على أعتاب مرحلة جديدة يقف المغرب.. لعلها تكون مناسبة لمراجعة ما مضى واستشراف ما هو آت... لا تمثل عشر سنوات، وهي المدة التي قضاها محمد السادس ملكاً على عرش المملكة، تراكماً كافياً في الزمن السياسي، لقراءة المستجدات التي طرأت على الحقل السياسي في المغرب، قراءة تتيح الفهم الصحيح لواقع يستعصي على التوصيف. لكن هذا العائق لا يحجب حقيقة أن متغيرات كثيرةً وجدت سبيلها إلى النظام السياسي، عيبها الوحيدُ ربما أنها متغيرات مست الشكلَ وأغفلت الجوهر... ملكية دستورية تنفيذية يحكم الملك بمقتضاها ويسود أيضاً، ومشهد سياسي محكم الإغلاق لا مجال فيه للاجتهاد. هذه على الأرجح عقدة المغرب السياسية التي أفرغت مشروع الانتقال الديمقراطي من مضمونه فأبقته حبيس إطار لفظي وبلاغي للاستهلاك في الصالونات السياسية. تلك قناعة أوجزها الراحل محمد عابد الجابري بالقول إن المغرب ما زال في قاعة انتظار كبيرة، بما يفيد بأن للرجل تحفظات على المشروع وعلى مقاصده وطريقة إخراجه وسبل تنفيذه. الآن وقد ولى عقد من الزمن من عمر ما يعرف في المعجم السياسي في المغرب بالانتقال التوافقي.. ما الذي أنجز للبرهنة على الرغبة في تحقيق هذا المشروع السياسي، أبعد من بعض التعديلات الطفيفة التي أدخلت على قانون الانتخابات وإقرار قانون للأسرة وشعارات رنانة تنثر هنا وتوزع هنالك؟ لا شيء عملياً. وتبدّى أن شعارات ومبادرات كثيرة (هيئة الإنصاف والمصالحة) أريد لها أن تكون عنواناً للقطيعة مع العهد السابق وما رافقه من انتهاكات جسيمة لحقوق الأفراد والجماعات، ليست إلا حملة علاقات عامة، سوِّق لها بعناية بغرض تلميع صورة نظام كانت تتهدّد جسده العليل أزمة قلبية. والشاهد أن مطلب الإصلاحات السياسية والدستورية توارى وغيب مفهوم الفصل بين السلط من النقاش وتراجع ترتيبه في سلم الأولويات ولم يعد يتصدّر أجندة الأحزاب الحقيقية منها والمصطنعة إلا في الزمن الانتخابي ابتزازاً لا اقتناعاً. وبات واضحاً أيضاً، أن لا نية للنظام في تقديم تنازلات تصب في خانة تقليص الصلاحيات الواسعة التي يمنحها الدستور للملك. ولا نية أيضاً في الانتقال إلى ملكية برلمانية ديمقراطية يحكم فيها الملك ولا يسود.. كما في الملكيات الدستورية الحقة. غير خاف كذلك أن المؤسسات الدستورية شكلية لا سلطة لها لا في اتخاذ القرار ولا تساهم في صياغته ولا تستشار حين اتخاذه، إنما دورها منحصر في تزكيته وتطويقه بسند يزكي ثقافة الإجماع التي أغرم بها النظام المغربي. صحيح أن المغرب أحدث اختراقات نوعية في جدار العلاقات مع الاتحاد الأوربي بعد أن حصل على وضع شريك متقدم وفتحت في وجهه أسواق بلدان الاتحاد. وصحيح بلا شك أن إنجازات هامة تحققت على مستوى البنى التحتية ورفعت العزلة عن مناطق همشت لعقود طويلة، لكن ذلك لا يغني عن القول، إن نقاطاً سوداء تجمعت في سماء بلد هو بلد الفرص الضائعة بامتياز.. وظف القضاء لتصفية حسابات سياسية قديمة واستشرت الرشوة والفساد حتى سرى إلى هرم السلطة (وثائق ويكيليكس كشفت بعضاً من أوجه هذا الفساد) واستمر التعذيب في المعتقلات، وعادت ظاهرة الاختفاء القسري لتطل بوجهها القبيح، وفتحت المملكة سجونها السرية والعلنية لمعتقلين أجانب أوقفوا في إطار الحرب الأمريكية على «الإرهاب». وتعمّقت الفوارق الاجتماعية فازداد الأثرياء ثراء وغرق الفقراء في أوحال البؤس والعوز. وسقط المغرب سقطة مهينة في اختبار الحريات. فأغلقت صحف وغرمت أخرى بغرامات ثقيلة، وصدرت أحكام بالسجن بحق صحافيين واتضح أن صدر السلطة يضيق للنقد وأن ثمة من لا يريد أن يُسمع صوتاً آخر خارج الأصوات المداهنة للنظام والمتمسحة بأهدابه. هكذا أخلف المغرب موعده مع التاريخ.. على أن مشكلة الصحراء الغربية تظل شوكة في خاصرة المغرب لا يجد من تعقيداتها خلاصاً منذ ما يزيد عن ثلاثة عقود. فقد جرب كل الوصفات مرها وحلوها. رفض مبدأ الاستفتاء على تقرير المصير ثم عاد فقبله. رفض فكرة التقسيم واقترح في المقابل حكماً ذاتياً موسعاً للمنطقة. وفي ما بين هذه المواقف المتقلبة مياه كثيرة جرت تحت الجسر. الثابت الوحيد في كل هذا هو أن الصراع ممتد والحل بعيد. طوق النجاة الوحيد للخروج من هذه الأزمات، وهي كثيرة ومعقدة، هو الديمقراطية.. ممارسة لا شعاراً. *عن السفير اللبنانية وبالاتفاق مع الكاتب