إذا كان حراك الربيع العربي قد تكفل بإسقاط رموز الأنظمة الاستبدادية بتونس ومصر وليبيا ، وطوح بعلي عبد الله صالح إلى مزبلة التاريخ ، وأبى إلا أن يشعل فتيل الثورة في سوريا ،وهو الآن في طريقه إلى إرسال بشار الأسد إما إلى " تقاعد مريح " حيث يريح ويستريح ، أوإلى حبل المشنقة. فإنه في الحالة المغربية اكتفى بأن يكون السبب المباشر في ميلاد "إصلاحات" دعا إليها الملك محمد السادس في خطاب 9 مارس 2011 ، كما كان أيضا مدعاة للتعجيل بإجراء انتخابات تشريعية سابقة لأوانها ؛ انتخابات مكنت ،كما هو معلوم ، حزب العدالة والتنمية من الوصول إلى سدة الحكم،وتشكيل حكومة جديدة بمكونات لا يرغب الشعب المغربي في رؤية عدد من وزرائها يدبرون الشأن العام المغربي رفقة السيد بنكيران . وكان لهذا الحراك أيضا الفضل الأكبر في استصدار قرار ملكي يقضي بدخول فؤاد عالي الهمة إلى مربع الحكم من جهة أولى، وفي دفع العدل والإحسان إلى الانسحاب من حركة 20 فبراير وسط ذهول واستغراب الجميع من جهة ثانية. فلماذا كان حراك الربيع العربي كريما ورحيما بالمملكة المغربية إلى هذا الحد ؟ هل لأنه وجد فعلا في المغرب ذلك "الاستثناء " الذي رُوج ويروج له سياسيا وإعلاميا وأكاديميا ؟ للإجابة عن هذا السؤال لا بد من التأكيد على أن الحديث عن " الاستثناء " المغربي كان يقتضي بالضرورة الحديث عن تمظهراته ، سياسيا واقتصاديا واجتماعيا ، وإقناع المواطنين بأن هذه الأخيرة هي التي حالت دون وصول لهيب الحراك العربي إلى المغرب .ولهذا الغرض حاول ثلة من السياسيين والإعلاميين والأكاديميين إبراز ملامح " الاستثناء المغربي " في مداخلاتهم عبر قنواتنا الأرضية والفضائية ،إلا أن هذه المداخلات كانت جوفاء إلا من شطحات ديماغوجية ،ولذلك جاءت بعيدة جدا عن النظر السياسي العقلاني ، وعن مهنية إعلامية يطبعها الحياد والموضوعية ، وعن البحث الأكاديمي العلمي الصحيح ، مما أوجد هذه العينة من النخبة المغربية في وضع أقل ما يقال عنه أنه " كاريكاتوري " . إنه في ظل هذا العجز البين لسياسيينا وإعلاميينا وأكاديميينا في إقناع المغاربة بأنهم ، بسم الله ما شاء الله ، ينعمون بديمقراطية حقيقية حيث نعيم حرية تعبير لا مثيل له ، واقتصاد قوي ملقح ضد فيروسات كثيرة أبرزها فيروس يدعى " الريع " ، ومستوى عيش كريم يحسدون عليه ، وبالتالي هم من سيشكلون حصانة سياسية واقتصادية واجتماعية كفيلة بأن تحافظ على الاستقرار المغربي أمام تواجد كل المبررات التي يمكنها أن تمنح حراك الربيع العربي تأشيرة الدخول إلى التراب الوطني المغربي ،في ظل هذا العجز ، إذن ، كان من الطبيعي أن يُلتفت إلى حديث عن استثناء آخر، يختلف تماما عما يمكن تسميته ب" الاستثناء الرسمي " استثناء يبرز إلى حد ما أن المغرب ليس بمنأى عن مخاطر الربيع العربي ، الاستثناء الذي لم يتم الحديث عنه بصراحة تقتضيها مصلحة الوطن أولا وأخيرا ، ويمكن إبراز بعضا من ملامحه في معطيين اثنين على الأقل وهما : المعطى الأول ويتمثل أساسا في الكيفية التي تم التعامل بها مع حركة 20 فبراير ، حيث لاحظنا كيف وظفت الدولة المغربية تجربتها التي اكتسبتها من خلال تعاملها مع الاضطرابات التي عرفها المغرب منذ فجر الاستقلال ، من قبيل الأحداث التي عرفتها ستينيات وسبعينيات وثمانينيات القرن الماضي ، ولعل المحاولات الانقلابية التي باءت كلها بالفشل كانت أبرز هذه الأحداث ، والتي يمكن اتخاذها نموذجا صارخا لنجاح الدولة المغربية في كبح جماح إي اندفاع شعبي يروم المساس بهبة الدولة وثوابتها؛وبفضل "مكاسب " هذه التجربة تم امتصاص الغضب الشعبي غير ما مرة ، في زمكنيات مغربية مختلفة ، من شمال المغرب إلى جنوبه ومن شرقه إلى غربه، وهي التجربة نفسها مع اختلاف طفيف في التكتيك التي استلهمت الدولة بعض مفاتيحها وأدواتها في التعامل مع احتجاجات حركة 20 فبراير ، من خلال رصد سكنات وحركات هذه الأخيرة ، ومن ثم التخطيط للتعامل معها حتى قبل أن تنطلق محتجة منددة رافعة لشعارات تدعو ،في عمومها ، إلى محاربة الفساد والمفسدين . إضافة إلى فتحها ،أي الدولة، أبواب القنوات الفضائية والأرضية على مصراعيها لمكونات الأحزاب السياسية ، ولأكاديميين وإعلاميين لترسيخ مقولة "المغرب يشكل الاستثناء " من خلال أطروحات كانت في مجملها ، كما أسلفت ، بعيدة عن النظر السياسي العقلاني ، وعن مهنية إعلامية يطبعها الحياد والموضوعية ، وعن البحث الأكاديمي العلمي الصحيح . وبالتالي شكل التتبع والرصد لتحركات الحركة من جهة أولى، ومواكبة ذلك بأنشطة إعلامية مكثفة شارك فيها سياسيون وإعلاميون وأكاديميون من جهة ثانية الدعامتين الأساسيتين لتقنية اكتسبتها الدولة المغربية من خلال تراكمات تجاربها في التعامل مع هذا النوع من الاضطرابات . تقنية مكنت الدولة من عزل الحركة حيث تُركت هذه الأخيرة لوحدها دون سند يذكر من الأحزاب القديمة والجديدة، سواء منها اليمينية المحافظة أو اليسارية التقدمية أو الإدارية. لعلم هذه الأحزاب المسبق بأن الدولة لن تتسامح مع أي كان تقدم بسند معنوي أو مادي لهذه الحركة ، وبالتالي فضلت هذه المؤسسات ، عدم قطع شعرة معاوية مع الدولة؛ وضربت بمواقف وأحاسيس قواعدها عرض الحائط ؛ وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على أن الحركة وُظفت كتكتيك ضمن إستراتيجية محكمة لتطويق ما قد يأتي من عدوى حراك الربيع العربي في تونس ومصر وليبيا . وبالتالي كان من الطبيعي أن يتساءل الرأي العام الوطني عن تخلف جل أحزابنا عن دعم الحركة خاصة وأنها جاءت لتحارب الفساد والمفسدين، الشعار الذي هللت وطبلت له أحزابنا في مناسبات عدة ، خاصة في مواسم الانتخابات التشريعية والجماعية. مما دفع بالكثير من المتتبعين إلى تأكيد الحقيقة الُمرة التي تقول أن الأحزاب السياسية والإعلام الرسمي وثلة من الأكاديميين الذين لا يتكلمون ولا يؤلفون إلا تحت الطلب ، كلها " فعاليات " مجتمعة مجرد أدوات توظف في المكان والزمان المناسبين لتلعب دور "الكامبارس " إلى جانب الممثلين الكبار في مشهدنا السياسي المغربي. وبالتالي فإنه كان من الطبيعي جدا ألا تجد حركة 20 فبراير تجاوبا لدى الشعب المغربي ، لأن هذا الأخير لا زال الخوف يطوقه ، ولا زالت حيل السياسي الحزبي والإعلام المغربي الرسمي تنطلي عليه ، ولا زال الشريط الكامل أو بعض منه لسنوات الرصاص وما خلفته من ضحايا كثر بتشوهات في الذاكرة والذات معا يلازمه في حله وترحاله. بل إن الدولة نجحت وبامتياز في بث الريبة والشك في صفوف الحركة إلى حد نتج عنه ارتباك واضح في المواقف والتصريحات لمكونات هذه الأخيرة ، مما ساهم في عودة الطرح الحارق لعلامة الاستفهام الكبرى : " هل هذه الحركة هي صنيعة الربيع العربي فعلا ؟ أم أن هناك جهة معينة هي التي كانت وراء ميلادها لامتصاص الغضب الشعبي ليس إلا ؟ فكان لعودة هذا التساؤل المشروع الأثر البليغ على مصداقية الحركة ونضالها، وهو الأمر الذي دفع بكثير من فئات الشعب المغربي إلى اتخاذ مسافة بينها وبين هذه الحركة وفي مقدمتها مكونات حركة العدل والإحسان. أما المعطى الثاني فيمكن الحديث عنه انطلاقا من تساؤل مشروع آخر وهو : هل الاستثناء المغربي المسكوت عنه يكمن ، أيضا، في كون المملكة المغربية تحظى فعلا بحماية من الخارج من لهيب هذا الحراك العربي الحارق ، مثلها مثل الأنظمة الملكية العربية الأخرى ومعها الأنظمة الخليجية عموما التي لم يصلها هذا الحراك ؟ على اعتبار أن عجلة هذا الأخير توقفت في سوريا دون أن تطال وطأتها جغرافية وتاريخ دول الخليج العربي ( باستثناء مملكة البحرين التي اشتعل فيها فتيل الثورة ولكن ما فتئ أن خمد وخبا بفعل التدخل العسكري العاجل الذي جاء من دول مجلس التعاون الخليجي ,,, ؟ ) إن لهذا المعطى رصيد معتبر من المصداقية والصحة؛ إذا ما أخذنا بعين الاعتبار الدور الذي أنيط بدول شمال إفريقيا ، وليس المغرب وحده ، من لدن دول الاتحاد الأوروبي ومعها الولاياتالمتحدةالأمريكية ؛ وهو دور الإنابة عن هذه الأخيرة في محاربة ما درج على تسميته ب"الإرهاب " ، والدور الآخر المزدوج الذي أُسند إلى دول الخليج العربي ، بشقه الأول والمتمثل في ردع "المد الشيعي الإيراني " وحماية الدول العربية من أي استقطاب إيراني سيكون على حساب مصالح الغرب في المنطقة العربية عموما ، وبشقه الثاني المتمثل في المساهمة العسكرية واللوجستيكية في حالة تعرض إسرائيل لهجوم إيراني محتمل.وبالتالي سيصبح الحديث ممكنا ، إذن ،عن استثناء آخر إضافة إلى الاستثناء المغربي في الخليج عموما وفي جزء من دول شمال إفريقيا وتحديدا موريتانيا والجزائر. وبناء على ما سلف يمكن القول إنه من مصلحة الدولة المغربية ألا تعتمد كليا "الاستثناء " المسكوت عنه في خطابات سياسيينا وإعلاميينا وأكاديميينا " المبني أساسا ،من جهة أولى ، على المقاربة الأمنية المستمدة من تجربتها في تعاملها مع الاضطرابات التي شهدها المغرب سابقا ، في معالجة قضايا تهم المواطنين وتهم الاستقرار الاجتماعي تحديدا . وألا تعول ، من جهة ثانية ، على "حماية الخارج " لأن هذا الأخير لا يعترف بشيء اسمه الشعب المغربي ، أو النظام المغربي الذي كان من الأوائل الذين اعترفوا بأمريكا ككيان جديد على الخريطة السياسية العالمية ، وأنه حليف يمكن الاعتماد عليه في الحسم في قضايا عدة لصالح الغرب ، ولعل من أبرزها القضية الفلسطينية التي يسعى هذا الغرب إلى أن تظل مآلاتها تصب دائما في صالح إسرائيل ، وإنما يعترف بمن يضمن له مصالحه فقط ، والباقي يظل مجرد كلام استهلاكي يروج ليقال أن هناك غربا يحترم حقوق الإنسان والخصوصيات الثقافية والسياسية والاقتصادية للكيانات الوطنية السائرة في ركابه ، أوتلك الممانعة المغردة خارج سربه .