في حوار أجرته معه مجلة العربي ، في عددها 560 جمادى الأولى 1426ه ، يوليو 2005 م،قال الروائي العربي السوداني الطيب صالح في حق الدكتور إدوارد سعيد : ".....هو نتاج ثقافات أوربية وعربية ، بالرغم من أنه كان مسيحيا ، فإنه كان أيضا يعتبر الإسلام جزءا من هويته ..." . إذا كان هذا هو حال إدوارد سعيد المثقف الذي كان يملك سعة صدر ، ورحابة فكر ، وقدرة نادرة على طرح قضايا غير عدوانية نهائيا ، وقدم الكثير من جهده لقضايا العرب وفي مقدمتها القضية الفلسطينية ،و "قام بدور لا تقوى عليه كتائب من الدعاة " على حد تعبير صاحب "موسم الهجرة إلى الشمال" الروائي السوداني الطيب صالح ، فكيف هو حال ثلة من مثقفينا الذين يتخذون "العلمانية " زاويتهم الوحيدة التي ينظرون من خلالها إلى قضايا الوطن والمواطنين المغاربة ، وفي مقدمتها " مسألة الهوية " . أعتقد أن المثقف الحقيقي هو من يؤسس موقفه ، من جزء أو أجزاء من مكونات هويته ، على معطى رئيسي ؛ وهو كونه مثقفا حاملا لثقافات مختلفة، شاء أم أبى ، نهل منها إما عن طريق البحث والتحصيل والتعلم والتفاعل ، أو عن طريق التربية والتشبع بميراث الأجداد الذي هو أيضا عصارة لخليط من الثقافات التي مر أصحابها يوما من هنا على أرض هذا البلد العريق الذي هو المغرب . وبالتالي إذا أصر هذا المثقف على الاعتراف بجزء من هويته وتنكر للجزء الآخر،يكون تماما كالذي يعبد الله على حرف ؛ ذلك الذي يأخذ مما جاء في كتاب الله و سنة رسوله ما يلبي رغبات هواه فقط . وحتى لا يبقى كلامنا عاما وعائما، يمكن أن نستأنس في هذا الإطار بالحديث عن نموذجين، على سبيل التمثيل لا الحصر، يمثلان ثلة من المثقفين العلمانيين المغاربة الذين يتنكرون، تحت ضغط تعاليم علمانيتهم، لجزء أساسي من هويتهم الذي هو الإسلام: ففي مناسبة سابقة صرح الدكتور عبد الصمد الديالمي وهو الأستاذ الجامعي والباحث في علم الاجتماع أن: "كل مسلم ملزم بالديمقراطية لكن ليس كل ديمقراطي ملزم بالإسلام " " إن هذا الطراز من "الفكر " يحيلنا للوهلة الأولى على كتابات استشراقية كثيرة دسها أصحابها لتكشف عن حقد وكراهية دفينتين للإسلام وأهله . وللأسف الشديد حققت هذه الكتابات ،في فترة معينة من التاريخ،نجاحات كبيرة ،تجلت في ظهور "مثقفين عرب " دافعوا بحماس واستماتة على الطروحات التي كانت تبشر بها هذه الكتابات الاستشراقية المعادية للإسلام تحديدا من قبيل كتابات "بروكلمان" و"مارغليوط "و"جاك بيرك" والقائمة طويلة . . و القراءة الأولية في "مضامين هذا الفكر المعادي للدين الإسلامي ، دين الحوار والتسامح " ، تفضي إلى ما يلي : إن سحر "الديمقراطية" الغربية الجاذب ، خلق لدى هؤلاء المثقفين المغاربة قابلية عجيبة لأن يروجوا ، وبالمجان ، ما تلوكه الألسنة الغربية في نواديها وصالوناتها الأدبية، دون أن يدركوا أنهم بذلك يقدمون خدمات جمة لهذا الغرب المعادي والرافض للدين الإسلامي ؛ الذي هو في نهاية المطاف يعتبر دين الآخر الذي تقول ديمقراطية الغرب أنها تحترمه . الإلزامية التي وردت في ثنايا هذا "الفكر " هي إلزامية فيها من الاستلاب والإقصاء الفكريين ما يشيب له الولدان في أرحام أمهاتهم ؛ فالاستلاب تجلى في إلزام المسلم بالديمقراطية ،أي الانسياق التام للمسلم وراء "ديمقراطية الغرب " ، علما أن زيف هذه الأخيرة وزيف قيمها واضح وضوح الشمس في كبد السماء إلا على الذين أصيبوا بعمى البصر والبصيرة ،هذا الانسياق يجب أن يكون ، في نظر الديالمي ، دون انتقاء ضروري يراعي خصوصياتنا كمغاربة مسلمين لهم حضارة وثقافة ضاربة في القدم .كما تجلى أيضا هذا الاستتباع الفكري لكل ما هو استشراقي غربي في إعفاء كل الديمقراطيين من الإسلام ، وبالمقابل فرض الديمقراطية بكل قيمها على كل المسلمين ، فجاءت الرسالة الإقصائية كالتالي : أنت أيها المسلم لست ديمقراطيا ، وبالتالي فدينك الإسلام هو أيضا ليس ديمقراطيا ، أما أنت أيها الديمقراطي السائر في ركاب الغرب الامبريالي لك من القيم ما هو أسمى وأمثل من قيم أخرى ، بما فيها قيم الإسلام نفسه ، فقيمك قيم "حضارة غالبة " وقيم الإسلام قيم "حضارة مغلوبة " وعلى المغلوب أن يرضخ لنزوات وحماقات الغالب حتى ولو كان هذا الأخير يعاني من "هلوسات " أضحكت حتى أبناء جلدته. إن هذا النوع من الفكر يفرز "قناعة المثقف المهزوم " التي تفتقر إلى الموضوعية ، هذه الأخيرة التي يجب أن تطبع مواقفه ومبادئه ، خاصة إذا كان من حجم الدكتور الديالمي ،حتى يتمكن من إيجاد مكان معتبر له ولأبناء جلدته يقيهم من تبعات التضليل الذي تمارسه" المفاهيم الآتية من الغرب ، مجنبا إياهم السقوط في فخ التبعية العمياء و الانبهار بكل ما تهب به رياح الغرب بين الحين والآخر ، من قبيل ما " تفضل" به الأستاذ عصيد ،الممثل الثاني للمثقف المنبهر حد الحلول بالغرب وعلمانيته ، في مقال له نُشر في هيسبريس وفي موقع "لكم " تحت عنوان :" في حرية اللباس بين " الحجاب " الممنوع و "الحجاب " القسري " والذي ورد فيه الكثير من المؤشرات التي لا تدل على أن الرجل يتنكر لجزء من هويته الذي هو الإسلام فحسب ، بل تدل أيضا على أنه رحل كليا، قلبا وقالبا ،إلى رحاب الغرب حيث، يُمارَس التضليل الفكري والسياسي بدهاء قل نظيره في التاريخ الإنساني، حينما كتب : " ....تتعارض العلمانية تماما مع كل الإيديولوجيات الشمولية التي تسعى بوسائل السلطة والغلبة إلى فرض نهج معين على الجميع، ومنظومة قيم ثابتة على الكل....." وكأن ما يؤمن به السيد عصيد مما تمليه عليه تعاليم علمانيته ، لا يدخل بدوره في إطار الإيديولوجيات الشمولية ،هذا إذا سلمنا جدلا بأن الإسلام " إيديولوجية " ، ففي هذا الفكر عداء واضح للإسلام ويمكن أن نبرز مظاهر هذا العداء الكامنة في التخريجة العصيدية من خلال الخلاصات التالية : إن قيم العلمانية قيم متحولة ومتطورة ومسايرة لمستجدات العصر وبالتالي فالعلمانية هي التي يجب أن تصبح دين وديدن كل مسلم ، هذا إذا أراد أن يكون هذا الأخير "متحضرا " أو مقبولا ومرحبا به من لدن الغرب بالمعنى الواسع ( أمريكا وأوربا). إن قيم الدين الإسلامي هي قيم ثابتة لا تتغير ، وبالتالي لا يمكن لدين بهذه المواصفات أن يكون دينا صالحا لكل زمان ومكان ، و لا دينا جاء للعالمين ، و من تم من مصلحة المغاربة ، الآن وهنا ، أن يلغوه من أذهانهم ، ويحتضنوا كل ما تقول به العلمانية دون تمحيص أو نقد أو تقويم أو تقييم. وينقادوا كالقطيع لتعاليم هذه العلمانية ،تماما كما هو الشأن بالنسبة لهذا الرهط من المثقفين .. وخلاصة القول إن اعتراف إدوارد سعيد بالإسلام كجزء من هويته ، فيه العديد من الدروس والعبر لكل من يعاني انفصاما فكريا من مثقفينا العلمانيين، فالرجل يملك ، كما أسلفت ، سعة صدر ورحابة فكر ،وعاش طيلة حياته في موطن العلمانية ،وخبر مكائد ودسائس الذين يتبجحون بالديمقراطية هناك، ومع ذلك كله لم يتنكر الرجل أبدا للإسلام بالرغم من أنه مسيحي ، ما أهله لأن يستقبله الغرب ك : "إنسان عربي بلغ درجة عالية من التحضر أعلى من التي وصل إليها كثيرون " من مكونات هذا الغرب الذي استطاع ،للأسف الشديد ،أن يسخر بكيفية مباشرة أو غير مباشرة ، ثلة من مثقفينا من طراز الأستاذ عصيد والدكتور الديالمي ، لترويج ما عجز عن تمريره وإشاعته في مجتمعاتنا العربية المسلمة بالقوة والسيف ...