"هما يقولو هزمونا، وحنا نقولو انتصرنا". شعار لطالما ردده مناضلو حركة 20 فبراير في مسيراتهم الأسبوعية والشهرية على طول خريطة المغرب وعرضها. وهو شعار يلخص في عمقه وعي الحركة برهانها الأكبر، كحركة اجتماعية سياسية تتصارع من أجل تغيير ديمقراطي حقيقي. وككل حركة اجتماعية، عرف مسار حركة 20 فبراير صعودا و هبوطا، وسيعرف بعد الانكماش والتراجع انتعاشا وفقا للتغيرات التي يعرفها المجتمع المغربي. ترى ماهي أهم العوامل المتحكمة في دينامكية الحركة مدا وجزرا، قوة وضعفا ؟ وإلى أي حد يمكن اعتبار أن سبب التراجع يكمن في "الإصرار على فرض سقف معين لهذا الحراك وتسييجه بالاشتراطات التي تخرجه من دور الضغط في اتجاه التغيير الحقيقي، إلى عامل تنفيس عن الغضب الشعبي" ، كما جاء في بيان انسحاب جماعة العدل و الإحسان من حركة 20 فبراير ؟ ألا يمكن للدارس أن يرى في هذا الانسحاب نتاجا للبس شاب هوية الحركة وأدى بالتالي إلى انعدم الوضوح في الرؤية والأهداف؟ سنحاول تلمس بعض عناصر الإجابة عن هذه التساؤلات، على ضوء تصور الحركات الاجتماعية كتفاعل ديالكتيكي بين مبادئ ثلاث ( ألن تورين1978) هي مبدأ الهوية(من يقود الحركة ؟) ، مبدأ التعارض(من هم خصومها ؟) ومبدأ الكلية(ما هو الرهان الذي من أجله تناضل الحركة؟). مظاهر التراجع بادية للعيان، إن على مستوى وتيرة المسيرات الاحتجاجية التي أصبحت شهرية بعدما كانت أسبوعية (أي بنسبة تراجع تساوي 75%)، أو على مستوى أعداد المشاركين في هذه المسيرات التي كانت تقدر بعشرات الآلاف فأصبحت تعد بالمئات. ونفس التراجع يمكن ملاحظته على مستوى المواقع المحلية للاحتجاج (من مدن وقرى) التي كانت تصل إلى حد مائة موقع، فصارت اليوم لاتتجاوز في أحسن الأحوال عشرين موقعا. أولا:إشكال هوية حركة 20 فبراير كلنا يذكر ما كتب من تأويلات متسرعة ، عن انسحاب جماعة العدل والإحسان من حركة 20 فبراير. ولعل أبرزها التأويل الذي يذهب فيه أصحابه إلى أن الانسحاب تم من أجل فسح مجال العمل أمام الحكومة الجديدة التي يترأسها حزب العدالة والتنمية. الآن وبعد مرور أكثر من أربعة أشهر على هذا الحدث، يمكن إعادة قراءة بيان الانسحاب على ضوء معطيات جديدة، بعضها مرتبط بأحداث وقعت، و بعضها الآخر مرتبط بتصريحات لقياديين من جماعة العدل والإحسان. في غضون ذلك لم تتمكن الحركة، في معركتها ضد الاستبداد والفساد، من الحفاظ على وحدتها. فطيلة أشهر عشرة، تعايشت داخل الحركة مختلف التوجهات السياسية والإيديولوجية، اليساري منها والإسلامي، الليبرالي والمستقل. وكانت القرارات تتخذ بكيفية ديمقراطية من خلال جموع عامة وبعد نقاشات مستفيضة. ويشهد جل ناشطي الحركة، باختلاف مشاربهم الفكرية و السياسية، على أن العمل الميداني المنسق و المشترك أنساهم مع مر الأيام اختلافاتهم المذهبية. تلك كانت هوية حركة 20 فبراير ، كحركة اجتماعية سياسية شعبية وجماهيرية، تسعى بطرق سلمية إلى دمقرطة حقيقية للدولة، تقوم على ثالوث الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية. ولكن الحركة مع توالي الزمن والمحن ، تحولت إلى فضاء تتصارع فيه عدة إرادات للهيمنة، منها اليساري و الإسلامي ومنها الليبرالي . وهذا ما ذهبت إليه جماعة العدل والإحسان في بيان الانسحاب: "...(هناك من يسعى إلى) محاولة صبغ هذا الحراك بلون إيديولوجي أو سياسي ضدا على هوية الشعب المغربي المسلم في تناقض واضح مع ما يميز حركة الشارع في كل الدول العربية ". حركة 20 فبراير تلقت ضربات عدة ، لعل أقواها تلك التي تمثلت في انسحاب جماعة العدل والإحسان من الحراك منذ 18 دجنبر 2011 . عواقب الانسحاب مهما كانت الدواعي والأسباب، كانت وخيمة على الحركة. و كما يقول المثل فإن الضربة التي لا تقسم ظهرك تقويك. و حركة 20 فبراير، لاريب أنها ستعرف كيف ستتأقلم مع كل التغيرات التي تطرأ على مسارها . وستعمل كل مكوناتها بما فيها تلك التي انسحبت ، على رأب الصدع و ترميم الوحدة و تحصين الهوية، بعيدا عن أية هيمنة يسارية أو إسلامية أو ليبرالية . وهذا لن يتأتى إلا بإعادة رسم خطة استراتيجية واضحة تشارك فيها كل مكونات الحركة، و بسلم أولويات واضح يتصدره ما هو مشترك من أهداف سياسية واقتصادية واجتماعية. وبقدر ما تحتاج الحركة اليوم إلى ضبط هويتها كحركة اجتماعية سياسية، فإنها تحتاج أيضا إلى تحديد واضح لخصومها السياسيين وكذا لأهدافها ومشاريعها. إن إشكال هوية حركة 20 فبراير لايمكن مقاربته إلا من خلال النظر إلى هذه الهوية في علاقتها الجدلية بالخصم السياسي للحركة من جهة، وبطبيعة وتطور أهداف الحركة ورهانها من جهة أخرى. ثانيا: الضبابية في تحديد الخصم ضعف الحركة يعكس تأرجح ميزان القوى لصالح تحالف المخزن والحكومة . لهذا تراه يصول ويجول في جميع أنحاء البلد ،يعيث قمعا وتنكيلا واعتقالا في صفوف مختلف الحركات الاحتجاجية بدءا من ناشطي حركة 20 فبراير وعلى رأسهم فنان الحركة معاذ بلغوات(الحاقد) وشاعرها يونس بلخديم ، إلى حركات ضحايا الهدم العشوائي للسكن العشوائي، مرورا بحركات المعطلين حاملي الشواهد وحاملي السواعد وبمناضلي الحركة الطلابية. غالبا ما تحدد الحركة خصمها الأساسي في المخزن كمجسد للممارسة السلطوية الاستبدادية. المخزن كمتحكم في قواعد اللعبة السياسية ، والمحدد لطبيعة الأدوار التي ينبغي أن يقوم بها كل فاعل سياسي، مع تكريس هيمنة السلطة الحاكمة كقوة تحكمية وتحكيمية تتبوأ صدارة كل القوى الاجتماعية والسياسية. ولكن الحقل السياسي والاجتماعي يعج بقوى أخرى مضادة للتغيير لم تتوان، منذ انطلاق الحراك المغربي، في ضرب وحدة الحركة بشتى الوسائل والأساليب الممكنة. ولقد بدأت بعض وجوهها تنكشف حتى في العلاقة مع الحكومة الحالية والتي تحدث رئيسها مؤخرا عن وجود قلاع تقاوم كل محاولة للإصلاح ( محاربة الفساد الاقتصادي من خلال نشر لوائح المستفيدين من رخص النقل مثلا، وأيضا محاولة التصدي للفساد الإعلامي من خلال دفاتر التحملات الخاصة بالقطب العمومي والتي أجهضت بفعل تدخل اللوبي المتحكم في الإعلام الرسمي ). والأدهى من ذلك أن نجد امتدادات لقلاع مقاومة الإصلاح هذه حتى داخل التحالف الحكومي الحالي، وما استقالة الأستاذ الشهم يوسف بلال من عضوية الديوان السياسي لحزب التقدم والاشتراكية، إلا دليل قاطع على تغلغل اخطبوط المخزن المقاوم لكل تغيير في شرايين الائتلاف الحكومي. قلاع مقاومة الإصلاح هذه والتي تحدث عنها رئيس الحكومة تذكرنا بجيوب مقاومة التغيير، التي غالبا ما كان الأستاذ عبد الرحمن اليوسفي يبرر بها عرقلة السياسات الإصلاحية التي كانت حكومة التناوب تقودها على عهده كوزير أول. فهل سيعيد التاريخ نفسه ويسري على حكومة عبد الإله بنكيران ما سرى على حكومة التناوب التي قادها الاشتراكيون ؟ كل المؤشرات تدل على ذلك . وستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا ويأتيك بالأخبار من لم تزود. ثالثا :غموض الأهداف عرفت الأرضية السياسية لحركة 20 فبراير تأرجحا بين مطلب الملكية البرلمانية، وبين المطالبة بدستور ديمقراطي شعبي . الأمر الذي ترتب عنه غموض ولبس سواء بالنسبة لناشطي الحركة نفسها(تضارب في الشعارات أثناء المسيرات الاحتجاجية) أو بالنسبة للخصوم السياسيين و عموم المواطنين. إن الحديث عن الملكية البرلمانية كل يوم أحد في التظاهرات قد يتحول إلى نقاش نظري مجرد ، وفي نهاية المطاف يسدي خدمة مجانية للخصوم السياسيين ،مادام أنه ليس هنالك إفراط في استعمال العنف من طرف الدولة ضد حركة 20 فبراير، وإن كان هناك تضييق وقمع واعتقالات من طرف الدولة وأجهزتها ،إلا أنها لا تقارن مع الاعتداءات العنيفة والدموية التي تحدث في سوريا مثلا. كما أن التركيز على التظاهر رغم أهميته ، قد يصبح شكلا مبتذلا من أشكال الاحتجاج ، يجعل الغرب يعتقد أن حرية التظاهر السلمي مكفولة في المغرب ( مثل تصريحات ساركوزي المنوهة بالاصلاحات السياسية التي تقوم بها الدولة المغربية وكذا احترام حقوق الانسان بما فيها الحق في التظاهر السلمي). ومن نقاط ضعف حركة 20 فبراير أيضا ، عدم تمكنها لحد الآن من تعبئة الكثير من المغاربة الراغبين في التغيير و الذين لم يقتنعوا بعد باستراتيجية حركة 20 فبراير. ومع ذلك فلا أحد بإمكانه أن يشك في الالتزام النضالي للحركة وما يقتضيه من تضحيات وصلت حد الاستشهاد . ولكن عليها أن ترقى إلى مستوى الحركة الاجتماعية السياسية ذات الأهداف الاستراتيجية الواضحة. كما عليها أن تنتقل من طورالنزعة المثالية والرومانسية التي تطغى على نضاليتها (ترديد الشباب لأشعار وأغاني تمجد الثورة أثناء المسيرات) إلى طورالبراغماتية الواقعية التي تدقق في القضايا المرتبطة بمعيش مختلف الفئات الشعبية . غموض الأهداف هذا، بالإضافة إلى ما أشرنا إليه سابقا من اضطراب في هوية الحركة وضبابية في تحديد خصومها السياسيين، كل هذا ساهم في وقوع المفارقة التالية : ففي الوقت الذي يزداد فيه انكماش الحركة وتراجعها، نلاحظ في مقابل ذلك انتعاشا متزايدا للحركات الاحتجاجية الأخرى ، من حركة المعطلين حاملي الشواهد ،إلى حركة الأحياء الحضرية المهمشة (تازة ، بني بوعياش،بويكيدارن ، إمزورن) ، مرورا بحركة ساكنة إيمضر و حركة ضحايا هدم البناء العشوائي و حركة العسكريين المتقاعدين وحركة أساتذة الزنزانة 9 و حركة الائتلاف الجمعوي المناهض للقطار الفائق السرعةTGV. إن ما يميز هذه الحركات الاحتجاجية قدرتها الكبيرة على التعبئة، نظرا لوضوح مطالبها ودقتها، والتي هي في الغالب ذات طبيعة اجتماعية مثل الشغل والسكن والصحة والتعليم والترقية.. في حين أن مطالب حركة 20 فبراير تتسم بالعموم والغموض والتأرجح بين المطالب السياسية والإيديولوجية والاجتماعية . وأخيرا يمكن أن نقول إن على حركة 20 فبراير كحركة اجتماعية سياسية شعبية ، أن تبحث عن السبل والوسائل الكفيلة بخلق تفاعلات حقيقية مع الحركات الاحتجاجية ذات المطالب الواضحة، وذلك بالتواجد معها في مختلف معاركها ، وبمساندتها في احتجاجاتها وتبني مطالبها عبر مقاربة تشاركية فعلية ، تنأى عن أي استعمال سياسوي .