لا يختلفُ اثنانِ أن العلاقة التي تربط بين المملكتين المغربية والعربية السعودية استراتيجية و تاريخية و مبنيةٌ على عدة روابط و أسس مشتركة بين البلدين، فقد قامت العلاقات بين المملكتين منذ سنة 1957 م أي بعد استقلال المغرب بأقل من عام ، هذه العلاقات تطورت و تشعبتْ مع توالي السنين و العقود، لتشمل عدة ميادين و مجالات، لعل أبرزها الحقل الديني المبني على الفهم المشترك للعديد من جوانبه، و القاسم المشترك المتمثل في الملكية، إذْ سعت المَلَكِيتين إلى توطيد نفوذهما داخل بلديهما من خلال إضعاف أصوات المعارضة و تشجيع كل من يسبح في نفس الفلك ( تقوية نفوذ الملكية)… بعد الثورة البترولية التي عرفتها السعودية بدأت الروابط الإقتصادية و التجارية تعرف نموا مضطردا إلى أن بلغت أرقاما محترمة تليق بالعلاقة الإستراتيجية التي تجمع بين البلدين. لكن كما يقال لا شيء يبقى ثابنا و مثاليا في العلاقات الدولية المبنية على المصالح المشتركة، و على هذا الأساس فإنه بمجرد ما وقع هناك تضارب و تصادم في مصالح البلدين تهاوت جدران الثقة لتحل محلها تساؤلات الريبة و الشك ، و تحولت الصداقة المتينة و الإستراتيجية إلى الخصومة التي من شأنها زعزعة الكثير من الأعمدة التي تم تشييدها منذ سنوات. – جذور الأزمة : كل شيء كان مثاليا و يسير بشكل عادي إلى غاية انفجار الأزمة الخليجية التي أدت إلى فرض حصار خانق على قطر من قبل السعودية و الإمارات و البحرين إضافة إلى مصر التي سعت لتصفية حسابات سياسية بانخراطها الدبلوماسي و الإعلامي في هذه الأزمة المفتعلة ، حينئذ الكثير من الدول الخاضعة للوصايا السعودية " إن صح التعبير "، أعلنت عن دعمها للخطوة التي أقدمت عليها السعودية و الإمارات، فالأردن أقدمت على تخفيض التمثيل الدبلوماسي مع قطر، وإلغاء تصريح مكتب قناة الجزيرة في الأردن، كما أعلنت سلطات موريتانيا عن قطع علاقاتها الدبلوماسية رسميا مع دولة قطر، وفي 7 يونيو أعلنت جيبوتي عن تخفيض مستوى التمثيل الدبلوماسي مع قطر. الأنظار كانت متجهة صوب المغرب الذي تربطه علاقة قوية مع كل من العربية السعوية و الإمارات العربية المتحدة، إضافة إلى العلاقة الجيدة التي تجمعه بدولة قطر التي تتوفر على استثمارات مهمة بالمغرب، و في غمرة من التكهنات و الفرضيات خرجت الدبلوماسية المغربية عبر وزارة الشؤون الخارجية والتعاون الدولي و بإيعاز من أعلى سلطة في البلاد لتعلن "الحياد الإيجابي" من الأزمة المندلعة في الخليج العربي ، و الأكثر من ذلك أعلنت عن إرسال شحنات من المواد الغذائية لقطر لفك الحصار المطبق عنها من قبل الدول الأربعة و ذلك انتصارا للعلاقات الأخوية التي تجمع المغرب بقطر حسب بلاغ وزارة الخارجية. الموقف المغربي من الأزمة الخليجية و التزام الصمت في قضية جريمة قتل الصحفي " جمال خاشقجي "، اعتُبِر من قبل دوائر القرار في السعودية بأنه بمثابة طعنة من الخلف ، و أنه لا يرقى إلى مستوى العلاقات التاريخية التي تجمع بين البلدين… هذه المواقف و غيرها أدت إلى اندلاع ما سمي "بالأزمة الصامتة" بين الدولتين. – تمظهرات الأزمة الصامتة : التمظهرات المعبر عنها من خلال هذه الأزمة كانت كثيرة، لكن أهم تعبير قوي عبر عنه العاهل السعودي "سلمان بن عبد العزيز" من خلال إلغاء العطلة الصيفية التي كانت يقضيها بشكل دوري بمدينة طنجة " شمال المغرب " دون تقديم أي توضيحات بهذا الجانب ، و هو ما فُهم بأنه إيذانا بتصدع حقيقي في العلاقات المغربية السعودية. ما غذى هذه الأزمة أكثر هو اصطفاف السعودية إلى جانب الملف الأمركي المشترك الذي كان في منافسة مع الملف المغربي لاحتضان بطولة كأس العالم عام 2026 ، و ما أزعج الجانب المغربي أكثر هو وقوف مسؤلين نافذين في السعودية وراء حملة في الكواليس لحشد الدعم للملف الأمريكي الشمالي لاحتضان أعرق البطولات الرياضية ، الموقف السعودي فُسر في المغرب على أنه رد سعودي على الإصطفافات التي اختارها الجانب المغربي من الأزمة الخليجية. بعد الجريمة الشنعاء التي راح ضحيتها الصحفي السعودي " جمال خاشقجي " في القنصلية التركية باسطنبول و التي اتهم فيها ولي العهد محمد بن سلمان بالوقوف وراءها، هذا الأخير وجد نفسه في موقف لا يحسد عليه بعدما تعالت الأصوات المنادية بضرورة محاسبته باعتباره المسؤول الأول الذي صدرت عنه الأوامر لارتكاب هذا الفعل الجرمي الذي أودى بحياة الصحفي السعودي المناوئ للسياسات التي جاء بها محمد بن سلمان منذ توليه منصب ولي العهد…، و من أجل فك العزلة التي باتت تلاحقه و تلميع صورته التي تهاوت بعد هذا الحادث. خاض بن سلمان جولة مغاربية قادته لكل من تونس و الجزائر إضافة إلى موريطانيا، هذه الجولة التي لم تشمل المغرب فتحت الباب لمزيد من التشنجات و التصدعات في العلاقات بين البلدين خاصة بعد أن بررت الرباط رفض استقباله "بقولها" أنها لا تتماشى مع التقارب الوثيق بين المملكتين و بغياب الأجندة الواضحة لهذه الزيارة، موقف الرباط شكل صدمة لدى صناع القرار في الرياض و هو ما ساهم في إخراج الأزمة من طابعها الصامت. – روسيا الملاذ المثالي لتصريف الأزمة قمة العشرين التي انعقدت بالأرجنتين يوم 20 نوفمبر من العام الماضي، كانت بمثابة أول امتحان لمحمد بن سلمان لقياس صورته لدى زعماء بعض القوى التي عبرت في العديد من المناسبات عن قلقها من تورط " بن سلمان " في هذه الجريمة التي أسقطت عنه عباءة الرجل الإصلاحي الذي جاء لإخراج بلاده من التقليدانية إلى الحداثة التي لطالما أرادها الغرب أن تعم بلاد الحجاز. و بما أن الأنظار كانت موجهة نحو تحركات ولي العهد السعودي أكثر من جدول الأعمال الذي سيُناقشُ في القمة، فإن الرياح التي هبت هناك كانت عكس ما تشتهيها سفن الحاكم المستقبلي للسعودية. القمة كرست العزلة الخانقة لابن سلمان فجل القادة المشاركين في هذا التجمع الإقتصادي تجنبوا الإحتكاك معه و هو ما أرسل رسائل مشفرة مفادها أن تلميع الصورة يتطلب تنازلات كبرى على المملكة السعودية تقديمها إن أرادت استمرار هذه القوى في دعم "الإصلاحات" التي باشرها ولي العهد السعودي في إطار الرؤية الإستراتيجية 2030. شريط الفيديو الذي جرى تداوله على نطاق واسع عبر وسائل التواصل الاجتماعي الذي يظهر المصافحة الحارة بين ولي العهد السعودي والرئيس الروسي فلاديمير بوتين والتي تميّزت بكثير من الودّ، إذ تصافح الرجلان بحرارة و بإطلاق ابتسامات عريضة قبل أن يجلسا متجاورين على طاولة القمة، وهما يتحادثان ويتبادلان الابتسامات. كانت بمثابة محاولة الرياض تمرير بعض الإشارات للحلفاء التقليديين على أنها مستعدة لفتح تحالفات أخرى مع التنين الروسي في حالة عدم دعم حماقات الأمير في هذه اللحظات الحرجة. – رسائل من واشنطن للرياض عبر الرباط لا شك أن الضغوطات التي بات يمارسها الكونغرس الأمريكي على الرئيس " دونالد ترامب" لاتخاذ موقف حازم اتجاه محمد بن سلمان بعد أن أظهرت جل التحقيقات أنه يملك اليد العليا في تصفية الصحفي " جمال خاشقجي" داخل قنصلية بلاده في اسطنبول، ساهمت في جعل سماء العلاقات الأمريكية السعودية ملبدة بالغيوم الداكنة. القلاقل التي ميزت هذه العلاقات غداة هذه الجريمة دفعت بالعديد من المسؤولين السعوديين من خلال خرجاتهم الإعلامية، إلى التلويح بإمكانية الإنفتاح على أسواق جديدة لسد حاجيات السعودية من الأسلحة في حربها الإستنزافية ضد الحوثيين في اليمن، هؤلاء المتدخلون ألمحوا إلى العديد من الخيارات و البدائل و لعل أهمها التقارب مع روسيا التي عبرت بدورها في الكثير من المناسبات عن رغبتها في تطوير التعاون العسكري مع الرياض ليشمل مجالات كانت تعتبر حصرية للحليف الأمريكي. هذه التلميحات و اللقاءات المتزايدة التي جمعت بين مسؤلين سعوديين بنظرائهم الروس، دفعت بواشطن للتحرك من أجل حماية مصالحها الإستراتيجية المتمثلة في الإستحواذ على سوق الأسلحة لدى بلدان الخليج العربي، و لعل التصريحات الآتية من الولاياتالمتحدةالأمريكية عبر دبلوماسي مغربي " لم يُكشفْ عن هويته " لوكالة " أسوشييتد بريس " في الوقت الذي كان فيه وزير الخارجية المغربي " ناصر بوريطة" يقوم بزيارة لواشطن، و التي أعلن من خلالها المسؤول المغربي عن عدة مواقف تهم العلاقات المغربية السعودية خاصة ما يتعلق منها بالأزمة اليمنية و كذا التموقعات من الأزمة الخليجية و التي صبت في مجملها لفتح الباب أمام المزيد من التشنجات في العلاقة التي تجمع بين البلدين الصديقين. التصريحات الحساسة التي أدلى بها المسؤول الرفيع المستوى لوكالة الأنباء الأمركية فهمت على أن واشطن منزعجة من بعض التحركات التي تقوم بها الرياض في الآونة الأخيرة ( خاصة ما يتعلق بانفتهاحها على الصين و روسيا )، و الرسائل التي حاولت الولاياتالمتحدةالأمريكية إيصالها للسعودية عبر الرباط هي أن تنصيبها كقائدة للعالم العربي و الإسلامي لن يبقى إلى الأبد، و أن الاصطفافات الحالية للكثير من الدول يمكن أن تنقلب في أية لحظة إذا أرادت واشنطن ذلك . و هو ذلك الشيء الذي يؤكد فرضية "الإصطفافات المصطنعة" المبنية على شراء الذمم و المواقف و الإبتزاز في أحايين كثيرة. رسائل واشطن واضحة للرياض و عدم إلتقاطها في الوقت المناسب يعني أن الأحلام الوردية التي منحت للسعودية ستجهض في نصف الطريق من قبل و.م. الأمريكية التي تكفلت بإخراج هذه المسرحية المعنونة ب " قائدة العالم العربي و الإسلامي". باحث في العلاقات الدولية و العلوم السياسية