ارتبط البحث في سير الأعلام لزمن طويل بتمجيد النصر منخرطا في "تاريخ إيجابي"، مسلطا الضوء على أحداث تاريخية مهمشاً متجاهلا ما هو مجتمع واقتصاد وسير وذهنيات وغيرها. ما استشعره باحثون ومؤرخون خلال السنوات الأخيرة بتأكيدهم على أن قدر الفرد بات بحاجة لالتفات ورد اعتبار، فكانوا وراء الحدث شهوداً بتميز في كشفهم عن زمنهم. وعليه كانت الترجمة للأعلام بموقع ووقع لِما وجدته في التاريخ من فضاء رحب، ولِما حصل ضمنها من تطور بحث حول الفرد وهويته بعد غيابه وراء ما فضلته البنيوية من جماعة خلال ستينات وسبعينات القرن الماضي. وإذا كان جاك لوكًوف وآخرون قد ركزوا على دراسة حياة الأفراد كأزمنة تاريخية مُعَبرة، داعين إلى البحث فيها لِما تسمح به من معاينة لظواهر وتأمل تجاه جوانب هامة من التطور التاريخي، فلأن حياة الفرد تعد أنموذجا في التاريخ يمكن من خلاله إعادة بناء فترة أو حدث أو مجتمع. مقاربة بأهمية في تجاوز القائم بين تاريخ سردي وتاريخ بنيوي من تعارض مغلوط، كانت وراء ما برز خلال العقود الأخيرة من قناعة حول أهمية العناية بالفاعل المحلّي وفق ما هو أكثر وضوحاً وانفتاحاً. عبارات وإشارات دقيقة استهل بها د.عبد الحميد الصنهاجي، باحث في التاريخ بكلية الآداب بوجدة، تقديما لمؤلَّف "تقريب المفازة إلى أعلام تازة" ضمن طبعة أولى عن مطبعة المعارف الجديدة بالرباط. مشيرا إلى أن "تقريب المفازة.." لصاحبه عبد الاله بسكًمار هو بتجاذب سيرة وترجمة وسلطة أدب وقوة تاريخ، وأن أول ما واجه الباحث الذي انبرى لكتابة سير وتراجم عشرات أعلام تازة وأحوازها، هو كيفية سرد حياة الفرد ومن أين يبدأ وأي أثر يسلك وكيف يواجه ثغرات معرفة وفراغ وثائق؟ وماذا يعمل بخيط ناظم يجمع بين تفسيرات وأشياء مفترضة لدى هؤلاء الأعلام من فقهاء ومتصوفة وقضاة وسفراء وشعراء..؟، مضيفاً أن عودة السيرة إلى دائرة الضوء من خلال "تقريب المفازة إلى أعلام تازة "هي في الواقع إحالة على هموم كبرى تخص التحقيق والكتابة التاريخية. ولعلها ما جعلت صاحب هذه المفازة بنوع من التحدي والمتعة معا، إذ لم يكفه تقرير حقيقة تاريخية موجودة بل وضحها وزادها رونقا حتى ليخيل أنه عاصر أعلامَه وعاشرهم وشهد مجالسهم، ميسرا سحر اطلاع على حياة ثلة من أعلام تازة كانوا بدور في إشعاع المدينة وإغناء تراثها الحضاري بكل ما هو جميل في حقول أدب وتراث وتاريخ وفكر. وقد أورد صاحب" تقريب المفازة الى أعلام تازة" في تقديم مؤلفه الذي عزز ما اجتهد من أجله ثلة من ابناء المدينة وغيرهم، أن البحث في أعلام المغرب من مرتكزات تاريخ البلاد العام الوسيط والحديث كذا تاريخ مدنها ومناطقها في إطار النهج المونوغرافي. مشيرا إلى أن أصحاب الحوليات في مصنفاتهم تطرقوا لسير فقهاء ومتصوفة وعلماء مشاهير ومغمورين، والشيء نفسه بالنسبة إلى مؤرخي السير فيما وصفوه ب"الطبقات" كطبقات النحاة واللغويين والشعراء والمتكلمين والمحدِّثين.. مضيفا أن المغاربة ربطوا سيَر الأعلام بزمن تاريخي معين وبحواضر البلاد كفاس ومراكش..، الإطار الذي يدخل فيه مؤلفه حول أعلام تازة والذي يقول أنه بغاية تعريفية توثيقية موجهة للمهتمين بتراث مدينتهم ومنطقتهم الرمزي. وهو ما أنفق من أجله مضيفاً أزيد من سنتين تنقيبا في فهارس أعلام ووثائق وكتب حوليات ومصنفات تاريخية ومناقب وكتب فتاوي ومجلات ودوريات ومراجع عامة وخاصة، ما مكنه من لملمة سير وتراجم حوالي ثمانين عَلما من أعلام المنطقة في مجالات عدة جمعت بين فقه وحديث وأصول وتفسير وقراءات وتصوف وقضاء وتاريخ، وأدب رحلة وطب وحساب وسيرة ذاتية وتقلد وزارة وسفارة وزعامة سياسية وغيرها. مشيرا إلى أنه قدم في مستهل كتابه ما اعتبره حالة فريدة تخص موسى ابن أبي العافية المكناسي عن القرن الرابع الهجري لِما لها من دلالة على قِدم حركية تاريخ المنطقة، مضيفاً أنه قفز عن متمردين وثوار وفتانين ومرابطين ومجاهدين وشهداء ممن ارتبط بتازة طيلة مراحل تاريخ المغرب ولم يتعرض إليهم، لتشعب المادة المعرفية حول هؤلاء بدءا من الثائر مرزدغ الصنهاجي زمن الموحدين الموضوع الذي يحتاج في تقديره لمؤلف خاص. ومن خلال ما حصل من تصنيف في مؤلف "تقريب المفازة إلى أعلام تازة"، يتبين أن المؤلِّف ركز على أعلام فكر ودين و سياسية ضمن أصناف ثلاثة على أساس المولد والنشأة والوفاة والنبوغ. صنف وُلد ونشأ بتازة أو أحوازها وحتى إذا انتقل إلى فاس القرويين ومجالس السلاطين آو نحو المشرق أو الأندلس، ولكون إقامتهم كانت مؤقتة فإن هذا الصنف يُحتسب من مواليد تازة ووفياتها كما العلامة علي بن بري والشيخ ابن يجبش وعبد الرحمن بن العشاب وأبي زكريا يحيى الوازعي وأحمد بن فتوح ومحمد وعبد القادر الصيني وأحمد الطواش الشقاوي وأبي العباس الملوي واحمد الحبيب اليعقوبي الرشيدي والقاضي عبد الله بن حمو ومحمد بن عبد الله التوزاني.. أما الصنف الثاني من أعلام تازة فهم ممن وُلد بها أو نشأ بها فترة قبل انتقاله إلى مدن أخرى حيث نبغ وتوفي بها، كفاس وتلمسان ومكناس وسبتة وطنجة ومراكش ووهران وغرناطة وتونس وبلاد الشرق العربي من عراق ومصر وحجاز، ومنهم محمد بن حمَّادة البرنوسي السبتي وعيسى بن عمران قاضي الجماعة بمراكش وأبا يحيى إبراهيم السفير المريني بغرناطة وإبراهيم التازي دفين وهران، وأبا العباس الجزنائي دفين تونس وأحمد زروق دفين مسراتة بليبيا والمتكلم السني عبد الله بن فارس البرنوسي التازي دفين العراق، والرايس إبراهيم التازي دفين مصر وأبا الحسن المجاصي وابن عبد السلام التسولي والخصاصي دفين طنجة وغيرهم كثير. أما ثالث فئة أعلام تازة فهي التي نزلت بها فانتسبت إليها، كما قاضي الجماعة أبي الحسن الصغيِّر وابن حمدون الشريشي دفين تازة وأبي عبد الله بن عطية وعيسى الترجالي القاضي ومحمد بن الحاج العامري التلمساني... وقد أورد المؤلف أنه صنف أعلام كتابه على أساس كرونولوجي تاريخي اعتباراً من الإمارة الزناتية المكناسية عن القرن الرابع الهجري، مشيرا إلى نبوغ أكبر عدد منهم زمن عصر بني مرين ولكون أغلب أعلام تازة ذكورا مع ثلة من صالحات فقيهات ومتصوفات، مضيفا أن مجال اشتغالهم تباين فقه وقضاء وتصوف وقراءات ولغة وشعر وتاريخ.. وحول "تقريب المفازة إلى أعلام تازة" عنوانا للكتاب قال إنه إحالة رمزية وتناص تاريخي ثقافي مجالي وجمالي مع كتاب هام مفقود، يرجح أنه لعلي الجزنائي صاحب مؤلف "جني زهرة الآس في بناء مدينة فاس" وتقصُّدا أيضا لطابعه التراثي البحت، مضيفا أنه ارتأى منهجياً في مؤلفه قسمين قسم أول خصصه لأعلام تازة خلال العصر الوسيط وقسم ثان تناول فيه أعلام تازة خلال العصر الحديث. وحديثنا عن "تقريب المفازة إلى أعلام تازة" يدفعنا لاستحضار التأسيس للكتابة حول تراث المدينة، من خلال مؤلف "أضواء على ابن يجبش التازي" لأبي بكر البوخصيبي رحمه الله ابن آسفي الذي قضى بعض زمنه بتازة، وقد استحق عمله هذا جائزة المغرب للكتاب 1972 مع تقديم متفرد للعلامة عبد الله كًنون. جاء بإشارات هامة ووعي عميق آنذاك حول كون تاريخ بلادنا لا يشكو من قلة عناية بدليل ما أولاه السلف عبر العصور، بل مما ضاع من تآليف خاصة بمدن ودول وأحداث ومن دراسات تقوم على هذا الإرث مستفيدة من وثائق سلطانية ورسائل رسمية وكشوف حسابية ونوازل ونصوص أجنبية وغيرها، قائلا:" هذا تلميح فقط لما يشكو منه تاريخنا..، مما علينا أن نقوم به وننهض بعبئه ونكف عن التدمر واتهام الغير بالتقصير". قبل أن يخصص فقرة من تقديمه لِما كان عليه أبي بكر البوخصيبي من جهد أخرج به ترجمة لابن يجبش من العدم وفق نظر مقارن وفكر متمعن غواص، وقبل أن ينتهي الى تهنئته على تأليفه وتهنئة المكتبة المغربية بظفرها بأثره النفيس. ولعلها التهنئة نفسها التي تنبغي تجاه مؤلف"تقريب المفازة الى أعلام تازة"، وبنفس تحفيز عبد الله كًنون رحمه الله من أجل مزيد الجهد والاجتهاد والاضافة حول تاريخ وتراث تازة. علماً أن الكتابة حول تازة من مسؤولية أبناء المدينة، الاشارة التي أوردها عبد الهادي التازي رحمه الله قبل عقود من الزمن، قائلا: "تلك هي تازة وأن على أبنائها.. أن يقوموا بكتابة تاريخها في شتى الميادين، عليهم وحدهم تقع تبعات التعريف بهذه الماسة التي نسميها تازة". لتبقى البادرة والاجتهاد والتراكم هو المهم والأهم وأن الجيد من العمل سيصمد والمتواضع من التأليف سيظهر، مصداقاً لقوله تعالي "فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض". والواقع أن تازة هي بطبيعة عظيمة وتاريخ عظيم يحضر فيه المادي والروحي والتواصلي، فالمدينة وضفافها من المجال كانت مسرحاً لأحداث هامة ولتواصل الانسان منذ القدم، وعليه فقد تعددت أدوارها وتجليات قيمة موقعها الذي جعلها جسراً بين الشرق والغرب من البلاد وواحة جبلية لحياة وثقافة وتثاقف. ومن هنا أهمية كتاب "تقريب المفازة إلى أعلام تازة" لمؤلفه عبد الاله بسكًمار، ومن هنا أيضاً قيمته المضافة حول المكان والزمن والانسان والتراث والتاريخ وتازة. فهو يصحبنا في رحلة طويلة مع أعلام وعلماء كانوا صخوراً قوية صلبة وشامخة في عدد من المجالات على مدار زمن تازة والمغرب خلال العصرين الوسيط والحديث، من خلال عمل بناء تاريخي سمح بزيارتهم واحداً واحداً واستحضار أعمالهم وأصولهم وتميزهم. ولعل صفحات كتاب "تقريب المفازة إلى أعلام تازة" تتدفق حكاية وتأملاً حول من كان بإشعاع ووقع وموقع، من خلال إطلالة مؤلفه التي لم تستثن لا زقاقاً ولا درباً ولا حياً من أحياء تازة العتيقة، ولا حاضرة ولا بادية من المغرب والغرب الإسلامي وبلاد المشرق العربي في حدود جهد الاطلاع منتصراً في اجتهاده حول أعلام وعلماء المدينة ضمن عمل غير مسبوق بقيمة مضافة هامة. وبقدر ما ورد حول أعلام وعلماء تازة في هذا المؤلف مثير للسؤال بالنظر إلى عددهم ومجال اهتمامهم وتميزاتهم هنا وهناك من المجال شرقاً وغرباً، بقدر ما يتبين أن تازة كانت بأعلام وعلماء رواد في مجالات عدة خلال فترة العصر الوسيط والحديث وبخاصة زمن بني مرين. وإذا كان لا عجب أن تكون المدينة بهذا القدر من التراث، فإن كتاب "تقريب المفازة إلى أعلام تازة" بقدر ما هو ميلاد شهادةٍ بقدر ما هو دليلٍ مرجعي بأهميةٍ ورمزيةٍ تجاه تاريخ محلي وأجيال وبلادٍ وعباد. مع أهمية الإشارة إلى أن الكتاب كان ضرورة لرفع الستار عن أعلام وعلماء المدينة، بإظهار تفردهم وعظمة إسهامهم الفكري خلال العصرين الوسيط والحديث، وبما كانوا عليه من دور في بناء حضارة علمية مغربية أصيلة وإرساء لتراث يذكره التاريخ إلى حين، طبعاً مزيدا من بحثٍ وتنقيبٍ حول تازة لمزيد من الفائدة والحقيقة والتأسيس العلمي والإغناء. *عضو مركز ابن بري التازي للدراسات والأبحاث وحماية التراث