قال المفكر المغربي عبد الله العروي إن أفكاره أقل ما يقال عنها إنها خلافية، ولم تكن أبدا محل إجماع وتوافق. وأوضح العروي في المحاضرة الافتتاحية التي قدمها، بمناسبة افتتاح كرسي عبد الله العروي من قبل معهد العالم العربي بباريس، وجامعة محمد الخامس بالرباط، مساء يوم الأربعاء، أنه دَرَّس في كلية الآداب بالرباط لمدة 3 عقود ونصف، وكل الطلبة اللذين درَّسهم يعرفون أنه كان حريصا على الفصل بين واجبه كموظف في خدمة الدولة والمجتمع، أي كأستاذ للتاريخ ، وبين عمله كمفكر يتعاطى للنقد الأيديولوجي. وأكد العروي أنه لم يعرض في قاعة الدرس أبدا ما جاء في كتابه عن “الإيديلولوجية العربية المعاصرة”، أو ما ورد في سلسلة المفاهيم التي نشرها. وأبرز العروي أن الكرسي الذي تم إطلاقه باسمه هو بالأساس فرصة للتباحث والتدارس، ومناقشة مفاهيم وإشكالات ارتبطت باسمه. وأشار صاحب ” الأصول الاجتماعية والثقافية للوطنية المغربية” أن التحليلات والإشكاليات والاجتهادات التي قدمها، ارتبطت بالتاريخ بالتقدم والتخلف، بالتطور والجمود، بالاستمرارية والقطيعة، بالعقلانية وللاعقلانية، بالاستقلال والتبعية، بين الثقافة والفولكلور، بين اللغة واللهجة. نهاية الدولة الوطنية وتساءل العروي في محاضرته إن كانت الإشكاليات التي تطرق لها لازالت قائمة، أم متجاوزة؟، مضيفا “إذا كانت قائمة فيجب إعادة تعريف هذه المفاهيم وتجديد أساليب تناولها”، ومن هنا تبرز بحسبه أهمية الترجمة، أما “إذا كانت متجاوزة، فبأي معنى يكون هذا التجاوز؟ وهل وجدت طريقها إلى الحل أم فقدت راهنيتها؟”. وتابع العروي كلامه بالقول: “قد يقال إني أطلت الكلام عن الدولة الوطنية/ القومية، وعن التاريخانية، لكن في المجتمع الحالي ما الذي تعنيه الدولة الوطنية ونحن نراها تتفكك وتسلب منها كل سيادة؟”. وأكمل صاحب “الاديولوجية العربية المعاصرة” كلامه بالقول : “الانتماء اليوم هو للعرق والمذهب والقبيلة وليس للدولة، ويبدو أن المستقبل هو لسلطة القبيلة أو للفدرالية الهشة”. وأضاف “يقال إنني أثنيت كثيرا على ابن خلدون، ومرد هذا أنه أولى أهمية كبرى للتدوين أي نقل الثقافة الشفوية إلى أخرى مكتوبة، لكن مشكلتنا أننا توقفنا عند هذا الحد ولم نتابع ما حصل في أوروبا بعد اختراع الطباعة، بل انني ذهبت إلى أبعد من هذا عندما قلت إن الأسيويين مهيؤون أكثر للثورة لأنهم اخترعوا آلة للنسخ قبل حتى أن يكتشف الأوروبيون الطباعة”. التمييز بين المعقول والموهوم وأشار العروي أنه في عالم اليوم حيث تسود الثقافة الشفوية، ويعيش الكتاب أزمة خانقة، ربما سنواجه مشكلات أعمق من مشكلات الأمس، موضحا أننا لا نتوفر لحد الساعة على حاسة نميز فيها بين المعقول و الموهوم، بل أصحبنا اليوم نتعلق بالوهم أكثر من الواقعية. وشدد العروي على أن الهدف من كرسيه ليس نشر أي إديولوجية بقدر تدارس مسائل راهنية ومتجددة، ومنها مسألة الدولة الوطنية/ القومية التي لم تعد مجزية، والتي يفرز معها سؤال ما البديل عنها؟ أهي اللادولة؟ أم الدولة الأممية التي تخيلها فلاسفة القرن 18 الأوربيون. وأكد المفكر المغربي أن الأمية الرقمية أسوأ من الأمية الحرفية لكن يجب أن نتساءل عن العلاقة بين الأميتين، وهل محو الأولى يعني محو الثانية؟ أو العكس محو الثانية هو شرط أساسي لمحو الأولى، مؤكدا أن الإجابة عن هذا السؤال ليست بالعملية السهلة. والمسألة الثانية حسب العروي هي الواقع الافتراضي، “هل هو من نتائج العقل العملي التجريبي؟ أم من عمل سحرة موسى؟ وهل هو فعلا غير معقول؟”. وتساءل العروي الذي اشتغل على تعريف المفاهيم ، “كيف لمجتمع غير حداثي أن يتصور واقعا افتراضيا، فصحيح أنه اخترع سابقا قصص السحر والمغامرات لكنه تحت ظل الحداثة لم يؤسس لقصص الخيال العلمي”. وأبرز العروي أنه لا خلاف أن هذه الإشكالات الجديدة تولدت في إطار معروف، هو إطار الدولة الوطنية والإنتاج الصناعي والعقلانية، ومن الطبيعي أنه لا يمكن تصور أن تدرس في إطار اللادولة، وفي إطار العمران البدوي، فكل إشكال يطرح في إطاره الخاص، وهذا ما أوضحه وفصل فيه في كتابه “بين الفلسفة والتاريخ” الذي ترجمه مؤخرا إلى العربية الفيلسوف عبد السلام بنعبد العالي. نتبادل الألفاظ كما البضائع وتحدث العروي بإسهاب في محاضرته عن قضية الترجمة، وقال إنه مارس الترجمة وعرف مكامنها ومنزلقاتها، فعندما يقوم بترجمة نص كتبه بنفسه يشعر فبما يشعر به المترجمون من صعوبات. وأكد العروي أن الخطأ الكبير الذي يمارسه العرب في الماضي والحاضر هو أنهم يظنون أن النقل والترجمة يتم لمرة واحدة، بينما الترجمة هي عملية مستمرة فلا يمر عقد في الغرب دون أن تصدر ترجمة جديدة لكتابات لأرسطو، بل تظهر فلسفات جديدة بعد ترجمة وظهور ألفاظ جديدة، بينما عندنا “نتبادل الألفاظ كتبادلنا للبضائع”. وأكد العروي أنه إذا بقينا على هذا المنوال من غير المستبعد بعد مرور قرن أو قرنين أن نجد أنفسنا في الوضع نفسه. النقاش اللغوي حاد عن مساره السوي وقال العروي إنه يوجد في الماضي كما يوجد حاليا وفي المستقبل فرق بين المكتوب والمنطوق الحر المتشعب، ولكل واحد مقامه، وهذا ما يعرفه جيدا المتحدثون بالإنجليزية ويقبلون به ويتعامى عليه غيرهم. وأكد العروي أنه كان أول الداعين إلى إصلاح شامل في المجال التربوي وعلى رأسه الإصلاح اللغوي، مؤكدا في نفس الوقت أن النقاش اللغوي في المغرب حاد عن مساره السوي. وختم العروي مداخلته بالتأكيد أنه لا تفكير جدي وعميق دون تأويل وترجمة، داعيا إلى إحداث كرسي خاص بالترجمة والتأويل.