وإنما هو في تدبير أمور الشعب تدبيرا حكيما وعادلا وتوزيع الثروة توزيعا يضمن المساواة النسبية ويحقق الكرامة الإنسانية. وقبل هذا وذاك لابد من إلزامية التعليم وهو ما يتطلب إيجاد فرص العمل والدخل القار للجميع حتى يتسن لكل مغربي ومغربية كسب المعارف التي تجنبهم الجنوح نحو التطرف من كلا الجهتين. فالتعليم المتوازن يعطي الإنسان بوصلة الوسطية والاعتدال، ويمنعه من ركوب المخاطر والأهوال لأنه يكون محصنا بميزان الأشياء و متنبئا بعواقب الأفعال. ولا أدري كيف يطلق الأستاذ أحكاما عامة في كل الاتجاهات من دون أن يكلف نفسه عناء التحقق من كلامه أو البرهنة على مزاعمه وادعاءاته. فهو يحكم على الإسلاميين (العدالة والتنمية) بأنهم معتدلون ظاهريا ومتطرفون في دواخلهم ومشروعهم البعيد. وما كنا ندري أنه يعلم الغيب ويتنزل عليه الوحي ويستبلد كل الذين صوتوا على العدالة والتنمية بمشروعها المعتمد على الحسابات الدقيقة وليس على التنبؤ والظن كما يفعل هو من دون حسيب أو رقيب. ولم يكتف الأستاذ بأحكامه التي يظن أنها لا يأتيها الباطل من بين يديها ولا من خلفها على حزب معين بل إن غروره أوصله إلى الحكم على شعوب بكاملها لأنها لا تدين بدينه فوصفها بالمرض ومثل بالسعودية والسودان وإيران. وجعل منها نماذج كاريكاتورية لا لشيء سوى لكونها تفكر تفكيرا مغايرا، و ترسم لنفسها رسما لا يتلاقى مع الرسم الذي ارتضاه وظن أنه قابل للتسويق متى وحيث شاء. ويتوصل بطريقة بهلوانية لا يصدقها إلا من اعتاد أن يملأ قلبه حنقا وغيضا وحسدا على كل من يخالفه الرأي إلى أن هذا الاعتداء على الفتيات يكرس ثلاثة أمور.يجملها في شرعنة العنف ومسؤولية المرأة عما يقع وتعويض القانون بنظام الحسبة. فاستعماله لكلمة "تكريس" توحي بوجود هذه الأمور لدى هذه التيارات الإسلامية وأنها لا تعمل الآن إلا على تقويتها وترسيخها حسب ادعاءاته. وهذا التضليل في الخطاب هو في الواقع أحكام قبلية وصدى لأجندة خارجية كانت حدتها تطغى في عهد بوش فخَبَتْ في السنوات الحالية لما ظهر بطلانها، ولكن الأبواق ما زالت لم تستنفذ بطارياتها، لذا ما زال الغل مختمرا في دواخلها. إن الشعوب لها عادات وتقاليد وأساطير ولا يمكن لأي أحد أن يغيرها في لحظة لكونها لا تساير نزواته أو شطحاته أو هلوساته. فقيم الشعوب لا يمكن لشخص أو أشخاص أن يسخروا منها رغم ما يظنون أنهم وصلوا إليه من العلم لأن القيم والعادات الإنسانية هي تراكم معرفي وديني و سلوكي جماعي يدخل في مكونات التراث الإنساني الخالد. فالقيم ثقافة وسلوك واقتناع تكتسب بالاحتكاك والتواصل والتدافع. ومن يظن أن القيم تتغير بالوعظ والإرشاد أو بالخطب الطنانة أو بالنبز واللمز فهو واهم. وليعلم الأستاذ عصيد وأمثاله أن صنع الأمجاد والتاريخ لا يمر من الانتقاص من الآخرين أو الدخول في معركة وهمية ليست إلا في أذهانهم. وليستفيدوا من أخطاء بوش الابن وصعلكته وما جره على بلده والعالم أجمع من ويلات وأزمات جراء التهيؤات والحروب الاستباقية. وكم أسِر من أشخاص اعتبرهم متطرفين ولكن أغلبهم ثبت لاحقا أنه تشابهت عليه أساميهم وظلموا، وكم من مئات الآلاف من شعوب الأرض قتلت بدون ذنب سوى ما ظن بوش باسم العلمانية والحداثة والديمقراطية أنه هو الحق.