لا يختلف إثنان في وصف وتشخيص الأوضاع الإجتماعية والإقتصادية بمنطقة الصحراء التي تزداد تأزما وصعوبة وضبابية في المستقبل أمام شرائح المجتمع الصحراوي الذي مل وسئم من الوعود والشعارات والتجمعات الفارغة والتصريحات البراقة والرنانة والمصطلحات الحلوة والمعسولة والمسكنات والمهدئات التي أصبح يرفضها الجسم الصحراوي المعلول والمضطرب نفسيا نظرا لما يعيشه من إقصاء وتهميش وتغيير سريع في البنية الإجتماعية الصحراوية المحافظة التي لم يستسغها أصلا هذا المجتمع البدوي بسبب رياح العولمة العاتية . كما تعتبر منطقة الصحراء غنية من حيث الموارد الطبيعية والبحرية إلا أن هذه المؤهلات الطبيعية الواعدة بالتنمية والنهضة والإقلاع لا يستفيد منها المواطن الصحراوي ولا يستفيد حتى من الإمتيازات الممنوحة من الدولة لبعض الشرائح والفئات القادمة من هنا وهناك ، فكيف لهذا المواطن أن يرضى عن المؤسسات الوطنية ويضحي من أجل وطنه ويثق في دوائره وأحزابه وينخرط في مسلسل المشاركة و البناء والتشييد وهو لا يملك قوت يومه ولا رمق عيشه ولا حقه حتى في الوجود كحق أساسي وإلزامي مكفول . فالوضع داخل هذه المحافظات الصحراوية مزري ولا ينتظر إلا الإنفجار خاصة في صفوف الشباب العاطل وحملة الشواهد العليا بالتحديد علاوة على الأرامل والمطلقات والفئات الهشة والمعوزة ، فالأرقام مخيفة وتتضاعف يوما بعد يوم في صفوف العاطلين من بحارة وتقنيين ومجازين وحملة الماستر والدكاترة الذين لم يصدقوا هذا الوضع من صد الأبواب في وجوههم وصم الآذان عن مطالبهم المشروعة كحقهم في العيش الكريم وتمتيعهم بحقوقهم المدنية والسياسية والإجتماعية والإقتصادية كما نصت عليها الصكوك والعهود والمواثيق الدولية والبروتوكولات المنظمة لها والتي صادقت عليها المملكة المغربية منذ زمن بعيد بل يتحدث عنها الدستور في بابه الثاني المعنون ب "الحريات والحقوق الأساسية " خاصة في فصول 19 و20 و31 . إن الحديث عن كرامة الإنسان تقتضي أولا : الاعتراف به كمواطن يتمتع بحقوقه كاملة وعليه واجبات يقوم بها تجاه الدولة والمجتمع ، إلا أن هناك مجموعة من المظاهر والتجليات التي تجعل المواطن البسيط غير راض عن الواقع المعاش كما هو نظرا لعدم المساواة في الحقوق والعدل بين المواطنين و تكافئ الفرص وانعدام الديمقراطية والتخلف والأمية التي تعيشها الدول المغاربية عامة وبالتالي يصبح المواطن البسيط لا قيمة له بل مجرد رقم في الإحصاء السكاني ويسهل إحتقاره وإستقطابه وإستدراجه وشراء ضميره ومبادئه مستغلين في ذلك وضعه المادي وفقره ومستواه التعليمي والثقافي والمعرفي ، وهذا الوضع البغيض يجعل الإنسان العربي عموما يعيش يتيما جائعا في وطنه الأم بلا مأوى ولا دخل مادي ولا مهنة حرة نظرا لرفضه الإصطفاف والتخندق وراء عصابات السياسة وأصحاب المال القذر والمشبوه بائعي الأوهام المتبجحين بالمظاهر المادية الخداعة ، وهنا تغيب الدولة ومؤسساتها الدستورية ويغيب المواطن عن مسلسل الإصلاح والإختيار السليم والمقنع للرجل المناسب في الإستحقاقات البلدية والجهوية والتشريعية بل يلتزم الصمت واللامبالاة وكأنه غير معني بهذا وذاك ولا يشارك في التصويت والترشيح بل هناك من يفضل أخذ مبلغ من المال زهيد لتغطية حاجياته ذاك الأسبوع وينتهي المشهد المسرحي بصعود أشخاص لا علاقة لهم بالسياسة ولا يعرفون حتى إختصاصاتهم وأدوارهم السياسية والتنموية ، ويصبحون نخبة وصفوة المجتمع وممثلي السكان ، بسبب مالهم ونفوذهم وجاههم ، فالمسؤولية الأخلاقية والقانونية والسياسية مشتركة بين المواطن والدولة والمجتمع والأحزاب والجمعيات المدنية وجميع القوى الحية ، لأن بناء الدولة المدنية ليس هكذا تزيين ولا مكياج ولا ديكور ولا دستور غير مطبق وغير منزل بل يقتضي هذا البناء العدل والمساواة والمحاسبة وفصل السلط وتخليق الحياة العامة ومأسسة الدولة والمساءلة وتطبيق القانون على الجميع وترشيد النفقات وضبط الأمن الروحي والغذائي والعمومي ، فهذه المبادئ والقيم مهمة وضرورية للإصلاح والإقلاع ولابد لها من بيئة حاضنة لهذه المبادئ والقيم كالمناخ الديمقراطي ودولة الحق والقانون والحريات الفردية والجماعية . فالمغرب أقر بفشل "النموذج التنموي القديم" الذي أطلقه الملك محمد السادس في بداية حكمه في بداية الألفية الثالثة ويحاول الآن تشكيل لجنة للإشراف على نموذج تنموي جديد لإعادة الثقة بين الدولة والمواطن وتنمية البلاد ونهضتها والخروج من الأزمات الاقتصادية و الإجتماعية التي تعيشها البلاد ، لكن إدا كانت نفس البيئة والمحيط السياسي والأشخاص والعقلية والأدوات والوسائل والإجراءات التي كانت مستعملة أصلا في النموذج التنموي السابق هي نفسها أو ذاتها أو الجهة الوصية على تطبيق هذا النموذج لم تتغير فالنتيجة معروفة ومحسومة في النموذج الجديد والتصنيف العالمي في مؤشرات التنمية لبلادنا خير دليل على ذلك . فالأعطاب والأسباب كثيرة ومتعددة ومعروفة في فشل هذا النموذج التنموي القديم ، فأول الأعطاب هو الفوارق المجالية ثم ضعف مناخ الأعمال والإستثمار وضخامة الدين الخارجي للمملكة وإرتفاع حجم البطالة وضعف النمو الاقتصادي وسياسة التحكم وثقافة الريع وغياب العدالة الاجتماعية والطبقات المتوسطة علاوة على حصر الثروة في يد عائلات معروفة ومحسوبة على رؤوس الأصابع ناهيك عن ضعف التعليم والخدمات الاجتماعية الضرورية للمواطن ثم سياسة المحاباة وكذلك الخلط بين السياسي و رجل الأعمال الذي لا يدافع عن مصلحة الوطن والمواطنين بقدر ما يكافح عن مصلحته الشخصية الضيقة ويعتبر المؤسسة العمومية ملكا له ولعائلته ويفعل فيها ما يشاء ويبقى المواطن البسيط تائه في طريقه إلى العطاء والبذل لوطنه ولجهته بل تموت فيه غريزة الوطنية والغيرة على بلده . فالنموذج التنموي الجديد يجب أن يكون مسطرا بالأهداف التي يجب تحقيقها وتقويم هذا النموذج بشكل دوري لمعالجة الهفوات وتقييم النتائج المحصلة كذلك ، وأن يحظى بالأطر الكفءة والإقتراحات الجادة والمفيدة والإستماع إلى الكل من أجل ثقافة الإشراك وتحمل المسؤولية وتغيير العقليات والذهنيات البالية المتآكلة وفرض قوانين منظمة للإنتخابات تسترعي المستويات التعليمية العليا للمنتخبين والبرلمانيين والوزراء والأمناء العامون للأحزاب ، كما يجب التفكير في مسألة دوران النخب وتجديد المناصب والإقتصار على دورتين فقط في المجالس الجماعية والجهوية والبرلمانية من أجل تشجيع الشباب على تحمل المسؤولية وإسترجاع الثقة في هذه الشريحة الخدومة والطموحة ، وأستشهد هنا بما يجرى في الجارة الشمالية التي لا يتجاوز عمر أمناؤها العامون للأحزاب السياسية الإسبانية الأربعين سنة مثل زعيم "الحزب الشعبي" الإسباني بابلو كاسدو بلانكو وزعيم الحزب العمالي الإشتراكي "بيدرو شانشيز" . كما يجب أن تفعل مساطر الإفتحاص والتدقيق والمحاكم المالية وتطبيق المساطر القضائية و مؤسسة النيابة العامة ، وفتح نقاشات عمومية عن واقع البلاد وتحديد المسؤوليات وترسيخ ثقافة حقوق الأنسان والديمقراطية والحريات العامة وتجويد التعليم العمومي والتقني والمهني وتحسين الدخل الفردي للمواطن ، وترسيخ مبادئ الحكامة والشفافية والديمقراطية الداخلية للأحزاب السياسية التي أقل ما يقال عنها أنها ضيعات فلاحية يتسيد فيها المال والجاه والنفوذ. كل هذه المتمنيات والرغبات وغيرها في تقديري هي الدعائم الأساسية للإصلاح والركائز الضرورية لأي نهضة وتنمية ونموذج مثالي نصبو إليها والتي من شأنها أن تعطي دفعة قوية وشعور يضمن الكرامة الإنسانية وإشاعة ثقافة حقوق الإنسان والإحساس بالمواطنة . وختاما فإن الواقع بهذه المناطق الصحراوية يطرح العديد من الأسئلة حول ما مدى قيمة الإنسان في ظل هذا الوضع المأساوي المتأزم ؟ ثم هل هناك إستراتيجية محكمة للدولة في تغيير هذا الواقع البئيس ؟ وهل هناك نخبة صحراوية قادرة على تغيير الواقع ؟ ثم أخيرا هل يعتبر النموذج التنموي الخاص بالصحراء فاشلا على غرار النموذج التنموي الوطني أم على العكس من ذلك؟