قبل حوالي نصف قرن، كان العلامة عبد الله كًنون رحمه الله باشارات استشرافية في تقديم متميز خصصه لكتاب جائزة مغرب 1972 "أضواء على ابن يجبش التازي" لأبي بكر البوخصيبي رحمه الله. تفاعلا منه مع تأليف تأسيسي حول تاريخ وتراث تازة، مشيراً بحاسة تاريخية ووعي عميق بالمجال آنذاك أن تاريخ البلاد لا يشكو من قلة عناية بدليل ما أولاه السلف عبر العصور، بل مما ضاع من تأليف خاص بمدن ودول وأحداث وأيضاً من ندرة دراسات قائمة على هذا الإرث ومستفيدة من وثائق ورسائل رسمية وكشوف حسابية ونوازل ونصوص أجنبية وغيرها، قائلا:"هذا تلميح فقط لما يشكو منه تاريخنا.. مما علينا أن نقوم به وننهض بعبئه ونكف عن التدمر واتهام الغير بالتقصير". قبل أن يفرد فقرة من تقديمه خصصها لِما كان عليه البوخصيبي من سبق وإقدام وجهد أخرج به من العدم ترجمة لإبن يجبش وفق نظر مقارن وفكر متمعن غواص، مهنئاً اياه على تأليفه ومهنئاً المكتبة المغربية على ظفرها بأثر نفيس. ووعيا بأهمية وخلفية دعوة عبد الله كًنون تجاه كتابة تاريخ بلادنا والنهوض بعبئه والكف عن اتهام الآخر بالتقصير، فبنفس روح تهنئته للبوخصيبي وحفزه يحق التوجه لمؤلف"تقريب المفازة الى أعلام تازة" لمزيد من الجهد والاضافة. علماً أن الكتابة حول تاريخ وتراث تازة من مسؤولية أبناءها بالدرجة الأولى، الاشارة التي أوردها عبد الهادي التازي رحمه الله قبل عقود قائلا:" تلك هي تازة وأن على أبنائها..أن يقوموا بكتابة تاريخها في شتى الميادين، عليهم وحدهم تقع تبعات التعريف بهذه الماسة التي نسميها تازة". ولكل بادرة وتناول وعمل وقعه وموقعه بعيداً عن أحكام قيمة ولحظة، الجيد من العمل سيصمد والمتواضع من التأليف سيظهر مصداقاً لقوله تعالي"فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض". والواقع أن تازة هي بطبيعة عظيمة وتاريخ عظيم يجمع بين المادي والروحي والتواصلي، فالمدينة وضفافها من المجال كانت مسرحاً لأحداث هامة وتواصل انسان منذ القدم، وعليه فقد تعددت أدوارها وتجليات قيمة موقعها وممرها الذي جعلها جسراً بين الشرق والغرب من البلاد ومستقراً جبلياً لحياة وثقافة وتثاقف. ومن هنا أهمية كتاب"تقريب المفازة الى أعلام تازة" لمؤلفه عبد الاله بسكًمار، وأيضاً قيمته المضافة حول المكان والزمن والانسان والتراث والتاريخ وتازة. فهو يصحبنا في رحلة أعلام وعلماء كانوا صخوراً شامخة في عدد من المجالات على مدار زمن تازة والمغرب خلال العصرين الوسيط والحديث، من خلال ما احتواه وطبعه كعمل تاريخي سمح بزيارتهم واحداً واحداً واستحضار أعمالهم وأصولهم وتميزهم. وقد ارتبط البحث في سير الأعلام لزمن طويل عموماً بتمجيد النصر منخرطاً في"تاريخ إيجابي"، مسلطاً الضوء على أحداث تاريخية مهمشاً متجاهلاً ما هو مجتمع واقتصاد وسير وذهنيات وغيرها. وهو ما استشعره باحثون ومؤرخون خلال السنوات الأخيرة بتأكيدهم على أن قدر الفرد بات بحاجة لالتفات ورد اعتبار، فكانوا وراء الحدث شهوداً بتميز في كشفهم عن زمنهم. وعليه كانت الترجمة للأعلام بموقع ووقع لِما وجدته في التاريخ من فضاء رحب، ولِما حصل ضمنها من تطور بحث حول الفرد وهويته بعد غيابه وراء ما فضلته البنيوية من جماعة خلال ستينات وسبعينات القرن الماضي. وإذا كان جاك لوكًوف وآخرون قد ركزوا على دراسة حياة الأفراد كأزمنة مُعَبرة، داعين للبحث فيها لِما تسمح به من معاينة لظواهر وتأمل في جوانب هامة من التطور التاريخي، فلأن حياة الفرد هي بمثابة أنموذج في التاريخ يمكن من خلاله إعادة بناء فترة أو حدث أو مجتمع. مقاربة بأهمية في تجاوز القائم بين تاريخ سردي وتاريخ بنيوي من تعارض مغلوط، كانت وراء ما برز خلال العقود الأخيرة من قناعة حول أهمية العناية بالفاعل المحلّي وفق ما هو أكثر وضوحاً وانفتاحاً. عبارات على درجة من الأهمية التاريخية والدقة، استهل بها د.عبد الحميد الصنهاجي الباحث في التاريخ بكلية الآداب بوجدة، تقديماً متفرداً لمؤلَّف"تقريب المفازة الى أعلام تازة" ضمن طبعة أولى عن مطبعة المعارف الجديدة بالرباط. مشيراً الى أن"تقريب المفازة.." هذا هو بتجاذب سيرة وترجمة وسلطة أدب وقوة تاريخ، والى أن أول ما واجه الباحث الذي انبرى لكتابة تراجم عشرات أعلام تازة وأحوازها، هو كيفية سرد حياة الفرد ومن أين يبدأ وأي أثر يسلك وكيف يواجه ثغرات معرفة وفراغ وثائق؟ وماذا يعمل بخيط ناظم يجمع بين تفسيرات وأشياء مفترضة لدى هؤلاء الأعلام من فقهاء ومتصوفة وقضاة وسفراء وشعراء..؟، مضيفاً أن عودة السيرة إلى دائرة الضوء من خلال هذا الكتاب هي في الواقع احالة على هموم التحقيق والكتابة التاريخية. ولعلها ما جعلت صاحب هذه المفازة بنوع من التحدي والمتعة معاً، بحيث لم يكفه تقرير حقيقة تاريخية موجودة بل وضحها وزادها رونقا حتى ليخيل أنه عاصر أعلامَه وعاشرهم وشهد مجالسهم، ميسراً سحر اطلاع على حياة ثلة من أعلام تازة كانوا بدور في إشعاع المدينة وغنى تراثها الحضاري بكل ما هو جميل في حقول أدب وتراث وتاريخ وفكر… وأما صاحب" تقريب المفازة الى أعلام تازة" فقد أورد في تقديم مؤلفه الذي عزز ما اجتهد من أجله ثلة من ابناء المدينة وغيرهم، أن البحث في أعلام المغرب من مرتكزات تاريخ البلاد العام الوسيط والحديث كذا تاريخ مدنها ومناطقها في إطار النهج المنوغرافي. مشيراً لِما تطرق اليه أصحاب الحوليات في مصنفاتهم من سير فقهاء ومتصوفة وعلماء مشاهير ومغمورين، ونفس الشيء بالنسبة لمؤرخي السير فيما وصفوه ب" الطبقات" كطبقات النحاة واللغويين والشعراء والمتكلمين والمحدِّثين.. مضيفاً أن المغاربة ربطوا سيَر الأعلام بزمن تاريخي معين وبحواضر البلاد كفاس ومراكش..، الاطار الذي يدخل فيه مؤلفه حول أعلام تازة والذي يقول أنه بغاية تعريفية توثيقية موجهة للمهتمين بتراث مدينتهم ومنطقتهم. وهو ما أنفق من أجله مضيفاً أزيد من سنتين تنقيباً في فهارس أعلام ووثائق وكتب حوليات ومصنفات تاريخية ومناقب وكتب فتاوي ومجلات ودوريات ومراجع عامة وخاصة، ما مكنه من لملمة سير وتراجم حوالي ثمانين عَلماً من أعلام المنطقة في مجالات عدة جمعت بين فقه وحديث وأصول وتفسير وقراءات وتصوف وقضاء وتاريخ، وأدب رحلة وطب وحساب وسيرة ذاتية وتقلد وزارة وسفارة وزعامة سياسية وغيرها. مشيراً الى أنه قدم في مستهل كتابه ما اعتبره حالة فريدة تخص موسى ابن أبي العافية المكناسي عن القرن الرابع الهجري لِما لها من دلالة على قِدم حركية تاريخ المنطقة، مضيفاً أنه قفز عن متمردين وثوار وفتانين ومرابطين ومجاهدين وشهداء ممن ارتبط بتازة طيلة مراحل تاريخ المغرب ولم يتعرض اليهم، لتشعب المادة المعرفية حول هؤلاء بدءا من الثائر مرزدغ الصنهاجي زمن الموحدين الموضوع الذي يحتاج في تقديره لمؤلف خاص. ومن خلال ما حصل من تصنيف في مؤلف" تقريب المفازة الى أعلام تازة"، يتبين أن المؤلِّف ركز على أعلام فكر ودين و سياسية ضمن أصناف ثلاثة على أساس المولد والنشأة والوفاة والنبوغ. صنف وُلد ونشأ بتازة أو أحوازها وحتى إذا انتقل إلى فاس القرويين ومجالس السلاطين آو نحو المشرق أو الأندلس، ولكون اقامنهم كانت مؤقتة فإن هذا الصنف يُحتسب من مواليد تازة ووفياتها كما العلامة علي بن بري والشيخ ابن يجبش وعبد الرحمن بن العشاب وأبي زكريا يحيى الوازعي وأحمد بن فتوح ومحمد وعبد القادر الصيني وأحمد الطواش الشقاوي وأبي العباس الملوي واحمد الحبيب اليعقوبي الرشيدي والقاضي عبد الله بن حمو ومحمد بن عبد الله التوزاني..أما الصنف الثاني من أعلام تازة فهم ممن وُلد بها أو نشأ بها فترة قبل انتقاله إلى مدن أخرى حيث نبغ وتوفي بها، كفاس وتلمسان ومكناس وسبتة وطنجة ومراكش ووهران وغرناطة وتونس وبلاد الشرق العربي من عراق ومصر وحجاز، ومنهم محمد بن حمَّادة البرنوسي السبتي وعيسى بن عمران قاضي الجماعة بمراكش وأبا يحيى إبراهيم السفير المريني بغرناطة وإبراهيم التازي دفين وهران، وأبا العباس الجزنائي دفين تونس وأحمد زروق دفين مسراتة بليبيا والمتكلم السني عبدالله بن فارس البرنوسي التازي دفين العراق، والرايس إبراهيم التازي دفين مصر وأبا الحسن المجاصي وابن عبد السلام التسولي والخصاصي دفين طنجة وغيرهم كثير. أما ثالث فئة أعلام تازة فهي التي نزلت بها فانتسبت إليها، كما قاضي الجماعة أبي الحسن الصغيِّر وابن حمدون الشريشي دفين تازة وأبي عبد الله بن عطية وعيسى الترجالي القاضي ومحمد بن الحاج العامري التلمساني…وقد أورد المؤلف أنه صنف أعلام كتابه على أساس كرونولوجي تاريخي اعتباراً من الإمارة الزناتية المكناسية عن القرن الرابع الهجري، مشيراً لنبوغ أكبر عدد منهم زمن عصر بني مرين ولكون أغلب أعلام تازة ذكوراً مع ثلة من صالحات فقيهات ومتصوفات، مضيفاً أن مجال اشتغالهم تباين بين فقه وقضاء وتصوف وقراءات ولغة وشعر وتاريخ..وحول"تقريب المفازة إلى أعلام تازة" عنواناً للكتاب قال أنه إحالة رمزية وتناص تاريخي ثقافي مجالي وجمالي مع كتاب هام مفقود، يرجح أنه لعلي الجزنائي صاحب مؤلف"جني زهرة الآس في بناء مدينة فاس" وتقصُّدا أيضا لطابعه التراثي البحت، مضيفاً أنه ارتأى منهجياً في مؤلفه قسمين قسم أول خصصه لأعلام تازة خلال العصر الوسيط وقسم ثان تناول فيه أعلام تازة خلال العصر الحديث. يبقى أن صفحات كتاب"تقريب المفازة الى أعلام تازة" هذه الوثيقة القيمة المضافة لاشك، هي مساحة زمن من أزمنة المدينة والتي تتدفق حكاية وخبراً وتأملاً حول من كان باشعاع من الأعلام والعلماء وبوقع وموقع، من خلال اطلالة مؤلف لم يستثني لا زقاقاً ولا درباً ولا حياً من أحياء تازة ولا حاضرة ولا بادية من المغرب والغرب الاسلامي وبلاد المشرق، في حدود جهد الاطلاع منتصراً في اجتهاده حول أعلام وعلماء المدينة ضمن عمل مؤسس غير مسبوق. وبقدر ما ورد حول أعلام وعلماء تازة في المؤلف هو مثير للسؤال نظراً لعددهم ومجال اهتمامهم وتميزهم هنا وهناك من المجال شرقاً وغرباً، بقدر ما يتبين أن تازة كانت بأعلام وعلماء رواد في مجالات عدة خلال فترة العصر الوسيط والحديث وبخاصة زمن بني مرين. واذا كان لا عجب أن تكون تازة بهذا القدر من التراث فإن كتاب"تقريب المفازة الى أعلام تازة" بقدر ما هو ميلاد شهادةٍ بقدر ما هو دليلٍ مرجعي بأهميةٍ تجاه تاريخ محلي وأجيال وبلادٍ وعباد، مع أهمية الاشارة الى أن الكتاب كان ضرورة لرفع الستار عن أعلام وعلماء المدينة بإظهار تفردهم وعظمة اسهامهم الفكري خلال العصرين الوسيط والحديث، وبما كانوا عليه من دور في بناء حضارة علمية مغربية أصيلة وإرساء لتراث يذكره التاريخ الى حين مزيد من بحثٍ وتنقيبٍ حول تازة لمزيد من الفائدة والحقيقة والتأسيس العلمي والاغناء بعيداً عن عِلة نعت الأخر بالتقصير.. عضو مركز ابن بري التازي للدراسات والأبحاث وحماية التراث