لنكن واضحين أولا فهذه الورقات التي يسعدني أن أقدم الحلقة الثانية منها ، تبسط أمام المتتبعين والمهتمين والغيورين والقراء والمبحرين الكرام محطات من تاريخ تازةوالإقليم ، وهي إنما تهدف إلى تقويم صورة هذه المنطقة وتمثلات بعض أبناء جلدتنا عنها، وكانت الأحداث الأخيرة التي حصلت تبعا لأسباب موضوعية مناسبة لتصحيح المفاهيم حول تازة والتازيين و من ثمة المساهمة في تأسيس تاريخ محلي للمنطقة بالمعنى الذي دعا إليه الفقيه العلامة المختار السوسي من أجل كتابة تاريخ شامل للمغرب انطلاقا من التواريخ المحلية للمدن والقرى والجهات والمناطق المختلفة، عبر تحري الدقة والموضوعية ما أمكن والبحث العلمي في المصادر والمراجع ونفض الغبار عن الوثائق الضرورية، والمقارنة بينها.
علما بأن الكتابة حول تاريخ الإقليم بالمعنى المنهجي الدقيق أو الأكاديمي ، تحتاج إلى مؤلف كامل وبحث شامل قد يستغرق عدة سنوات وهو لعمري دليل إضافي على زخم تاريخ تازة والأحواز وتشعبه وتعدد مناحيه الثقافية والمجالية والاقتصادية والاجتماعية رغم قلة المصادر ليس عن تاريخ المنطقة وحسب بل حول تاريخ المغرب ككل ، مقابل وفرة المراجع التي ذكرت عبرها تازة والأحواز عند الحديث عن تاريخ المغرب أو جزء منه أو محور متعلق به وهذه أيضا مناسبة لتجديد النداء لكل الباحثين والمهتمين من أجل الانخراط في العمل الجدي المتعدد الأبعاد بهدف رد الاعتبار للمنطقة كل من موقعه داخل وخارج الإقليم ومن طرف كل الغيورين التازيين والمغاربة ومن ثمة ، محاربة كل أشكال اليأس والتيئيس والجهل والتجهيل والاستسلام للأمر الواقع المبني على المغالطات والأوهام وبالتالي تعميق الإحساس بالانتماء، دون ضيق أفق أو بعد شوفيني لأن حب الأوطان من الإيمان ، ولعل الأحداث الأخيرة أن تكون من أكبر الحوافز لهذا العمل النبيل والذي أصبح مطلوبا أكثر من أي وقت مضى، العمل التنسيقي الجماعي في إطار المجتمع المدني ( غير الانتهازي طبعا أي" ماشي شفار بالعربية التاعرابة واللي شفار ما عندنا ما نديرو به " ) والعمل الفردي والبحث والإبداع في مختلف المجالات ومما شجعني على المضي في الورقات الحالية هذا الاحتضان الرائع من طرف إخواني المواطنين من غيورين ومهتمين ودارسين وقراء تازيين ومغاربة صادقين، فلهم مني عظيم الشكر والعرفان والامتنان ولا أريد لهذا العمل سوى أن ينظر إليه كبداية مرحلة جديدة، لن تكون إلا مشرقة بحول الله وبالاعتماد على جهود كل الخيرين من الغيورين على الإقليم والوطن ، ومن اجل النهوض الفعلي بإقليمتازة اقتصاديا واجتماعيا وثقافيا ورياضيا .
في حدود المعرفة البشرية المتواضعة لم يؤلف لحد الآن كتاب جامع مانع لتاريخ تازة والأحواز ( نقصد التأليف المنوغرافي أي الخاص بمنطقة معينة )، وهذا الوضع ينطبق على أكثر مدن ومناطق البلاد باستثناء العواصم التاريخية والمخزنية ...فاس بالطبع ثم مراكش وقليل من المدن الأخرى، كمكناس وتطوان والرباط وسلا وطنجة وكل ما ألف حول تازة يدخل في مجال البحث البيبليوغرافي أي سيرة الحياة لأحد أعلامها : فقيه أو متصوف أو عالم أو طبيب ينتمي للمنطقة وهناك بعض المذكرات التي صدرت عن رجالات من جيش التحرير ينتمون إلى الإقليم حول مرحلة الكفاح الوطني بتازة وعموم المنطقة ، كما أن العديد من الأطروحات الجامعية ( لا سيما بحوث الإجازة وقليل من بحوث الماستر والدكتوراة ) قدمت حول تاريخ الإقليم ، ما تعلق منه بالمقاومة أو ما يخص تاريخ بعض القبائل وسيرفضلاء وصلحاء ومتصوفة ومن أبرز ما يذكر هنا أطروحة الأستاذ عبد الرحمان المودن " قبائل ايناون والمخزن بين القرن 16 والقرن 19 " وقد صدرت مطبوعة في كتاب ، وأخيرا هناك مقالات وكتابات متفرقة لباحثين ومؤرخين ومهتمين بمجلات "دعوة الحق " و "ملفات من تاريخ المغرب " و" المناهل " و" الميثاق " وأسبوعيتي " الأسبوع الصحفي " و " أصداء "، في هذا الخضم يطالعنا مؤلفان هامان يشكلان زبدة ما قيل حول تازة في حدود الوثائق والمصادر المتوفرة وهما " أضواء على ابن يجبش التازي " للأستاذ ومفتش التعليم السابق بتازة المرحوم أبي بكر البوخصيبي وكتاب المغفور له الحاج امحمد الامراني حول " ابن بري التازي إمام القراء المغاربة " الأول صدر مطبوعا سنة 1976 بعد أن نال به صاحبه جائزة المغرب الثانية سنة 1972 ( إيه والله ) والغريب أن ولع الرجل – رحمه الله واهتمامه هما اللذان حفزاه إلى التأليف عن تازة علاوة على عشقه لهذه المدينة، فكتب عن أحد متصوفيها " أبو عبد الله بن عبد الرحيم بن يجبش التازي التسولي" وإلا فهو وافد عليها ( ينتمي بالأحرى إلى مدينة اسفي لكن أبناء تازة ليسوا شوفينيين أو متعصبين طبعا ، إنهم مغاربة أولا وقبل كل شيء وهم لا يفصلون بين تازيتهم ومغربيتهم ) فجزاه الله عنا أفضل الجزاء وأكرم مثواه ، في الوقت الذي يتنكر لتازة بعض أبنائها الذين ولدوا ونشأوا فيها سامحهم المولى عز وجل، وهنا المفارقة التي ما بعدها مفارقة ! ! !
وظلم ذوي القربى اشد مضاضة على المرء من وقع الحسام المهند
أما بالنسبة لكتاب ج امحمد الامراني " ابن بري التازي إمام القراء المغاربة " فقد طبع سنة 1996 بأمر من الملك الراحل الحسن الثاني رحمه الله ، تحت إشراف وزارة الأوقاف وبتصدير لكل من الوزير السابق عبد الكبير العلوي المدغري ، والمؤرخ عبد الهادي التازي والعلامة عبد الله كنون .
يمكن أن نتصور بيتا دون سطح أو دون حوش أو يخلو من قاعة استقبال أو حتى دون نوافذ ، لكن لا يمكن أن نتصور بيتا بدون باب أو مدخل رئيس، تازة هي بوابة البيت الكبير أي المغرب الأقصى ولنتصور هذا البيت الذي يوجد في مواجهة مباشرة مع العواصف والأنواء واللصوص والغرباء والمجرمين وبالطبع الضيوف والأحبة أيضا ،الباب أول من يتلقى هذه العواصف وأول وأهم ما يعطب من طرف اللصوص أو المجرمين الذين يستهدفون لا الباب فقط ولكن أثاث المنزل وأهله ككل، أما من بداخل البيت فستصلهم العواصف بردا وسلاما فقط وقد لا يستطيع اللصوص الوصول إليهم إذا كان الباب صلبا محكم الإغلاق، أو حدث به ما فضح أمرهم وأفشل مخططهم ، وأما الضيوف فيطرقون الباب بلطف كالعادة ليجدوا الترحاب غالبا والنفور قليلا وقس على ذلك جباة الضرائب أو سعاة البريد أو الأعوان القضائيون ( الله يستر ! ! ! ) وبعضهم غير مرحب به قطعا ، كذلك حال معبر تازة فبحكم وضعه الاستراتيجي بين سلسلتي جبال الريف والأطلس المتوسط وانفتاحه على حوض ايناون وحوض ملوية وصعوبة تضاريسه كان على رأس كل الاستراتيجيات الحربية التي استهدفت السيطرة على البلاد منذ القديم ( المقارنة بالباب تخص الموقع والوظيفة لا أقل ولا أكثر ) فمن يستطيع السيطرة على مدينة تازة والأحواز، يفلح في الإطباق بسهولة على الشرق والغرب ونخص بالذكر مدينة فاس ( تفصلها عن تازة 120كلم ) والتي كانت عاصمة البلاد منذ الأدارسة مرورا ببني مرين وبني وطاس وانتهاء بالدولة العلوية ، باستثناء فترات مولاي اسماعيل وبعض أبنائه والأيام الأخيرة من عهد م عبد الحفيظ حيث تحولت العاصمة منذ ذلك الوقت ( 1912 ) من فاس إلى الرباط ، برج يتحكم في العاصمة أو يتمرد عليها...
هذه الصورة التقريبية لمنطقة تازة تفسر إلى حد بعيد طابع الصراع المستمر والشد والجذب الذي ميزها والرغبة المستمرة في السيطرة عليها والتحكم فيها ، دون أن نستثني فترات الاستقرار والازدهار...فهي على حد تعبير المؤرخ عبد الهادي التازي " البرج الذي يضبط صلة الشرق بالغرب والجنوب بالشمال " ويضيف المؤرخ وقيدوم الديبلوماسية المغربية " سنرى الأسباب ( يقصد أسباب الصراع بين بني مرين وبني عبد الواد ) واضحة أكثر في الالتفات إلى هذه المدينة العظيمة " تازة " (هذا ليس بكلامي أنا ) التي فرضت نفسها فرضا على كل الواردين والصادرين من المشرق والمغرب " ( " في تاريخ تازة " مجلة " دعوة الحق " ص 51/ 52 ع 241أكتوبر 1984 ) لم يحدث أن أثر البعد الجغرافي على التاريخ في أي منطقة كما أثر في تازة والأحواز، علما بأن هناك فعلا بعض المواقع العالمية ذات الحساسية الخطيرة و المشابهة في الوظيفة لمنطقة تازة أو التي حدث لها نفس الشيء ولكنها قليلة ومعدودة ، الشيء الذي لا يتوفر لبقية المناطق والمدن المغربية ( ميزة حباها بها الله بايجابياتها وسلبياتها وهذا قانون التاريخ ) نذكر مضايق : جبل طارق باب المندب – تيرا ن ( مدخل خليج العقبة وكان إغلاقه من طرف جمال عبد الناصر سببا مباشرا في حرب يونيو 1967 ) قناة السويس وما أدراك ما قناة السويس ( اندلعت حولها أربع حروب طاحنة بين العرب وإسرائيل ) هضبة الجولان الاستراتيجية التي ما زالت محتلة من طرف إسرائيل مدينة ستالينغراد بالاتحاد السوفياتي السابق جيب فاليز بفرنسا هضبة الأردين ببلجيكا والليكسمبورغ موقع مونت كاسينوالجبلي بايطاليا نهر الراين بألمانيا ...وبالطبع يزيد إقليمتازة عن المواقع المذكورة أو يوازيها بجمال الطبيعة الخلابة ومناطق الجذب السياحية التي لم تستثمر بعد بالشكل التنموي الحقيقي لصالح المنطقة والوطن .
عادة ما نجد قفزا سريعا على المراحل التاريخية التي اجتازتها المنطقة في عرض أشبه بالمحفوظات منه بالدرس التاريخي ، هذا ما نجده في المنوغرافيات الرسمية حول الإقليم أو في موسوعة وكيبيديا مثلا ومع قيمة المعلومات فهو يعد أيضا امتدادا للظلم الذي حاق بتازة في مجال البحث التاريخي ناهيك عن نظيره الاجتماعي والاقتصادي ، هناك أحداث كثيرة ومواقف هامة يتم القفز عليها وحتى لا تفوتني المناسبة والمناسبة شرط ، فاني أذكر الجميع ( لعل الذكرى تنفع المؤمنين ) أنه قد أضيف ظلم نهب مقتنيات مدينة تازة إلى المظالم السابقة ....العديد من اللقى والأدوات ووسائل الحياة اليومية التي تعود إلى ما قبل التاريخ والتي اكتشفت من طرف الفرنسيين بكيفان بلغماري ( على يد الضابط كومباردو ) شمال شرق تازة العتيقة وتعود ملكيتها القانونية للمدينة نقلت إلى متحف وهران الأثري بالجزائر ( لكن هذا لا ينفي التاريخ قطعا فتازة ضاربة في القدم ولا تعرف لها بداية مدققة لحد الآن ) قلت نقلت تلك اللقى إلى متحف وهران لأن تازة لم تكن قد تحولت إلى إقليم بعد ، بل ظلت تابعة هي ومدينة تلمسان لولاية وهران بالجزائر الفرنسية إلى حين استقلال المغرب.
هذه واحدة ....الثانية تتمثل في النهب الممنهج والمتواصل الذي تعرضت له خزانة الجامع الأعظم " الجامع الكبير" بتازة والذي يزيد عمره عن 9 قرون ، ويعود إلى العصر الموحدي حيث كانت خزانته تحتوي في الأصل على 10000كتاب ومؤلف ومخطوط نادر حسب حوالة حبسية لم يبق منها إلا 700 ( انظر " أضواء على ابن يجبش التازي " ص 55 و "ابن بري ...." ص 79 ) قامت وزارة الأوقاف في بداية الألفية الثالثة بتصويرها وإعادة إخراجها ، وقد بلغني أن أسماء غليظة لباحثين ومؤرخين من كبار القوم قد ساهموا في هذا النهب الظالم وأخذوا ما تيسر دون حسيب أو رقيب والله وهؤلاء اعلم ، كما كان من محتويات هذه الخزانة أو يرجح ، الكتاب اللغز / المفقود والذي بحثنا عنه طويلا وبحث عنه الباحثون ويبحثون دون طائل كتاب " تقريب المفازة في تاريخ تازة " المنسوب لأبي الحسن علي الجزنائي وهو غير أبي العباس احمد المشار إليه في الحلقة السابقة ، وهنا نطرح السؤال لماذا لا تقوم الجمعيات الثقافية والتنموية في تازة وما أكثرها ( وأخص بالذكر" شبكة تازة التنموية " على سبيل المثال لا الحصر ) ومعها الجماعات المنتخبة بتهيء ملف متكامل معزز بالوثائق والصور قصد التحقيق في مصير هذه اللقى الأثرية المهربة والكشف عن المخطوطات التي اختفت من خزانة الجامع الأعظم أو على الأقل فتح حوار هادئ وهادف حولها ، وتوضيح كل ما حدث للرأي العام المحلي والوطني ... حلم جميل وليس لدينا أي وهم حول مواقف إخواننا الجزائريين فيما يخص إعادة اللقى والأدوات الماقبل تاريخية الى تازة ولكن على الأقل اهتبالها كفرصة لتعميق الحوار البناء وتجاوز الحساسيات في إطار علاقة الأخوة وحسن الجوار...
وفيما يخص موضوع المخطوطات المنهوبة من خزانة الجامع الأعظم بتازة فان وزارة الثقافة بالرباط ظلت تخصص جائزة سنوية للمخطوطات والوثائق التاريخية وهي لعمري وسيلة ذكية لاسترجاع تلك الكنوز التاريخية التي لا تقدر بثمن وعليها يكتب تاريخ الشعوب والأمم .....و من أجل الحاضر والمستقبل ،ولم يسفر الامرعن أية نتيجة بالنسبة لخزانة الجامع الأعظم بتازة ....السؤال الآخر والهام الذي يقض مضاجع كل التازيين الأحرار: من المسؤول عن هذا الضياع والنهب ( نقصد مخطوطات الخزانة ) الذي لم تتعرض له أو لما يشبهه أية حاضرة مغربية أخرى ؟ أليست النخب المحلية في المقام الأول ؟ فإذا كانت المسؤولية في الظلم الاقتصادي والاجتماعي تعود بالدرجة الأولى إلى النخب الاقتصادية ( أي التي تملك مؤهلات مادية للاستثمار والنهوض بالمنطقة ) فان الظلم الثقافي يتحمل مسؤوليته القائمون المحليون على هذا الشأن علاوة على كل أبناء المدينة باختلاف درجات ومستويات هذه المسؤولية ..... الجماعية والفردية ....والحديث يا أحبتي ذو شجون وشجون.