– مقاربة وصفية – استخدام الإنسان أساليب وطرق متعددة للتأثير على أفكار ومعتقدات خصومه، وكثير ما كانت ترتبط الدعاية بالحروب والثورات، وقد أدى التقدم التقني الهائل في مجال الإعلام إلى بروز ظاهرة الدعاية من جديد وبشكل قوي وسأركز بالخصوص على الدعاية السياسية لأنها الأكثر انتشارا في وسائل الإعلام. قد ينبني الرأي العام على الأهواء والرغبات، والدعاية تقوم في أغلب الأحيان على خلق حالات من التوتر الفكري، بعيد عن الموضوعية، والتحليل المنطقي السليم، وهذا من شأنه تضليل الرأي العام، خاصة عندما تندس الدعاية عن طريق وسائل الإعلام، فتتنكر بأقنعة مزيفة وتلحق الضرر بالرأي العام، فيتقبلها الناس وينساقون وراءها، فالدعاية تقوم بتحوير الحقيقة والتحكم في أفكار الناس. وتتركز الدعاية في ذلك على سيكولوجية الجماهير بحيث تتفق مع الاتجاهات والميول السائد لدى الناس كمنطلق لتحقيق أغراضها. و الفرق بين الدعاية والإقناع هو أن الدعاية نوع من التواصل الهدف منها هو الوصول إلى استجابة تضمنت مصلحة صاحب الدعاية. أما الإقناع فهو تفاعلي والهدف منه إرضاء المُقنِع والمُقْنَعُ. فالقاسم المشترك بينهما هو أن كلاهما نوعان من أنواع التواصل، بيد أن الفرق واضح وجلي. في ملحق كتاب نعوم تشومسكي (9-11) يعرض تقرير عن المنظمات الإرهابية الأجنبية تم انجازه من طرف منسق مكتب مكافحة الإرهاب، هذا التقرير يذكر ما يترتب عن تطبيق مقتضيات القانون، ومن بين هذه الترتيبات هو ضرورة قيام الدولة بتوعية الرأي العام وإحاطته علما بالمنظمات الإرهابية المذكورة، (هذا لن يتأتى طبعا إلا بتدخل وسائل الإعلام بتقنياتها ووسائلها ومبالغاتها(. وفي كتابه الآخر تحت عنوان "تحكم الأعلام" Media Control يؤرخ تشومسكي للدعاية في السياسة الأمريكية، يذكر أن الرئيس الأمريكي وودرو ويلسون Woodron Wilson لجأ إلى الصحافة لحشد همة الشعب الأمريكي الذي كان ينعم بالهدوء والسلم للوقوف معه ضد ألمانيا في أثناء الحرب العالمية الأولى، فكون "لجنة مريل" وهي لجنة للدعاية. كما واستعانا بالطبقة المثقفة مثل "جون ديوي" الفيلسوف وعالم النفس والتربية. تعتبر هذه الطريقة من الوسائل الناجعة لتغليط الرأي العام. وهذا ما يؤكده تشومسكي في كتابه حين يقول: "من مكونات الدعاية ضد ألمانيا نشر أخبار لا أساس لها من الصحة استمدها الصحفيون الأمريكيون من كتب التاريخ البريطانية التي كان لها باع طويل في خلق الأساطير عن الشعوب الأخرى. في فصل بعنوان ديمقراطية المتفرجين بنفس الكتاب يشرح تشومسكي كيف أن منظري الديمقراطية الليبراليين (من بينهم وليتر ليبمان Walter Lippmann) خلقوا ديمقراطية تنبني على أساس تحريض الشعوب للقيام بثورات باستيلاء طبقة متخصصة على الحكم، ثم الزج بالشعوب إلى الهامش عن طريق صناعة وترويض ذوقهم ليقبلوا بالديمقراطية المفروضة عليهم بدون أن يحسوا بذلك. وبالتالي يصبحون كما اطلق عليهم ليبمان "القطيع الضائع" أو "الرعية الضائعة" الذين لهم وظيفة وحيدة وهي التفرج. لهذا سميت بديمقراطية المتفرجين وليس المشاركين... إذا نطقوا فإن أصواتهم تقول: نريدك أن تكون زعيما لنا. وهذا حال معظم الشعوب العربية التي تمجد القائد دون وعي أو اقتناع حقيقيين. هذا في الظاهر ليس دكتاتورية ولكنها ليست ديمقراطية حقيقية. وبالتالي إذا كان الحكم الشمولي يستعمل العصا كوسيلة لتركيع الشعوب، فالدول الديمقراطية اليوم تستعمل الدعاية لتركيع شعوبها. تم استعمل سلاح الدعاية حتى بعد الحرب العالمية الأولى فبسبب الدور الذي بدأ الشعب يلعبه في تنظيم نفسه في نقابات عمالية في الثلاثينات، قام أصحاب القرار سنة 1937 بتحريض الناس ضد رؤساء النقابات عبر التشهير بسمعتهم ورفع شعار الروح الوطنية والأهداف المستقبلية المشتركة... الهدف من كل ذلك كان ضرب الإضرابات في العمق. وهذه الخطة تم اعتمادها أيضا أثناء الثورات العربية حيث كان يعمل النظام على تشويه صورة الشباب المعتصم، وكذا اتهام قياداته بإثارة الفتنة وخيانة البلاد، لزعزعة الثقة بهؤلاء الشباب. من مظاهر الدعاية في المجتمع الأمريكي هو إشغال الناس بالأفلام الشيقة والإشهارات الممجدة للحلم الأمريكي عبر الدعوة لمساندة القوات التي تحارب من أجل الوطن لكن يجب أن يظل الشعب مفزوعا ومرعوبا من الأخطار المحتملة داخليا وخارجيا، وذلك لكي لا يملك الوقت للتفكير والتأمل في ما وراء الدعاية. وقد شاهدنا الكثير من الأقلام التي تمجد القوات الأمريكية وتقدمها على أنها تقوم بمهام إنسانية عظيمة وتنشر الحرية والسلام، فيما تصور المقاومة في البلدان التي عرفت الغزو الأمريكي بأنها "إرهاب" ! وهذه مفارقة غريبة. من تقنيات الدعاية أيضا هناك تزوير التاريخ أو إعادة بنائه، هذا ما حدث بالموازاة مع حرب الفيتنام فلقد لجأت إدارة كينيدي إلى تقديم روايات مغلوطة، وأن السبب وراء الهجوم على جنوب الفيتنام كان بحجة حمايتهم من الفيتناميين أنفسهم!... نفس الشيء بالنسبة لعدد الضحايا في حرب الفيتنام، فالأمريكي العادي يضن أن العدد لم يتجاوز 100.000 بينما هو يتجاوز ثلاثة ملايين ضحية. وهذا التزوير من شأنه أن يخدم مصلحة المؤيدين لهذه الحرب لأنهم لا يقدمون الحقائق التامة للجماهير دون مراوغة، بل يعملون على تلفيق الأكاذيب وتزوير الأحداث والوقائع بالشكل الذي يخدم مصالحهم. بخصوص اللجوء إلى ترهيب لشعوب غير المباشر لكي لا يجدوا وقتا للتفكير في التغيير، ليست الولاياتالمتحدة الاستثناء، "فهتلر قام بنفس الشيء عندما كان يحذر الألمان من خطر اليهود والغجر. فحسب أدبيات الدعاية، يجب دائما خلق قطب للشر أو مصدر للخطر من اجل لفت انتباه الشعوب عن التغيير والمطالبة بالديمقراطية الحقيقية. أما الدول العربية فهي تخوف شعوبها من خطر الانقسام وضرورة الالتفاف وراء القائد الرمز هذا ما قام به النظام المصري السابق، عمل على نشر الفتنة بين المسلمين ومعتنقي الديانة المسيحية، حيث جعل هذا الموضوع العنوان الرئيسي للبرامج السياسية، وكذلك في لبنان يلعب على وتر الطائفية وفي ليبيا وصف القذافي الثوار بالإرهابيين وأنهم سيحولون ليبيا إلى إمارة تتبع للقاعدة. كمثال على إخفاء الحقائق لتوجيه الرأي العام، قامت الولاياتالمتحدة بإخفاء الخيارات والعروض الدبلوماسية قبيل حرب الخليج الأولى، وبالتالي فثلثي الشعب الأمريكي أيد الحرب بدون وعي أو تفضيل للدبلوماسية والطرق السلمية. وهكذا يقع المواطن الأمريكي تحت الهيمنة الكاملة للإيديولوجية السائدة في النظام السياسي الحاكم، فهي تؤثر على الجماهير من خلال الدعاية عبر وسائل الإعلام، وتؤثر في المواطنين على نحو تتوخى منه تحقيق أهداف الخط الفكري الذي تتبناه إدارة البيت الأبيض. فكلما استطاعت الدعاية أن تغير مواقف الناس السابقة أو تعديلها، أكدت نجاحها وفاعليتها. فيما يتعلق بالشعارات التي تحملها الإدارة الأمريكية، ف "ساندو قواتنا" في أفغانستان.... تعني ضمنيا "هل أنتم موافقون على سياستنا بشكل عام. فالولاياتالمتحدةالأمريكية شنت حملة دعائية واسعة لكسب الرأي العام المحلي والعالمي بشأن حربها على أفغانستان وهو ما سمته "بالحرب على الإرهاب" . جاء في كتاب "الدعاية والإقناع" للكاتب "جارت جويت" G.Jouuett" أن الدعاية هي محاولة عمدية، منظمة لقولبة الحس الملاحظ والمعارف و لتوجيه السلوك للوصول إلى استجابة يريدها صاحب الدعاية. إذا نستنتج أن الدعاية تهدف إلى خلق أو تغيير الرأي العام من خلال توجيه السلوك. و هناك عدة مجالات تتضمن الدعاية: الصحافة، العلوم السياسية، علم الاجتماع، علم النفس... مؤخرا ظهر تيار يعني بالدعاية ويشمل جميع هذه الميادين، هذا التيار يعتبر الدعاية مصدر للايديولوجيا، بمعنى آخر، فهذا التيار ينظر إلى كيف تتكون المعاني الإيديولوجية في وسائل الإعلام. فيمكن القول أن جميع وسائل الاتصال لم تسلم من ترويج الدعاية، إلى درجة أصبح من الصعب وصف هذه الوسائل بالموضوعية والحيادية. لكن هناك من المفكرين أمثال: إلول G.Ellul من يعتقد على أن الناس يحتاجون إلى وجود الدعاية لأنها حسب نظرية السوسيولوجية، تحفز الناس على المشاركة في الأحداث المهمة كالانتخابات، والاحتفالات... آخرون أمثال أنطوني P.Anthony وأرونسون E.Aronson عبروا في كتبهم عن سلبيات الدعاية باعتبارها تستعمل الخدع وتطمس الحقائق وتقنيات أخرى غير أخلاقية. ونعتقد أن الدعاية يطغى فيها الجانب السلبي لأنها تعمل على لَيْ عنق الحقيقة لأغراض ومصالح ضيقة. لكي تنجح الدعاية، يجب أن تكون مرئية (متاحة أمام الأنظار)، يجب أن تعلق بالذهن ويجب أن تفهم بالنسبة لأهمية استهداف الحس والطريقة التي يفكر بها المتلقي، فالدعاية تلجأ إلى مطابقة التمثلات الذهنية التي تكونت في ذهن الناس منذ الطفولة، وأمثلة على ذلك، طريقة اختيار أسماء للعمليات العسكرية الأمريكية. - حرب الخليج الأولى: عملية "عاصفة الصحراء" بدل عملية "درع الصحراء" فالعاصفة تعني الهجوم والدرع يعني الدفاع، وبالتالي فكلمة عاصفة تفي بالغرض. - الحرب على الإرهاب: اختيرت كلمة "إرهاب" لحشد الرأي العام الأمريكي ولفت الانتباه للمخاطر المحدقة به. إضافة إلى استهداف الحس، فالدعاية تلجا أيضا إلى الرموز المرئية وأمثلة ذلك. - أثناء الحرب على العراق الثانية كانت تعلق قماش صفراء على الأشجار والبنايات... وذلك للتذكير بمساندة الشعب للجيش الأمريكي. - أثناء الحرب الأهلية الأمريكية، النساء يعلقن شارات صفراء كذكرى لذويهم في ساحة الحرب. - في فيلم She wore ayellou pilba لنجون واين G.wayne سنة 1949 يدل عنوانه على أن المرأة كانت ترتدي شارة صفراء كذكرى لحبيب بعيد. في دراسة بجامعة ماسا شوسيش الأمريكية، أثناء حرب الخليج الأولى، وجد أن الناس الذين تفرجوا على التلفاز أكثرهم من كانوا الأكثر تأييدا للحرب. ختاما نقول بأن الدعاية تشكل أداة للحرب النفسية وتعتمد على وسائل الإعلام بهذا الخصوص. وفي زمن ربيع الديمقراطية العربية، نلاحظ لجوء بعض المحطات الإذاعية التي تقوم بهذا الدور الدعائي لتحريض الرأي العام. سواء من خلال تحريف بعض الوقائع أو حذف بعض الحقائق أو الانحياز إلى جانب معين.