الأمازيغية والعربية صنوان لا يتصارعان إلا في مخيلة من في قلوبهم مرض لم تبتل العربية والأمازيغة بناكر للجميل في المغرب قدر ابتلائهما بالسيد أحمد عصيد. فبقدر ما كانت الأولى "وسيلته" ليعرفه الناس، ومثلت الثانية "قضيته"، التي يقدم بها نفسه لهؤلاء الناس، بقدر ما سعى هو بخبث كتابته وسوء الطوية فيها لزرع بذور الشقاق بين هاتين اللغتين كلما تعلق الأمر بالتفاعل بينهما. لقد تعلم السيد أحمد عصيد، العلم والأدب بالمقدار الذي يجعله يفرق بين المغاربة فقط. فتلك كانت دوما مصيبته التي كان يخالها -وما يزال- تخفى على الجميع، بينما كان هذا الجميع يراها تقطر باستمرار، سما ناقعا، وترشح حقدا دفينا بين كلمات وسطور مقالاته.. فما الذي كان يُضيره مثلا "ككاتب مغربي" لو التمس حروفا عربية وآثرها على الحروف اللاتينية لنتهجى معه في مقاله الأخير، بعنوان " زعيم فاته القطار"، مثلا أمازيغيا جاء به من قاموس الهجاء عنده ل"يهجو" به السيد عبد الواحد الفاسي" . لماذا أصر في مقالة كلها عربية فصحى، بأن يختص هذا المثل الأمازيغي بكتابة فرنسية من دون غيره، لو لم يكن ينوي أن يُرسل إشارة خاطئة مفادها أن العربية والأمازيغية لغتين في صراع دائم بالمغرب؟ إنه مهما جهدنا تفسيرا للأمر لا نخرج أبدا في استنتاجاتنا عن كون هذا الكاتب إنما يشقى كل هذا الشقاء ويُبلي كل هذا "البلاء"ويشحذ ملكته المتورمة ويستدعي مخزون الخبث فيه لينهال فقط بمعول الهدم على كل الوشائج التي تربط بين اللغتين، اجتهادا منه وإمعانا في استفزازنا نحن المغاربة الأمازيغ. فصاحبنا يعي جيدا في قرارة نفسه أن لا أحد يرضى ترجمة للأمازيغية عن حروف التيفيناغ، بغير حروف العربية خصوصا حين نتوجه بالخطاب إلى المغاربة. فذلك أجدى له ليظهر على الأقال بمظهر المُحترم لعقولنا وفطنتنا ومشاعرنا وهويتنا الأمازيغية التي تعد العربية الآن أحد أهم مكوناتها. لم يزد عصيد، بمثل هذا التصابي والتهور، أن كشف عن ما يخفيه مرة أخرى، وعرى عن حقيقة مقاصده، ولم يزد سوى أن أفرج عن الحُطيئة الكامن فيه. فقدم الدليل على أن غريزة الهجاء تطغى على فضيلتي النقد والموضوعية فيه، وأن حب الفرقة والخلاف يغلب حس الوحدة والالتحام لديه، وأن الكتابة، رغم طول عهده بها، لم تشذب خلق الفظاظة وسلاطة اللسان عنده. إن لهذا "الكاتب" أسلوبا يدل عليه مهما جاهد في الإخفاء والنفاق، فالكل يستحي أن يعلن له حقيقته، حقيقة أنه لا يكتب نصرة للأمازيغية وقضيتها. بل "يتمازغ" علينا لنرجسية وحب في الظهور لديه لا يقاومان...لمرض في قلبه استقر استقرارا فيه، ليس له في شفائه منه أمل ولا إلى إنقاذه منه سبيل. وإن كنا نرى في قلبه بقية من فطرة. وإلا ماكان هجاءه مكر به هذه المرة، فصوبه نحو طبيب للقلوب- يقول أنه لا يدريه أين كان في السنين الخوالي- فما يدرينا أن يكون هذا شكلا من أشكال تهيئ الله له لبدء رحلة العلاج –عافاه الله-. لا يحترم عصيد فضيلة الصمت، وإن كان الصمت في حالته من ذهب، بل صمته خير من نعيق البوم الذي يصدر عن كتاباته، لذلك ظل سادرا في ضلاله القديم، يقطر حقدا على كل ما يمت للوطنية والوطنيين بصلة، سواء كانت بيولوجية أو عقدية أونضالية. ينتشى خيلاء بمفاهيمه للهوية المغربية التي عفا عنها الزمن، مدعيا امتلاكه للحقيقة دون أن تحوز حقيقته إلى اليوم أي التفاف شعبي، مُتحجرا، مُتعصبا، واقفا عند مرحلة بعيدة من التاريخ أبعد بسنوات ضوئية من "كنانيش" علال الفاسي، هذه المرحلة التي يرسمها ويتخيلها للشباب بما يوافق هواه الذي ينزع إلى الخلاف والخصومة والاصطفاف المقيت. إنه لا يزال في مكانه الذي ألفناه فيه، حيث يتربص بالفكر الوطني الحر الوحدوي، وحيث يُدمن قاعدة "خالف تُعرف"، ينظر لنفسه على أنه المتكلم الأوحد باسم الأمازيغية، وعرابها الذي لم تجد به كل الأزمنة، و"فارسها المغوار" الذي لا يشق له غُبار، سنوات طويلة من "النضال" لم تصنع له أصحابا، فبالأحرى أن تنشئ له مدرسة، وهذا الذي ربما يفسر سر حقده على الرواد، فقد ظل الرجل فقط صوتا نشازا، وحيدا، أو كالوحيد، يُؤدي "وظيفة منبرية" لا تخلو من فائدة ومنفعة، إذ من خلالها يطل المغاربة على نُذُر الشؤم والفرقة والخصومة التي يحبل بها الخطاب المتطرف لأمثاله، فيحجمون عنها إحجاما، وينفرون منها نفورا، وحده السيد أحمد عصيد يستطيع أن يقيمه لنا من خلال مدنا بعدد "مريديه" الذين لا تضيق بهم أصغر مقهى بالمغرب، ولذلك ظل حديثه دائما أسير الصالونات المكيفة، عاجزا عن إيجاد موطئ قدم له في عقول وقلوب الجماهير.. إن الأمازيغية، كما قال عصيد لا تستجدي أحدا لأنها لغة المغاربة أجمعين، هويتهم التي يضنون بها على الضياع. لكن "عصيد" هو من يستجدى بالأمازيغية موقعا تحت الشمس، حيث جعل منها "قضيته" التي يتكسب بها، وريعه الذي يحرسه بكل ضراوة ليبقى على قيد الكتابة والحياة، لذلك نرمقه يتوسل لهذا الريع بكل الوسائل، فالغاية تبرر الوسيلة، ولو كانت هذه الوسيلة تعنى الإرهاب الفكري ضد جميع الآراء والتنقيص والتبخيس لرجال يعدهم المغاربة أعلام وأفذاذ هذا الوطن، مثلوا النبوغ المغربي، وأطبقت شهرتهم الآفاق، فإذا كان ما خطه علال الفاسي، الذي كان يستقبله المغاربة في خنيفرة والخميسات بنفس الحفاوة والمحبة اللذين كانوا يستقبلونه بها في فاس والرباط. وباقي المدن المغربية، مجرد "كنانيش"، فماذا تكون كتابات "عصيد" غير كونها مجرد عصائد كأنما لكتابته من اسمه نصيب. ينهج عصيد أسلوب العاجز، حين يجنح لمناقشة الأشخاص عوض مناقشة أفكارهم وآرائهم، وحين يطوق تطرفه بسياج من السخرية والقذف والاستهزاء وطول اللسان، فيمنع بذلك أي نقاش جدي موضوعي لائق بكاتب غير مستبد يحترم عقول قرائه، لذلك كان تجاهله يشكل ردا عليه، ما دام السجال معه سيكون مجرد ثرثرة لا تفيد، وعقله مقفل، ومع ذلك فلنناقشه ونخرجه من منطقة الظل قليلا، ولننفض عنه شيئا من الغبار فقد يموت غما وكمدا. ولنبحث أولا في "الخطيئة" التي أراد عصيد أن يأخذ بها عبد الواحد الفاسي أخذا، كل ذنب الرجل أنه فكر علانية دون أن يشك، أن من بين بني جلدته من نصب نفسه رقيبا في مواضيع بعينها، ثم أدلى برأي شخصي لكل المغاربة مفاده "أنه كان من الأجدى أن تكون هناك لغة رسمية واحدة كالأغلبية الساحقة من دول العالم، وأنه كان من الأفضل كتابة الأمازيغية بالحرف العربي لتكون كنوزها مشرعة للجميع". لقد اجتهد الرجل وقد يكون أخطأ أو أصاب، ولكنه قدم رأيا قد يقاسمه فيه أغلب المغاربة. ومع ذلك لم يصعد إلى الجبل، وأبدى استعداده كمواطن للانخراط في تنزيل الدستور الحالي، كما وافق عليه الشعب المغربي. فلماذا تثور ثائرة عصيد؟ وهو الذي لا ينفك يدعو صراحة إلى إعادة النظر في التنصيص على إسلامية الدولة، ويتحسر ليل نهار على عدم إدراج حرية المعتقد ومدنية الدولة ضمن مقتضيات الدستور. يفعل هذا، منذ زمن دون أن يتعرض أو يتحامل عليه أحد، متمتعا بحرية التعبير كما تضمنها له القوانين، ولكنه لايعتبر الآخرين ذوي حق مماثل، إلا إذا كانت فكرتهم ستأتي مطابقة لما يدور في ذهنه من تصورات وتمثلات وأوهام في موضوع الأمازيغية. كأنما أضحى في غفلة منا، نحن الأمازيغ حارس معبد الأمازيغية الأمين، ومفتي الأمازيغية الذي ما بعد فتواه من قول أو رأي، المفتى الذي أين منه كل أجدادنا الأمازيغ العظام من أمثال طارق بن زياد ويوسف بن تاشفين والمهدي بن تومرت وعبد المومن بن علي الكومي، وأبي الحسن وأبي عنان المريني... الذين نسجوا وشائج الالتحام بين العربية والأمازيغية. ولم يلقوا بالا للفقاعات التي تملأ رأس "عصيد". أين هو من الرواد من أمثال المختار السوسي، الذي أنشد قصائد مزج فيها بين العربية والأمازيغية بالحرف العربي، وعبد العزيز بن إدريس الذي ألف كتابا أمازيغيا في السيرة النبوية سماه "إغميسن سيد النبي"، أي "أخبار النبي" بالحرف العربي؟ يروج عصيد بتربصه هذا وتحينه الفرص بكل من يتكلم في الأمازيغية، لخطاب مُنفر لا يغري أحدا، ولعل ذلك يريحه ما دام يرضي حب الشهرة فيه، ويمكنه من قطف الثمار التي لا تخفى على أحد، ولو كان ديمقراطيا كما ينظر لذلك، لوعى عزلته وفهم مكانة أفكاره بين الناس ولانزوى بعيدا بعد أن خابت توقعاته عندما اختار المغاربة في آخر اقتراع عرفته المملكة، بأن يتصدر حزبين المشهد السياسي، هما (العدالة والتنمية والاستقلال) اللذين اختصهما بمناوئته، وصل إلى دعوته المواطنين عدم التصويت لصالحهما. لو كان صاحبنا، ذا حس مرهف كباقي الكتاب، لجس نبض الجماهير ولصدح بآمالها في محاربة الفساد، ولراجع كثيرا من مسلماته وقناعاته، ولأقلع عن هجائه وذمه لغيره، لينتهي به المطاف ربما إلى ذم نفسه وهجائها بعد أن أضاع عمره في مطاردة السراب وتسويق الأوهام والمغالطات. فرجاء أنت أمازيغي مثلنا، ولا تظن طرفة عين أنك أكثر غيرة منا عليها، إذ لا نذكر بأننا فوضناك يوما أمازيغيتنا سواء بآلية ديمقراطية أو غير ديمقراطية، فلا تزايد علينا ولا تخض بأمازيغيتنا حربا ضد طواحين هواء تراها وحدك. رجاء اترك الأمازيغية وشأنها، فحتما سيشتد عودها بدون أمثالك، فالعصبية العمياء تعني الجمود والتكلس، وما كنا نحن الأمازيغ يوما بعتاة أو متعصيين. *طبيب ودكتور في العلوم السياسية