سأتوقف في هذا المقال عند بيانين منفصلين صدرا عن هيئتين إسلاميتين عالميتين بعد الحفل الديني الذي احتضنته قاعة معهد تكوين الأئمة بالرباط بحضور الملك محمد السادس وبابا الفاتيكان، وذلك في إطار فعاليات الزيارة التي قام بها البابا إلى المغرب. في البيان الأول الذي صدر بتاريخ 31 مارس 2019 عن " رابطة علماء المسلمين " نقرأ الفقرتين التاليتين: " إن ما جرى في حفل استقبال بابا الفاتيكان بمعهد الأئمة بالمغرب من التلفيق بين الأذان الذي هو شعار الإسلام ودثاره، وعنوان التوحيد وبيانه؛ مع قُدَّاسِ النصارى وترانيم اليهود القائمة على معاني الشرك والوثنية؛ لمنكر من القول وزور؛ لا يجوز السكوت عليه من قبل أهل العلم أو إقراره ."… " إن ذلكم الذي وقع من التلفيق بين الأذان وشعائر الكفر، ومثله الدعوة الى إقامة الصلوات المشتركة في أماكن العبادة لمختلف الأديان؛ سواءً بابتداع صلاة يشترك فيها الجميع، أو بأن يصلي كل واحد صلاة الآخر وغيرها من الشعائر التعبديّة؛ لأمر محرمٌ شرعاً، بجميع أدلة التشريع في الإسلام من قرآن وسنة وإجماع؛ بل هو تكذيب للقرآن والسنة في بطلان تلك الأديان، وحصرِ الحق والنجاة في الآخرة في (الإسلام)."… وفي بيان " الإتحاد العالمي لعلماء المسلمين" الذي صدر بتاريخ فاتح أبريل 2019 نقرأ ما يلي: " … فوجئنا وصدمنا لما وقع في معهد تكوين الأئمة بالمملكة المغربية، من التلفيق بين الأذان الذي يعد من أعظم شعائر الإسلام، وبين الترانيم والأناشيد الكنسية. وأمام هذه الأحوال المؤلمة والتصرفات المؤسفة يوجه الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين رسالة نصح وتحذير إلى أمته ومسؤوليها، ويؤكد : … أن مبدأ التسامح والتعايش والحوار، مبدأ ثابت وواسع في الإسلام، ولكنه لا يعني التنازل عن الثوابت، والتلفيق بين الشعائر الإسلامية العظيمة والترانيم الكنسية، التي تتناقض مع عقيدتنا وشعائرنا، لذلك فهذا التلفيق أمر مرفوض لا يليق بعقيدة التوحيد. … أن القرآن الكريم قد حذر أشد التحذير المخالفين لثوابت هذا الدين فقال تعالى { فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ.} سورة النور،( الآية: 63)…" إذا تمعنا في مضامين البيانين المذكورين تستوقفنا مجموعة من الملاحظات، نبدأها أولا بالعبارات المتكررة هنا وهناك، حيث يستخدم البيانان معا مصطلح " التلفيق"، وهو مفهوم فقهي يفيد (الجمع بين أكثر من قول في قضية فقهية واحدة ذات جزئيات)، لكن حضوره في البيانين ينتهي إلى اعتبار هذا الجمع بين الأذان وبين الترانيم والأناشيد الكنسية هو من قبيل التلفيق المرفوض الذي يسمى " بدعة ". وهذا يعني أن استخدام لفظ " التلفيق" له دلالته في هذا السياق، لأنه ينتهي إلى تكفير "المخالفين". وواضح أن النفس التكفيري حاضر في مضامين البيانين معا، لكنه ورد بلغة واضحة ومباشرة في بيان الرابطة، بينما جاء بشكل ضمني وبلغة أقل حدة في بيان الإتحاد. الملاحظة الثانية هي حديث البيانين عن "شعائر دينية"، وتأكيدهما على أن الحفل عرف تلفيقا بين الأذان وبين الترانيم والأناشيد الكنسية، والحال أن ما شاهدناه في الحفل المذكور لا يندرج ضمن الشرائع الدينية التي تعد من الثوابت سواء عند المسلمين أو المسيحيين أو اليهود. وهكذا فالحديث عن الأذان ينطوي على خطاب مغالط، لأن ترديد اسم الله ورسوله في الحفل الديني لا علاقة له بالأذان، بل هو مجرد تهليل وإنشاد للشهادتين، وهو أمر معروف عند المسلمين في المناسبات والولائم التي تتضمن وصلات من الأناشيد والتهليلات الدينية التي تتغنى بحب الله ورسوله سواء بخلفية موسيقية أو بدونها، أما الأذان فهو بمثابة إعلان عن وقت الصلاة، وهذا مقام آخر لا يمت بصلة لمضمون الحفل ولا لتوقيته ولا لمناسبة إقامته. وكان حريا بالجهات التي تعتبر نفسها مدافعة عن قيم السلام والإعتدال والتسامح أن تصفق لمثل هذه المبادرة التي تجاوزت حدود التدين الضيق لتنفتح على ماهو إنساني وكوني، لأن الرسالة التي تضمنها الحفل تفيد بإمكانية تجاوز الخصوصيات العقائدية إلى الإحتفال بالمشترك الإنساني، والإنتصار لقيم الأخوة والتضامن والمحبة، وأن الله ليس حكرا على لغة دون أخرى ولا على عقيدة دون غيرها… وما أحوجنا لمثل هذه القيم إذا كنا نؤمن حقيقة بالتثاقف والتعايش والحوار بين الأديان. الملاحظة الثالثة التي نسجلها في بياني كل من "رابطة علماء المسلمين" و "الإتحاد العالمي لعلماء المسلمين" ترتبط بالموقف من الديانتين التوحيديتين: المسيحية واليهودية، فقد اعتبر البيان الأول "قداس النصارى وترانيم اليهود قائمة على معاني الشرك والوثنية"، بينما أشار البيان الثاني إلى "الترانيم الكنسية التي تتناقض مع عقيدتنا وشعائرنا ". وهو ما ينم عن قناعة راسخة تضع الآخر المختلف عقائديا في موقف الكافر والمشرك، وتحول دون بناء جسور التواصل والحوار معه، وتفسح المجال واسعا أمام خطاب الحقد والكراهية الذي لا ينتج إلا العنف والإرهاب. والمفارقة هنا تتجلى في كون أدبيات الهيئتين الإسلاميتين المذكورتين ترفض الإرهاب وتدينه، لكنها في الوقت ذاته تستخدم خطاب المظلومية الذي يظهر المسلمين كضحايا ومستهدفين، ولا تلتفت إلى خطابات التكفير التي تنتج العنف والعنف المضاد، وهو ما بدا واضحا في المواقف المرتبطة بالعمل الإرهابي المروع الذي شهدته مدينة " كرايست تشيرتش" النيوزلندية في 15 مارس الماضي، حيث ركزت بيانات التنديد التي صدرت عن مختلف الهيئات الفقهية الإسلامية على التنديد بخطاب الكراهية الذي يندرج ضمن " الإسلاموفوبيا"، بينما لم نقرأ بيانات ولا بلاغات للثناء على المواقف الإنسانية المتميزة الحاملة لكل قيم التسامح والمحبة والتضامن التي أظهرها النيوزلنديون حكومة وشعبا في أجمل صورها طيلة الأيام التي تلت ذلك الحادث المأساوي. واضح إذن أن اللغة التي صيغ بها البيانان ( وخصوصا بيان الرابطة) بخصوص الحفل الذي شهده مقر تكوين الأئمة بالرباط؛ تحمل نفسا تكفيريا صريحا حينا ومضمرا حينا آخر، وتنطلق من نزعة متعالية تحتكر الطهرانية وتدعي التفوق والأفضلية. وهي نزعة تعتبر أن الدين الوحيد الذي يكتسي المشروعية هو الإسلام، وأن الجنة حكر على من يدينون بدين الإسلام وحدهم، أما ما دون ذلك من الشعائر والطقوس والمعتقدات الأخرى التي تنسب للمسيحية أو اليهودية فهي مجرد ضلال وكفر. ولعل خطورة مضامين هذين البيانين تتجلى تحديدا في الجهتين اللتين صدرا عنهما، لأن الأمر يتعلق بمؤسستين فقهيتين تدعيان الإعتدال والوسطية وترفعان شعار التسامح والتعايش… فأي تسامح هذا؟ وما الذي سننتظره من المتطرفين والمتشددين؛ إذا كان من نسميهم معتدلين يروجون لهذا الخطاب التحريضي؟.