يستعد الآلاف من التلاميذ في هذا البلد، ومعهم الآلاف من العائلات المغربية، لاجتياز امتحان شهادة الباكالوريا قبيل أيام، وكلهم آمال وأحلام لتشييد تجربتهم وتخطيط حكاية قصصهم في هذه الحياة. تتعدد أحلام التلاميذ وتتنوع من تلميذ إلى آخر، ومن أبناء طبقة اجتماعية إلى أخرى، تماما كما هو شأن الشباب في هذا الوطن، الذين اجتازوا منهم هذه المحطة والذين لم يجتازوها. يعلم الله عز وجل وحده كم تبيت تلك الأم المسكينة ساعات طوال، بالليل والنهار، طالبة راجية ربها تعالى لأن يكون ولدها من الموفقين، ولم لا من المتفوقين في هذه المحطة الأساسية بالنسبة لمستقبله، وفي الغالب، لمستقبل عائلتها(في نظرها). الشباب والتلاميذ عادة ما يستندون في بناء وتشييد أحلامهم لما بعد الباكالوريا إلى نماذج ينطلقون فيها من الواقع الذي يعيشون فيه أو المحيط الذي ينتمون إليه، لسبب أو لآخر. فهذا يريد أن يصبح أستاذا لمادة كذا لأن أستاذ المادة الذي يدرسه يعيش ميسرا، والآخر يريد أن يصبح مهندسا لأن ابن عمه نصحه بأن أمثاله من المتفوقين ينجحون في ... وآخر تجده لا هدف عنده من وراء الباكالوريا سوى تلك الشهادة الذي ستعبر له الطريق بالإضافة إلى ذاك المبلغ المالي الذي طلب منه، لكي يصبح شرطيا لينتقم من أشخاص بينه وبينهم حسابات أو أشياء أخرى. تتعدد الأحلام وتتعدد معها الآمال والبرامج والخطط، لكن دعونا نعيش قليلا مع هذه المرحلة من العمر. من منا ينسى تلك الأيام بجلوها ومرها. من منا ينسى تلك الليلة الأخيرة ما قبل الامتحان، وهو يتخيل موضوع المواد والأسئلة، فيتمنى بكل أعماق قلبه أن يجد الفقرات التي تعجبه والتي قد استعد لها من قبل. من منا ينسى وهو يفكر في الطريقة السحرية التي تقيه أن لا يقع في فخ في مادة كالفلسفة لتي تؤرق بال الكثيرين. من منا ينسى ولو لحظة تلك العقد التي تكونت لديه، حيث يفكر وهو في اليوم الأخير في حل لتلك الدروس التي لم يسعفه الوقت لضبطها. هل يجمعها في حرز، الأمر فيه عقوبة حسية وأشياء أخرى. هل يغامر ويذهب بما عطى الله في عقله، قد يصطدم بواقع مر وقد تكون سبب في الرسوب. وهكذا في جميع المواد. قصص كثيرة وحكايات جميلة تارة، وسيئة تارة أخرى، تحكى عن تلك اللحظات والأيام. إلى درجة أنه هناك من التلاميذ من يقضي الليلة الأخيرة ما قبل الامتحان دون أن ينام ليس لأنه يبيت براجع ويستعد، ولكن لأنه طار له الفراخ، حتى تطلع شمس اليوم ذاك، فهل يا ترى طلعت أو تطلع معها شمس تلك الآمال والأحلام التي رسمها فوق رمال شاطئ حياته طيلة سنوات. الباكالوريا مرحلة عابرة كباقي مراحل العمر الضرورية. صحيح، لكنها مرحلة مهمة فاصلة بين مرحلة بناء أحلام وأخرى للسعي لتكون تلك الأحلام على أرض الواقع. في المغرب، الباكالوريا هي مرحلة تجعل التلميذ ينتقل من واقع يتميز بتشييد الأحلام إلى مرحلة اكتشاف الحقائق. الحقيقة الأولى التي يكتشفها التلميذ مجرد ما يتم الإعلان عن النتائج، ناجحا كان أو لم يكن، أن هذا الغول الذي سموه الباكالوريا ما هو إلا مجرد شيء تافه مقارنة بصعوبات الحياة وإكراهاتها الحقيقية. أما الحقيقة الثانية، والأكثر أهمية، فهي أنك إذا كنت ترغب، وأنت ترسم أحلامك، في تحقيقها فما عليك إلا أن تبحت عن مغرب آخر لتحقق فيه طموحاتك وأحلامك. المغرب كالموجات التي تغدو وتروح وسط البحر. نعم، من حقك أن ترسم أحلامك على شواطئ بأية طريقة شئت، لكن بمجرد ما يذهب النهار فتبدأ مياه البحر، الذي هو الحياة في هذه الحال، حتى يمسح كل ما رسمته. فيأتي الصباح ليرغمك على أن ترسم من جديد، فتبقى هكذا إذا لم تتخذ الأمور معطيا لها كل ما تستحق من الجدية والمعقولية. في المغرب آلاف وآلاف من الشباب كانوا خلال دراستهم من المتفوقين النجباء، لكنهم ما إن حصلوا على شهادة الباكالوريا، وجدوا أنفسهم مجبرين على اختيار مراكز التكوين المهني كبديل عن التشرد بعدما كان من قبل آخر ما يفكر التلاميذ الكسالى فما بالك من النجباء. في المغرب آلاف من الشباب قضوا أكثر من 5 سنوات بين مدرجات الجامعات وها هم اليوم يقضون، لا قدر الله، ما تبقى من حياتهم في شوارع العاصمة وبقية المدن محاولين أن يتجنبوا عاهة قد يتسببها تدخل رجال السيمي بعدما صدر رئيس الحكومة قراره -الشجاع والمسئول- بتفريق كل احتجاجاتهم أمام الإدارات الحكومية، لا يهم إن كانت سلمية أو لا، مشروعة أم لا... في المغرب آلاف حصلوا على شواهد الباكالوريا، وأضافوا إليها ثلاث سنوات أو أكثر في إحدى الجامعات القريبة البعيدة لكي يحصل على شهادة الإجازة، وعدد مهم أضاف إليها سنوات أخرى حتى حصل على شهادة الماستر، أو أكثر... ليجد نفسه مرغما على انتظار الفرج الذي قد يأتي مصدره من قرار يصدر أو قد لا يصدره آخرون، من بينهم من لا يتجاوز مستواه الدراسي الإعدادي، من تلك القبعة الحمراء بوسط العصمة الرباط؛ عساه يضع حدا لمعاناته ليصبح أو قد لا يصبح مغربيا بالحد الأدنى من كرامته الضرورية. عديدون من ينصحون بأن لا تكون لنا نظرة سوداوية إلى هذه الدرجة، فالمغرب بلد جميل، وعجيب أحيانا، فيه تكافؤ الفرص والمستقبل مفتوحة أبوابه على مصراعيها، خاصة للذين يعملون بجد. كنا نؤمن بمثل هذه المواقف، وتتضاعف ذلك الإيمان قوة مع هذه الهبة التي عرفتها عدد من الأقطار المجاورة. لكن مع توالي الأيام يكتشف المرء بأن الكلام في هذا البلد شيء والواقع شيء آخر، تماما كما أن الحلم شيء والواقع أشياء أخرى. ليس فقط لأنه من قمم اليأس، كما يقول رشيد نيني في كتابه "يوميات مهاجر سري"، تبدوا الأشياء كلها على حقيقتها، ولكن لأن الحقيقة التي توصلت لدينا نحن شباب هذا البلد الذي اجتزنا محطة الباكالوريا منذ زمان، هي هذه بدون زيادة ولا نقصان. لكن مع ذلك كله، تبقى الباكالوريا مرحلة مهمة وهامة، وتجربة ينبغي أن يعيشها الشباب بكل أمل وحلم في مستقبل أفضل. الأشياء بضدها تعرف. وما أضيق العيش، خاصة في بلد كالمغرب بعجائبه وغرائبه، لولا فسحة الأمل. لذلك نتمنى للمقبلين على الباكالوريا كل التوفيق والنجاح: للذين سينجون تهانينا الحارة، وللذين سيستدركون حظا سعيدا مرة أخرى، وأخيرا وليس آخرا، للراسبين أسف شديد. وهذه بدورها بعض من حكايات ما بعد الباكالوريا، مرحلة جنيلة وصعبة، في نفس الوقت، بأحلامها وآمالها وأشيائها الكثيرة كذلك.