كنت قرأت قبل سنوات للكاتب المصري خالد الخميسي... رواية "التاكسي، حواديت المشاوير"... ولم أكن وقتها من مرتادي التاكسيات. ومع أنني عشت في فصول الرواية كل ما يعانيه المجتمع المصري على لسان السائقين. إلا أنني كنت أستمتع بالسرد أكثر من الواقعية الاجتماعية. بيد أن الحال تبدل لدي مؤخرا في ما عاينته، عندما رست قدماي ذهابا وإيابا مع هذه الشريحة، واستحضرت حينها، ولا زلت، أحوالا ذكرها الخميسي على لسان شخصيات روايته. "ولدى أولئك السائقين خبرات واسعة بالمجتمع حيث أنهم يعيشون عمليا في الشارع ويلتقون في الشارع ويلتقون بمزيج هائل من البشر بشكل يومي وتتجمع لديهم من خلال الحوارات التي يقيمونها وجهات نظر معبرة عن شريحة الغلابة(المساكين)، في المجتمع". أقتبس هذا الكلام من الرواية، وقد ينطبق كلام الخميسي على كل سائق في العالم العربي غالبا، لأنسج على منواله ما يمكن أن يقال في جزء صغير من مشاوير السائقين عندنا في المغرب. يعتبر الربيع العربي مادة دسمة لحوارات سائقي التاكسيات. فالسائق اليومي يعيش ما يقع عبر المذياع الذي بجنبه أو ما ينقله له عامة ركابه. فيستجمع أخبارا وحوادث بشكل كثيف، إلى أن ينذره عقله أن خبرا واحدا ويفيض الكأس.. فيفيض دونما شعور إلى الذي يركب بالقرب منه أنه حصل كذا وكذا وكذا... يُفرغ مخزونه ليستقبل من جديد.. وهكذا يوميا. ما حصل في العالم والمغرب؛ الربيع العربي، 20 فبراير، الملك، البوليساريو، الصحراء، سنوات الرصاص، الانتخابات، الدستور، التزوير، الفساد، ارتفاع الأسعار... العدالة والتنمية. كل هذه المواضيع لم تسلم من ألسن التاكسيات. وما يعجبني في الأمر هو الاستماع إلى الآراء، ليس لأني أحب الاستماع أكثر من الكلام فقط، بل لأن أغلب الركاب قد لا يجد من يستمع إليهم ويأخذ رأيهم بشكل مباشر أو غير مباشر، فتجد في كلامهم حدة نابعة من ألمهم وآمالهم. كما أن كثرة التجارب تغني النقاش، لا سيما إذا كان منهم شيخ أو كهل، رجالا و نساء. ولعل آخر مواضيع مشاوير التاكسيات هي حكومة ابن كيران، ذو التوجه الإسلامي، ومن يصاحبه في مهمة النهوض بالأوضاع في شتى القطاعات.. وهي بعض المحكيات، الخارجة عن الرقابة والمتابعة، والمسربلة بالقهر والمعاناة.. والتي تفاجئك أحيانا ببساطتها، بالتحليل وبالسؤال. نتشارك كل يوم الطريق والوجهة، ونطرح الأسئلة... لكن الغريب في هذه المشاوير أنه ربما في اليوم التالي قد تسمع كلام ركابٍ يناقض ما سمعته بالأمس، وكأنك انتقلت إلى مكان آخر..!! ورغم تعايشهم وتقاربهم، تجد مفارقات في التعبير عن أوضاعهم ومشاكلهم.. جد متباعدة. وبذلك لا تجد سبيلا إلا أن تستمر أيامك في التنقل بين وجهات نظر هذه المشاوير. أختم بكلام الخميسي من روايته: "والحق يقال.. فإنني كثيرا ما أرى في التحليل السياسي لبعض السائقين عمقا أكثر مما أجده لدى العديد من محللين سياسيين يملئون الدنيا صخبا. فحضارة هذا الشعب تتجلى في بساطته.. مُعلِّم بحق لكل من يريد أن يتعلم".