منذ خروجها للتظاهر الأسبوعي في سياق ما اصطلح عليه بالربيع العربي، أسالت حركة 20فبراير مدادا كثيرا حول هويتها وطبيعة الفئات المشاركة فيها والمساندة لها وحقيقة سقفها وخصوصية شعاراتها . وذهب في ذلك السياسيون والصحفيون مذاهب متعددة ومتنوعة تراوحت ما بين التنزيه والتمجيد من قبل البعض، وإلى حدود التسفيه والتخوين من قبل البعض الآخر . وكلها قراءات تعاملت مع الحركة كما لوأنها مؤطرة بإطار واضح تحكمه توابت معينة وله قواعد منظمة وقيادة محددة تمتلك مشروعية التحدت باسمها أو نيابة عنها . وهو تصور نجده حاضرا لدى الكثير ممن يهمهم أمر الحركة، ولدى العديد من المكونات بما في ذلك المسؤولين الحكوميين الذين يشكل تواجدهم اليوم في مواقع السلطة أحد إنجازاتها، من قبيل التعبيرات المتتالية لرئيس الحكومة وبعض الوزراء في الإعلان عن رغبتهم واستعدادهم للحوار مع الحركة(السيدان: رئيس الحكومة ووزير الاتصال بصفة خاصة). وبالنظر لما تعرفه اليوم هذه الحركة من مرحلة كمون بعد الظهور الذي استمر سنة بكاملها، بعد أن عمل الربيع العربي على إخراجها من الكمون إلى الظهور، وإسهاما في إثراء نقاش هادئ وجدي حول طبيعة هذه الحركة التي يعود لها الفضل في ترتيب الاصطفاف الجديد للمشهد السياسي وما اتسم به من واقع عنوانه البارز: التبادل الإكراهي للمواقع بين الموالاة والمعارضة ، حيث عجلت الحركة بحمل البعض إلى مراتب السلطة وأرغمت البعض الآخر على التراجع إلى مواقعهم الطبيعية التي نشأوا فيها وتربوا وترعرعوا في أحضانها سواء تعلق الأمر بالتراجع نحو مواقع السلطة، أوالعودة إلى قلاع المعارضة،يمكن القول: أن الحركة ليست حزبا سياسيا وليست جماعة وليست إطارا أو مؤسسة تحكمها معايير يضعها القادة المؤسسون ويسعون إلى استقطاب القواعد وتبطيقهم وجعلهم نماذج متكررة بشكل نمطي يرددون نفس المبادئ ونفس اللغة ونفس الخطاب . وإنما هي حركة حقيقية لكل الديمقراطيين الحقيقيين. حركة استمدت مشروعيتها من كونها الوليد الطبيعي الذي أفرزه الحراك من رحم المجتمع. إلتف حوله كل المطالبين بالحق على اختلاف انتماءاتهم وتشكلت بذلك ضمنها هذه العلاقة الجدلية التلقائية البريئة بين سقفها وقاعدتها . قاعدة تشكلت من المطالبين بالعدالة الاجتماعية وإسقاط الفساد باعتباره التربة الخصبة لممارسة وإعادة إنتاج القهر والاستبداد، ليفضي ذلك ومن خلال جدل حلزوني صاعد إلى مستوى المطالبة بالحق في الحرية والكرامة الإنسانية. وهو ما يعني أن الحركة ليست لها قاعدة محددة تعكس مطالبها الفئوية أو الطبقية ، وليس لها سقف معين يحدد أفقها. بل هي حركة منفتحة من الأسفل ومن الأعلى , قاعدتها منفتحة على كل الغيورين على وطن يريدونه بلدا للجميع يضمن الأمن الجسدي والروحي والمعرفي ويضمن الحق في كل تجلياته المادية والمعنوية . وسقفها منفتح لاقمة له. لأن الحق وحسب كل المرجعيات، يشكل قيمة القيم، ما يدرك منه نسبي ولن يستطيع أي نظام سياسي أومنظومة قانونية أن تبلغ أفقه . بالمعنى الذي يفيد ضرورة التمييز بين ما يرنو إليه الحق وما يسمح به القانون ،إذ يروم الأول إقرار العدل في بعده الأمثل، في حين لايرقى القانون إلى ذلك الطموح، وبالمعنى الذي يعني أيضا افتقار القانون إلى تلك الهالة التي يتمتع بها الحق. وإن متأملا متأنيا في شعارات الحركة وعلى برائتها وتلقائيتها حرية- كرامة- عدالة اجتماعية- ليقف أمام هذا التناغم الجدلي بين ما يقوله القانون العادل من أجل المساواة والإنصاف، وما يقوله الحق في معناه الكوني أو الطبيعي باعتباره يعلو فوق القانون ولا يعلى عليه.شعارات تعكس هذا الوعي الجمعي بالعلاقة الوطيدة بين الحق باعتباره يستهدف عالم الفضيلة والطموح إلى ما ينبغي أن يكون : (حرية - كرامة ). وبين القانون باعتباره إطارا وضعيا يشمل جملة من المبادئ الوضعية التي تتبلور من خلال دساتير البلدان وعدالتها-(عدالة اجتماعية)-. وبناء عليه فإن كل قراءة تتغافل إما بوعي أو بدونه عن هذا الثالوث الذي يعكس ضميرا جمعيا يتغيا إحقاق دولة الحق والقانون وبالشكل الذي يتماهى ضمنها الحق مع القانون وكما تعتقد بذلك المرجعيات الوضعية على اعتبار أن الحق يقول القانون والقانون يقول الحق، أو بالشكل الذي يوضع فيه القانون لخدمة الإنسان والتعامل معه كغاية في ذاته وليس مجرد وسيلة وأكبر من أن يقوم بسعر (كانط) إن كل قراءة تتغافل عن هذا الثالوث المشترك الذي يشكل وحده هوية الحركة وسقفها المنفتح: (حرية – كرامة – عدالة اجتماعية) وكل قراءة تغض الطرف عن تنائية : إسقاط الفساد والاستبداد، وتنتقي من بين الشعارات ما تسعى من خلاله إلى الإدعاء المغرض بتماهي الحركة مع هذا السقف أوذاك ، وكل قراءة تهويلية تخوينية تروم استثمار فرصة العمر للوصول إلى السلطة ، إن كل قراءة بهذا التأويل أوذاك ، هي قراءة مغرضة ظاهرها الخوف على الحركة أو على البلد، وباطنها الرغبة في الإجهاز عليها لهذه الحسابات أو تلك. وآية ذلك هو توقف الأصوات التي كانت تتباكي عن الحركة بدعوى الخوف عليها من الاختراق، بمجرد إعلان جماعة العدل والإحسان عن انسحابها من حركة 20 فبراير..وانخراط القوى التي ادعت الخوف على البلد تحت شعار المعقول وتورطها اليوم في أدء وتدبير أقرب ما يكون إلى اللامعقول بما يطبعه من شطط وتخبط وتناقض وعشوائية وارتجال . أليس جديرا بهؤلاء "الخائفين أكثر من غيرهم" على البلد بكل أطيافهم سواء منهم الوافدون الجدد على كراسي السلطة أو المغادرين لها كرها أو المتمسكين بها طوعا أن يخشون على البلد من عواقب رداءة هذا المشهد السياسي العبثي البئيس، وذلك إقتداءا بالطبيعة التي تخشى الفراغ؟ أليس المطلوب من مناهضي الحركة والذين وصفوها بأرذل النعوت أن يتذكروا محنتهم بالأمس القريب مع تغول ما أسموه بالوافد الجديد الذي ولد ولادة قيصرية من رحم الفراغ الفظيع الذي خلفه الفشل الذريع للنسخة الأصلية من التناوب التوافقي الذي نتابع اليوم نسخته الرديئة التي أقل ما يقال عنها أنها لا تغري بالمتابعة والاهتمام، إن لم تكن تبعث على التقزز والاشمئزاز؟.