لم نفاجأ بإعلان جماعة العدل والإحسان انسحابها من حركة عشرين فبراير، بقدر ما نتأسف لما وصل إليه الجدل الذي أعقبه بسبب تضارب التأويلات بين الموالين للجماعة من جهة، والذين رأوا في انسحابها تراجعا وخذلانا من جهة أخرى، فعادت الخلافات الإديولوجية والحسابات السياسية الضيقة لتفرض نفسها بين الحلفاء السابقين، بعد مدة غير يسيرة من التعايش في ظل حركة، حتى وإن أريد لها ألا تفرض نفسها كقوة تغيير حقيقية، فقد استطاعت أن تفرض نفسها كفاعل قوي في الحياة السياسية.. لم يكن في الحسبان أن يذهب بعض المتعاطفين مع الجماعة إلى حد التشفي في الحركة وهم الذين كانوا حتى قبل أيام يمجدونها ويحصون إنجازاتها، وهذا ما ردت عليه من خلال المسيرات التي شهدتها المدن الكبرى والتي استأثرت باهتمام كبرى وسائل الإعلام الدولية والوطنية.. لم يخطر ببالنا أن يطلع علينا من يصفق للجماعة على نصر زعموا أنها حققته على تيارات أخرى، كما لو أن الحراك الذي شهده الشارع المغربي طيلة الأشهر العشرة الماضية لم يكن صراعا مريرا ضد الاستبداد وأذنابه بقدر ما هو استعراض قوة أو صراع بين الجماعة والهيئات السياسية والإيديولوجية والحقوقية والنقابية الأخرى.. في الضفة الأخرى وجد البعض في انسحاب الجماعة فرصة لتصفية حسابات تقليدية تذكرنا بالروايات التي تحفظها الأجيال في الحركة الطلابية عن سنوات بعيدة من القرن الماضي، والمفارقة أنه بات من المؤكد، بالنسبة للجميع، أنها صراعات إنما افتعلت في ذلك الزمن الغابر، لخدمة طرف واحد ووحيد ألا وهو الأخطبوط المخزني الذي خرجت الحشود من عموم الشعب لإسقاطه يوم العشرين من فبراير، بل وقدمت من أجل ذلك شهداء ومعتقلين ومعطوبين.. ولا تزال عازمة على الإستمرار في التظاهر السلمي الحضاري إلى أن يتحقق ما تصبو إليه.. وبين الفينة والأخرى تطل علينا قيادات الجماعة عبر منابر إعلامية للمزيد من التوضيح، دون وضوح، واتسم خطابها في معظمه بغير قليل من الإطمئنان الذاتي بل و شيء من التعالي إلى درجة تجهيل الآخر.. من الطبيعي أن تنال الجماعة هذا القدر من الإهتمام، وتستحق أكثر قياسا بحجمها وحجم مشاركتها وإن أقرت أنها لم تنزل إلى الشارع إلا ب 20 % من مناضليها، لكن ما نختلف فيه هو أن تجعل جنرالات الجماعة من هذا الإهتمام مصدر تباهي بمعزل عن السياق الذي اختارت أن تخاطب فيه شعبها بالكثير من الغموض. ثم ما معنى أن تنزل ب 20 في المئة فقط وفي نفس الوقت تدعي أن حلفاءها حالوا دون التحاق شرائح من نفس الشعب بالحركة بسبب خطابهم الذي لا ينبثق من هوية الشعب المغربي ؟ ويكفي أن نشير إلى أن من التيارات التي بقيت في الحركة، هيئات أقل حجما من الجماعة، ولو لا قدر الله انسحبت إحداها وتركت خلفها بيانا بنبرة إيديولوجية أو عرقية لفجرت شرخا كبيرا يصعب تدبيره إلى درجة المستحيل. وهنا لا بد أن ننوه بالحركة من أجل الأمة والبديل الحضاري اللذين قررا البقاء، ولولاهما لقيل في التيار الإسلامي ما لم يقله مالك في الخمر. خصوصا أن جهات دخلت على الخط، فظهرت فجأة على المواقع الإجتماعية، معقل الثورات، جيوش من الفبرايريين الإفتراضيين والعدليين الإفتراضيين يسعون بشتى الوسائل الأخلاقية وغير الأخلاقية إلى إذكاء نار الفتنة.. ومن أبرز مظاهر الغموض المشار إليه، ما ورد على لسان آخر حوار للأستاذ فتح الله أرسلان، المتحدث الرسمي باسم الجماعة، في حوار خص به صحيفة "أخبار اليوم المغربية" ردا على سؤال "ما هي الفضاء ات الأخرى التي ستلجأ إليها الجماعة بعد هذا القرار؟" أجاب مسؤول الجماعة: "الذي سنفعله سنحتفظ به لأنفسنا...". لا نجادل في كون الجماعة غير ملزمة بإبلاغ الرأي العام بكل ما تقرره. إلا أننا في السياق الذي نعيشه اليوم، الربيع العربي، من حقنا أن نسأل الجماعة: اليس من مسؤولياتكم اتجاه شعبكم ان تكونوا اكثر وضوحا في الاجابة على هذا السؤال؟ ربما لم تلتفت الجماعة إلى أنها لم تعد مِلك نفسها، بل مِلكا للوطن كله، و بما أنها أكبر تنظيم معارض، فحيثما طال انسحابها من الحراك ، فإنها ترفع من معنويات السلطة و تجعل هذه الأخيرة مطمئنة لكي تفترس بسهولة التنظيمات الأخرى. إن القاسم المشترك بين المبررات التي استند إليها الذين تعاطوا بموضوعية مع انسحاب الجماعة رغم اختلافهم في ما خلصوا إليه، هو أن الظرفية حساسة.. حساسة جدا بالنسبة للنظام. فمنهم من رأى أن هذا الأخير استطاع أن يشتري صمت الجماعة باعتبارها رقما صعبا في معادلة الحراك، ومنهم من ذهب إلى أن الخطوة عكس ذلك، تصعيدية، تهدف إعادة ترتيب الصفوف وخلق جبهات أخرى أكثر فعالية ... إننا أمام فرصة تاريخية للتخلص من الإستبداد، ذلك أن النظام المخزني استنفد أوراقه على جميع الأصعدة: فعلى المستوى السياسي، بتعيين الحكومة الجديدة، بوجوه قديمة، تكون قد انتهت مرحلة الإلتفاف على مطالب الشعب، تلك المرحلة التي انطلقت يوم التاسع من مارس مرورا عبر الإستفتاء على الدستور، وصولا إلى الإنتخابات التشريعية، وما صاحبها من ممارسات تقليدية مخزية لا ديمقراطية، وقمع واغتيال للمتظاهرين، وخرق للدستور، وصولا إلى تعيين فؤاد عالي الهمة المنبوذ من قبل الشعب مستشارا للملك وغيرها من الإستفزازات التي جعلت الحركة في الآونة الأخيرة تكسب تعاطف جزء من الأغلبية الصامتة التي من المرتقب أن تحسم موازين القوى بين الحركة والنظام. على المستوى الإقتصادي: تفاقمت الأزمة بسبب التحولات العالمية، في أروبا، أول شريك تجاري للمغرب، على وجه التحديد (خطاب الرئيس الفرنسي بمناسبة رأس السنة الميلادية)، واثرت أكثر على الوضع الإقتصادي الوطني. ذلك أن التوازنات المكروقتصادية باتت خارج السيطرة، وتردت الأوضاع المالية للدولة بعد أن فشل النظام في شراء السلم الإجتماعي طيلة الأشهر الأخيرة من خلال حلول ترقيعية على غرار الزيادة في الأجور، ومحاولة اخماد الإحتجاجات الفئوية كتوظيف المعطلين.. إن ما جعلنا لا نفاجأ بانسحاب الجماعة أننا نآخذ على حركة عشرين فبراير أنها في شكلها الحالي والسابق لم تفرض نفسها كقوة تغيير حقيقية وهذا ما تتحمل فيه كل الأطراف نصيبها من المسؤولية .وحتى قبل انسحاب الجماعة، فقد كانت أصوات تطالب بفتح حوار داخل الحركة، ومنها صحيفة "دومان أون لاين"، التي يديرها الزميل علي لمرابط، تعليقا على خبر كانت نشرته، مفاده أن أحد "مؤسسي" حركة عشرين فبراير يقر أنه التقى سرا مستشاري الملك، أندري ازولاي ومحمد معتصم. ناهيك عن أصوات أخرى لم تجد طريقها إلى وسائل الإعلام.. إن الحركة تحولت من حركة شعبية تطالب بالإصلاح الجذري إلى كيان غريب، فتارة تراها حركة ثورية، وتارة تراها هيئة مدنية(*) تمتص غضب الشارع، وتزعج النظام دون أن تمس بجوهره في عز الربيع العربي. وتارة تراها كيانا سياسيا يشكل تحالف تيارات سياسية وإديولوجية غير متجانسة، كان من الطبيعي أن تتداخل وتتدافع مع بعضها البعض، ومهما طال التعايش فإن الزمن لا يرحم، وقد رأينا جميعا أن كيف وصل التطاحن إلى أوجه في بعض المحطات.. رغم النضج السياسي الذي عبرت عنه كل المكونات ثم إن إكراهات الواقعية السياسية فرضت نفسها على مكونات الحركة التي لم تتوقف عند حدود الداعم، وهذا ما تفادته حركة الإخوان المسلمين في مصر أيام الثورة، وكان قرارا حكيما، فقد رأينا كيف أن نظام حس مبارك أجبرها على الجلوس إلى طاولة الحوار، دون أن يستطيع الحد من النهوض العفوي الثوري للجماهير المعتصمة في ميادين التحرير. وهو نفس السيناريو الذي حدث ويحدث الآن مع أحزاب اللقاء المشترك في اليمن.. بعبارة أدق، إن حركة 20 فبراير بدأت شعبية وكان الأحرى أن تبقى كذلك، بعيدا عما يصفه البعض بمحاولات الإلتفاف، من قبل كل التيارات.. لقد أثبتنا للعالم خلال العشرة الماضية ان الاستثناء المغربي يتجلى في قدرة الشعب على هدم جدار الخوف الذي تجذر في عروقنا على مر العقود، والتظاهر بمئات الآلاف في شوارع المدن الكبرى، بطريقة حضارية فشلت محاولات النظام البوليسي القمعي في تحويرها عن مسارها السلمي، وجر البلاد الى الدموية والعنف. واه من يعتقد ان هذه الاصوات التي تذوقت طعم الحرية طيلة الاشهر الماضية ستعود الى بيوتها دون ان تحقق ما هي تواقة اليه. نذكر جميعا تلك الأيام التي تلت فرار زين العابدين بن علي، عندما اشتد الجدال حول ما اذا كان ربيع الثورات سيصل الى الدول الاخرى، كنا من الذين ذهبوا إلى أن ما نشهده اليوم إنما مرده إلى تطور الوعي السياسي الذي احدث ثورة في الطبيعة الانسانية لدى شعوبنا، لقد كانت طبيعتنا الإنسانية في الماضي تثير استغراب مدارس التحليل السياسي حول العالم، ذلك لأننا كنا نقاتل المحتلين الاجانب حتى الموت، وقبلنا بعدهم بنفس الدرجة من القهر والظلم من قبل حكامنا. إننا اليوم بعد أن هزمنا جدار الخوف، لن نقبل بالدكتاتوريات المحلية مهما كلفنا الثمن، ولها في التاريخ عبر.. إن ما يجب ان نفكر فيه اليوم، وهذا نداء الى كل الشرفاء في ذلك البلد الحبيب، ان نفتح حوارا وطنيا لصياغة ميثاق جديد، في اقرب الآجال، لتطوير الحراك من الناحية النوعية حتي نستطيع ان نشكل قوة تغيير حقيقية تهزم الاستبداد وتصل بنا الى بر الديمقراطية والكرامة والعدالة الاجتماعية. . Structure d'intermédiation (*)