يشكل ملف طلبة كليات الطب وطب الأسنان والصيدلة واستمرار مقاطعتهم لامتحانات الدورة الربيعية ملفا حارقا يهدد من جهة مستقبل الآلاف من الطلبة الحاليين، وحظوظ عشرات الآلاف من حملة الباكالوريا الطامحين للالتحاق بكليات الطب، ومن جهة أخرى، يعمق الأزمة البنيوية والخصاص المتفاقم في مجال التكوين الطبي وحاجيات المواطنين المغاربة من الأطر الطبية. إشارات الاستعصاء بدت جلية مع دخول الدولة بقوة لتطويع هذا الملف، وما رافق ذلك من حملات مضادة لإضراب الطلبة استعملت فيها أساليب بائدة كنا نحسبها من الزمن الماضي، قبل أن تتجدد وتطغى على المقاربة المستعملة في حلحلة الأزمة. و إذا كان واجب إدانة هذه الأساليب حاضرا في مقاربتنا، فإن الحصافة تستلزم مراجعة أصل المشكل، بالنظر أننا نعيش استقطابا حادا و سلبيا يذكي التفرقة بين مواطنين مغاربة وفق الانتماء الطبقي و مقابلة مسلكين تكوينيين يفترض فيهما التكامل، مما يؤدي إلى نتيجة حتمية تعمق الآثار السلبية على صحة المواطن المغربي.
وإذا كان رصدنا هو تضارب رؤى الفاعلين في هذا الملف، فإن ذلك لا يلغي أن المنطق السليم لإصلاح قطاع التكوين الطبي في المغرب خيار استراتيجي، يفترض أن يرتكز على مبادئ علمية و مقاربة تشاركية واسعة كفيلة بخلق رؤية جديدة واضحة و إيجابية تكفل تكافؤ الفرص بين طلبة القطاع الخاص و العام، و تضع لبنات عصرية للتكوين الطبي، في أفق تشجيع الطلبة على ممارسة الطب في بلادهم مع ضمان انسجام تطلعاتهم المهنية و رهانات تحسين الوضع الصحي في المغرب. ومن هنا نستخلص أن أصل المشكل هو ضعف وإخفاق المسؤولين المباشرين على منظومة التكوين الطبي في المغرب في تحقيق تكامل أهداف كل الفاعلين في العملية التكوينية. فقد شكلت عملية إخراج دفاتر التحملات البيداغوجية للتكوين الطبي مظهرا جليا على هذا الضعف والتخبط، واتسمت بسطحيتها وابتعادها عن مكامن الخلل في التكوين الطبي جوهرا والبعد التشاركي مقاربة. لقد ربطت العديد من الدراسات تحسن الوضع الصحي على مستوى الدول بسياسة العلاجات الأولية المتبعة فيها وقدرتها على المعالجة الفعالة لأكبر نسبة من المشاكل الصحية على مستوى العلاجات الصحية الأولية. وعلى مر سنين طويلة، ظل الطب العام حجر الزاوية للعلاجات الأولية. لكن مع التطور العلمي والتناسل المتسارع للاختصاصات الطبية المدرة لمداخيل مادية هامة وما يتبع ذلك من تقدير معنوي واجتماعي أكبر، بمقابل تنامي النظرة الدونية للطب العام، نفر أغلبية الطلبة من الممارسة بهذه الصفة مفضلين التوجه نحو طب الاختصاص. أما في حالة استمرارهم كأطباء عامين، فيرتبط الأمر في غالب الحالات بالفشل في امتحانات الاختصاص أو لإكراهات اجتماعية. لا يقتصر هذا الوضع على منظومتنا الصحية، بل عانت الكثير من الدول من هذا الإشكال مما خلف اختلالا في استمرارية الرعاية الصحية للفرد والأسرة، وارتفاعا مهولا لفاتورة العلاج وضياعا للمريض ما بين أطباء أخصائيين يركزون عملهم في أغلب الأحيان على اختصاصهم دونما نظرة شمولية ومندمجة لمشاكله. ولمجابهة هذه المعضلات انخرطت العديد من الدول في إصلاح نظامها الصحي بتقوية العلاجات الأولية من خلال اعتماد تخصص طب الأسرة كاختصاص طبي مبني على كفاءات ومهارات محددة، تحددها مقاربة شاملة لحاجيات الشخص الصحية على المستوى العضوي والنفسي والاجتماعي، مع استمرارية وتكامل الرعاية الصحية المستندة أساسا على الوقاية وتعزيز الصحة العامة. وبهذا تتحول علاقة طبيب الأسرة بالشخص من الاستشارة الطبية الواحدة إلى تتبع ومواكبة للمريض طيلة حياته. وفي الكثير من البلدان، اختيار طبيب الأسرة إجباري، وعبره فقط يمكن الاستفادة من استشارة الأطباء الأخصائيين. ولا شك أن سياسة صحية كهذه تحتاج إلى إصلاح نظام التكوين الطبي لمواكبة هذه المتغيرات. إن النماذج الدولية ذات الأنظمة الصحية المتقدمة مقارنة بوضعنا الراهن تتيح لنا مجالا للمقارنة والاستلهام. قامت هذه التجارب بإلغاء الطب العام، الذي أصبح اختصاصا طبيا ممثلا في طب الأسرة الذي يلعب دورا محوريا في المنظومة الصحية. كما جعلت ولوج الاختصاص مقترنا بالنجاح في الامتحان العام الوطني في السنة السادسة، فيختار الطالب بناء على ترتيبه اختصاصه ومركز التكوين الذي يرغب في متابعة تكوينه فيه. و في جانب البنية التحتية، فتحت فضاءات تكوين الاختصاص في عدد كبير من المستشفيات و ألغت تركيز كل فترات التكوين في المستشفيات الجامعية، و منحت صفة طبيب مكون لأي طبيب يستجيب لمعايير تم تحديدها، مما ضاعف فرص التكوين في كل المستشفيات و المراكز الصحية، و رفع من جودة التطبيب فيها. و لا بد من الإشارة إلى الجانب المادي الذي يشكل أحد المحفزات الأساسية في تحديد اختصاص الطلبة، حيث يجب مواكبة الدور المحوري الذي يلعبه طبيب الأسرة في تنزيل السياسة الصحية. ففي دول كإنجلترا، يعد طبيب الأسرة من أكثر الأطباء دخلا التي بالنظر لدوره في تحسين صحة الأفراد و الجماعات و في ترشيد النفقات الصحية. و بالتالي، فتقييم مضامين الإصلاح الذي تريد السلطة المسؤولة عن القطاع تنزيله، يظهر جليا البون الشاسع بينه و بين ما تم تنزيله من إصلاحات شاملة للمنظومة الصحية لبلدان كتركيا و اسبانيا. فمع تنزيل الجيل الرابع على الأقل من مشاريع إصلاح منظومة التكوين الطبي في المغرب، مازلنا نراوح مكاننا في ما يخص مضامين الإصلاح. فإن تم الاعتراف مبدئيا بطب الأسرة كاختصاص طبي، فإن الإبقاء العبثي على تخرج الطلبة كأطباء عامين، واستمرار الاعتماد على مباراة الداخلية(internat) التي ألغتها أغلب الدول لأنها مباراة نخبوية لا يستفيد منها إلا أقل من 10% من الطلبة يفرغان هذه الخطوة الإصلاحية من عمقها البنيوي، ويكرس استمرار الخلل المرصود. ورغم أن المناظرة الوطنية للصحة أوصت باعتماد طب الأسرة وتأهيل العلاجات الأولية في هذا الاتجاه، فإن واقع السياسة المعتمدة من طرف وزارة الصحة يلغي كل التزام بهذا الخيار المبدئي. لعل التشخيص الذي قدمناه يتقاطع مع السياق الذي أجج غضب الطلبة الذين يتم تكوينهم في إطار نظام متهالك، ويرهن مستقبلهم المهني والأكاديمي باجتياز مباريات التخصص. ومع دخول طلبة القطاع الخاص على خط هذه المباريات، أضحت هذه الأخيرة قضية حياة أو موت لطلبة القطاعين باعتبارها طوق نجاة لطلبة القطاع العمومي وحقا دستوريا بالنسبة لطلبة القطاع الخاص، بينما هم في واقع الحال ضحايا نظام تكويني عجز عن تجديد نفسه، وسياسة صحية مبهمة في أولوياتها خصوصا فيما يخص العلاجات الأولية. ما الحل إذا لهاته المعضلة؟ المدخل الأول المستعجل للحل هو تحمل الحكومة مسؤوليتها، وتراجع المسؤولين عن قراراتهم العبثية التي طالت الأساتذة الموقوفين والطلبة وأسرهم، وسحب دفاتر التحملات البيداغوجية مع إعادة تدارسها بشكل كلي مع جميع الفاعلين وبالخصوص الأساتذة والطلبة مع الاعتماد على منهج علمي لتقرير سبل الإصلاح وتحليل التجارب الناجحة للدول الأخرى. المدخل الثاني متعلق بمضمون الإصلاح باعتماد نظام للتكوين في السلكين الأول والثاني في الطب، ينتهي في السنة السادسة مع إلغاء السنة السابعة، واستبدال الطب العام بطب الأسرة كاختصاص وتنظيم امتحان سنوي يتيح للناجحين اختيار تخصصهم بناء على ترتيبهم وفق مقاربة استحقاقية وموضوعية. فرض مساهمة كليات القطاع الخاص في خلق مناصب سنوية للتخصص تدرج في امتحان التخصص الوطني، مماثلة في شروط الولوج والممارسة لنظيرتها المعلن عنها في القطاع العام تمكن من تحديد العدد الإجمالي السنوي لمناصب التكوين في كل تخصص على المستوى الوطني. إنهاء الأوراش المفتوحة المتعلقة بالمستشفيات الجامعية بأكادير وطنجة، وتحسين البنية التحتية للمراكز الاستشفائية الجامعية المتواجدة في باقي المدن. خلق أجرة موحدة لكل الأطباء الدين يجتازون امتحان التخصص سواء كانوا طلبة للقطاع الخاص أو العام، وإلغاء الرسوم التي يدفعها الأطباء لولوج الاختصاص في القطاع الخاص بالنظر إلى مساهمتهم في العلاجات. فتح فضاءات جديدة للتخصص مع توسيع قاعدة المكونين تحت إشراف أساتذة الطب. فالعديد من الأطباء الذين يمارسون في القطاعين العام والخاص يستطيعون المساهمة في التكوين. تقود مسارات التكوين الطبيب في طور التكون كاختصاصي إلى العمل في مجموع شبكة العلاجات، وليس فقط في المستشفيات الجامعية مع ضرورة العمل خلال فترات محددة في المسار التكويني في المناطق التي تعرف خصاصا طبيا. هذه فقط مجموعة من النقط التي يمكن أن تشكل لبنة إصلاح التكوين في مجال الطب في المغرب، والتي يجب مواكبتها باعتماد سياسة صحية مبنية أساسا على العلاجات الأولية. وباقتراحاتنا المبدئية المذكورة أعلاه، نفتح قوسا في سبيل تقويتها، وإطلاق نقاش معمق حول آليات تنزيلها من الناحيتين النظرية والتطبيقية، وذلك وفق منهجنا في حركة معا المبني على التشاور والنقاش والتوافق على أفضل الحلول بعيدا عن التعصب لرأي أو فكرة مسبقة. ويبقى الرهان الحالي كما أكدنا من قبل، هو تشجيع هذا الجيل الشجاع والواعي من الطلبة على ممارسة الطب في بلادهم ومطابقة تطلعاتهم المهنية مع رهانات وتحديات الوضع الصحي في المغرب، بعيدا عن شوفينية الدولة أمام موقفهم الحالي، في مقابل استحكام القطاع الخاص في توجيه السياسة التكوينية التي ستؤدي بالضرورة إلى تعميق حالة الاستقطاب وفتح مستقبل القطاع الصحي على أبواب المجهول. “لجنة متابعة ملف كليات الطب والصيدلة”-حركة معا-