شهد يوما الجمعة والسبت 23 و24 مارس، لقاءين حضر أحدهما وزير العدل ووزيرة الأسرة والتضامن، وحضرت الثاني وزيرة الأسرة مع عائلة أمينة الفلالي ضحية الإغتصاب، وبعض الفاعلين المدنيين الآخرين، وقد أعطيت الكلمة للجميع ليعبّر كل عن موقفه ، في غياب الضحية التي ووري جثمانها التراب، وانقطع تواصلها مع بني جنسها إلى الأبد. وتمّ هذا في إطار ما أسمته السيدة الوزيرة ب"فتح الحوار"، بعد أزيد من خمسين سنة من الحراك النسوي الذي ما فتئ يحذر من كل أنواع الحيف التي تمارس في ظلّ قوانين مجحفة، لم يراع من وضعها كرامة الإنسان من حيث هو إنسان قبل كل شيء. وتمّ هذا بعد أن ساهمت وزارة العدل بتهيئة الأجواء ل"الحوار" بتحويل جريمة اغتصاب إلى "فض بكارة الفتاة برضاها". ولست أدري إن كانت لعنة البداية من الصفر قدرا أبديا بالنسبة للوزراء المغاربة، حيث يعتبر كل واحد منهم أنّ وصوله إلى منصبه هو بداية التاريخ وبداية "الحوار". في الوقت الذي هزت فيه الفضيحة المدوّية ضمير المغاربة، بل وضمير بلدان كثيرة مجاورة، وأصبح الأمر يقتضي الحسم بمراجعة القانون الجنائي وإخراج نسخته المعدلة، الخالية من تبرير التخلف الإجتماعي، وتجاوز مرحلة إلى أخرى، تنادي الوزيرة ب"فتح الحوار"، من أجل إعطاء دروس أخلاقية تبعث على النوم وقوفا، وكأن الناس لم تبحّ حناجرهم من حضور محافل الكلام الرسمي على مدى عقود، عبر التحاور تارة والصياح والإستنكار والتنديد تارة أخرى. في أي بلد من بلدان العالم حيث الحسّ السليم، والقيم الإنسانية تملأ العقول والقلوب التي ليس بها مرض، لن يقبل أحد المحاكمة الأخلاقية لفتاة مغتصبة في غيابها وتبرير العنف الذي تعرضت له بعد أن ابتلعتها ظلمة القبر، ولم يعد بإمكانها الإعتراض أو التصحيح أو التذكير بحقيقة ما جرى، خارج أي إكراه أو ترهيب. فالعدل يقتضي إنصاف المظلوم وليس الإلتفاف على حكايته . وفي حالة ما إذا أسدل الستار على هذه المأساة بدون تجريم الإغتصاب وإلغاء قوانين الميز، ستكون مثل هذه اللقاءات اغتصابا ثالثا لأمينة، بعد الإغتصاب الأول الذي تتمّ محاولة التخفيف منه، والإغتصاب الثاني بتزويجها ممّن لم يكن يمكن أبدا معاملتها بغير طريقة الإنتقام التقليدية، التي تلجأ إليها العقلية الذكورية في مثل هذه الحالات. ما هو الهدف الحقيقي من "فتح حوار" متأخر وبلا معنى في وقت أصبح فيه الأمر يقتضي الحزم والشدّة وتصحيح الأخطاء، ثم متابعة الحوار بعد ذلك في الأمور المتبقية التي لا شك سيأتي دورها عاجلا أو آجلا ؟ لا نرى من هدف إلا الإلتفاف على المطلب الذي أصبح موضوع إجماع المغاربة في هذه النازلة، وهو مراجعة القانون وإلغاء كل المواد التي تبيح تبرئة المجرمين وتسمح بإصدار أحكام جائرة في حق المظلومين. فبحديث الوزيرة عن إمكان "مواكبة" الزيجات الناتجة عن الإغتصاب ل"إنجاحها" (كذا!)، إذا ظل المجتمع متشبثا بهذا الحلّ اللاإنساني (كذا!)، دليل على عدم توفر إرادة لدى التيار المحافظ لإنجاز التغيير المطلوب، ذلك أن الجميع يعلم استحالة وجود أي تطور، لو ظلت مجتمعات العالم تساير العقلية السائدة فيها، فتغيير القوانين وتأهيل المجتمعات وتأطيرها هو واجب الحكومات منعا للظلم والميز. ومن حسنات هذه الفجيعة إن كانت للنوائب حسنات أنها حركت القلوب القاسية للتيار المحافظ، الذي لم نتعود منه إلا كل فظاظة تجاه النساء، فتسابق البعض في إعلان أن تزويج الفتاة من مغتصبها "لا أساس له في الشرع"، وإن لم يعد ثمة فضل لقائل هذا الكلام بعد عقود من الصمت والتواطؤ، فالسؤال المطروح هو أين كان هؤلاء المتفقهون في الدين عندما كانت الحركة النسائية تنبه باستمرار إلى مخاطر تطبيق نصوص قانونية مجحفة، تمتح من تقاليد وذهنية مجتمع الحريم ؟ الجواب هو أن التيار المحافظ يجد نفسه خاسرا عند كل خطوة ترمي إلى تحديث العلاقات بين المواطنين وإقرار قوانين تعطي الأولوية للإنسان على النصوص، بينما تكمن كل جهود هذا التيار في السعي إلى الإبقاء على قوانين الميز من أجل الإستمرار في ممارسة الوصاية على المجتمع، عبر بوابة التقاليد والعادات البالية. إن ما يهمّ المغاربة اليوم هو ما إذا كان حوار الوزيرة سيستمر إلى ما لا نهاية، ليفضي مثل حوارات رسمية سابقة إلى لا شيء، أو إلى حلول تمويهية، أم أن المسؤولين عن قطاعي التشريع والقضاء سيبادرون إلى اتخاذ الإجراءات اللازمة لضمان العدل والمساواة بين الجنسين، وذلك عبر التعجيل بإصدار القانون الجنائي المراجع الذي طال انتظاره، وإلغاء الفصل 475 الذي لا يجرّم الإغتصاب ويسمح بالتسويات المخلة بالكرامة الإنسانية. وكذا إعادة النظر في بعض مواد مدونة الأسرة، وخاصة منها ما يتعلق بصلاحيات القضاة وسلطتهم التقديرية التي أدى استعمالها بإفراط إلى أن يبقى الحال على ما هو عليه، وخاصة فيما يخصّ تزويج القاصرات وإباحة تعدّد الزوجات، حيث لم تتغير الأرقام المتعلقة بهذه الممارسات تغيرا كبيرا بعد تعديل المدونة. والعمل على ملاءمة التشريعات الوطنية مع مقتضيات الدستور المعدل والمرجعية الدولية لحقوق الإنسان فيما يخص مناهضة العنف ضد النساء وإنهاء كل أنواع الميز ضد المرأة، والتعجيل بإنشاء هيئة المناصفة لإرساء المساواة الفعلية بين النساء والرجال. وفي انتظار ذلك نطرح بمرارة السؤال الذي لا شك أنه يثور لدى كل ذي حسّ إنساني سليم: إلى متى سنظلّ من أجل رفع الحيف وإنهاء كل أنواع الإستبداد وثقافة الميز بحاجة إلى أمثال البوعزيزي وأمينة الفلالي؟