يوجد المغرب اليوم أمام مفترق طرق كبير، فإما أن يؤسس لنموذج مغربي في الإصلاحات السياسية التي تجنبه تكرار سيناريوهات الثورات العربية، أو أن البلاد ستجد نفسها مجددا داخل دوامة من الاحتجاجات المطالبة بالتغيير. تحليل علي أنوزلا* سيكون يوم 25 نوفمبر، تاريخ إجراء انتخابات تشريعية سابقة لأوانها موعدا للاختبار الحقيقي للإصلاحات التي أقدمت عليها السلطات المغربية منذ أن خرجت المظاهرات في الشارع المغربي للمطالبة بإصلاحات ديمقراطية حقيقية. فقبل تسعة أشهر شهد المغرب، على غرار باقي دول المنطقة، وبتأثير مما حدث في هذه الدول من ثورات شعبية، احتجاجات غير مسبوقة في تاريخه المعاصر، عمت جميع مدنه وقراه، وشارك فيها آلاف المحتجين من جميع شرائح المجتمع للمطالبة بالإصلاح. وهذا ما اضطر السلطة، ولأول مرة منذ تنصيب الملك محمد السادس على عرش المغرب قبل 11 سنة على تقديم تنازلات ملموسة، تحد من بعض صلاحياته المطلقة وتخولها لرئيس الحكومة، وتفسح المجال أكثر أمام بعض الحقوق التي ما زالت تهضم في مملكة محمد السادس رغم كل المبادرات التي اتخذها منذ وصوله إلى الحكم للقطع مع العهد الاستبدادي لوالده الذي حكم البلاد بقبضة من حديدي. ورغم ما لاقته تلك الإصلاحات من تجاوب واسع من قبل الطبقة السياسية، ممثلة في أغلبية الأحزاب السياسية المشاركة في العملية السياسة، وتم التصويت عليها في استفتاء شعبي بنسبة تجاوزت 98 في المائة وذكرت المغاربة باستفتاءات المبايعة التي كان ينظمها الملك الراحل لإضفاء شرعية شعبية غير حقيقية على دساتيره، إلا أن هناك أطيافا أخرى من المجتمع المغربي لم تر في تلك الإصلاحات، سوى محاولة للالتفاف على مطالبها المشروعة في بناء دولة ومجتمع ديمقراطيين. لذلك لم تتوقف مظاهراتها في الشارع، والتي ظلت تخرج أسبوعيا للتذكير بهذه المطالب. ومع اقتراب اقتراع 25 نوفمبر، اتخذت هذه القوى موقفا يدعو إلى مقاطعة هذه الاستحقاقات التي لا تعتبرها ديمقراطية. شارع مغربي منقسم ورغم أن هذا الاقتراع سيكون حاسما من حيث آفاق إرساء النموذج المغربي في الإصلاح، إلا أن مؤشرات ما قبل هذا الاقتراع قد تساعدنا على قراءة المستقبل والذي يبدو من الآن أنه سيكون منقسما ما بين أصحاب نظرية الاكتفاء بما تحقق حتى الآن من إصلاحات ومحاولة البناء عليها، على اعتبار أنه ليس بالإمكان تقديم أحسن مما كان. وما بين الطامحين إلى إصلاحات أعمق، على أساس أن المرحلة مواتية للضغط من أجل حمل السلطة على تقديم المزيد من التنازلات في اتجاه الإصلاح الحقيقي والديمقراطي. وما بين أصحاب هاذين الرأيين ينقسم الرأي العام المغربي اليوم، وذلك حتى قبل الذهاب إلى صناديق الاقتراع. فلأول مرة منذ اعتلاء الملك محمد السادس الحكم في بلده، تعرف استحقاقات انتخابية أكبر دعوات للمقاطعة، جاءت حتى من أحزاب كانت حتى الأمس القريب تشارك في الانتخابات التي شهدها المغرب خلال العشرية الأخيرة، مثل حزبي "الاشتراكي الموحد" و"الطليعة الديمقراطية". فهذان الحزبان شاركا في جميع الاستحقاقات التي عرفها المغرب في السنوات الأخيرة، وهما اليوم من بين دعاة مقاطعة اقتراع الجمعة، مصطفين خلف جماعة "العدل والإحسان"، التي تعد أكبر جماعة إسلامية مغربية، ظلت ترفض الاندماج في العمل السياسي المغربي إلا بشروط تضعها هي. وانضافت إلى كتلة المقاطعة حركة 20 فبراير الشبابية التي ولدت من رحم الربيع العربي، وكانت وراء الحراك السياسي الكبير الذي ما زال يعرفه المغرب. وإلى جانب كل هؤلاء نجد حزبين إسلاميين صغيرين غير مرخص لهما هما "البديل الحضاري"، و"حزب الأمة"، ورغم أن الحزبين كان حتى قبل سنوات يسعيان بكل السبل من أجل الحصول على ترخيص للمشاركة في العمل السياسي إلا أنهما اليوم يعلنان مقاطعتها للانتخابات حتى وإن كانا يعرفان أنه لن يسمح لهما بالمشاركة فيها. وطبعا، يقف مقابل كتلة المقاطعين هذه، أكثر من ثلاثين حزبا يتنافسون في الانتخابات الحالية، يمثلون أحزابا تقليدية عريقة، وأحزابا محسوبة على القصر، وحزب إسلامي كبير مثير للجدل هو حزب "العدالة والتنمية"، الذي اختار منذ نهاية تسعينيات القرن الماضي العمل من داخل المؤسسات وبالإمكانات المحدودة المتاحة له من أجل الإصلاح من الداخل. أكبر رهانين لذلك فإن أكبر رهانين بالنسبة للانتخابات الحالية يكمنان في نسبة المشاركة التي تؤرق السلطة في المغرب، والتي كثفت من حملاتها الدعائية لحمل الناخبين على الذهاب إلى صناديق الاقتراع، أو حتى من خلال مضايقة دعاة المقاطعة والذين تعرض المئات منهم للاعتقال والتحقيق، مما دفع "هيومن رايتس ووتش" إلى تحذير السلطات المغربية من كل مضايقة على المعارضين لانتخاباتها. فآخر انتخابات تشريعية شهدها المغرب عام 2007 عرفت أضعف نسبة مشاركة في تاريخ الاستحقاقات المغربية منذ الاستقلال، ومن الآن تتخوف السلطة في المغرب من تكرار نفس التجربة، خاصة مع تعاظم دعوات المقاطعة. فبعد الرقم القياسي الكبير الذي حطمته المشاركة التونسية الأخيرة، تجد السلطات المغربية نفسها في موقع حرج إذا لم تقنع مواطنيها بالمشاركة بكثافة في التوجه إلى صناديق الاقتراع، وهي التي كانت تقدم بلدها، حتى شهور قليلة، كنموذج للديمقراطية في منطقة المغرب العربي. فالمقاطعة الكبيرة قد تعني أن الناس لم تضع ثقتها في العملية السياسية، وأكثر من ذلك فهي ستحكم على مسلسل الإصلاحات الذي أطلقه الملك محمد السادس منذ شهر مارس الماضي بانسداد أفقه السياسي. مما يعني الرجوع بالمغرب إلى المربع الأول مع كل الاحتمالات التي تجعل تكرار سيناريوهات الثورات العربية أمرا غير مستبعد في المغرب. أما الرهان الثاني، والذي لا يقل أهمية عن الأول، فهو تصدر الإسلاميين المشاركين في الانتخابات للصفوف الأولى من نتائج التصويت. وهذا أمر غير مستبعد بما للحزب الإسلامي الوحيد المشارك في هذا الاقتراع من قدرة على تعبئة مناضليه للنزول بكثافة للتصويت لصالحه. وبما أن نمط الاقتراع المغربي لن يسمح لأي حزب كيفما كان لونه من اكتساح الانتخابات، فإن احتلال حزب إسلامي للمركز الأول في نتائجها سيضع القصر أمام خيار لا محيد عنه، وهو تعيين إسلامي على رأس الحكومة المقبلة، كما ينص على ذلك الدستور المغربي. وفي حالة تحقق هذا الأمر سيجد المغرب نفسه أمام مفترق طرق جديد: التأسيس لتجربة جديدة تكون قادرة على استيعاب شرائح من المجتمع كانت حتى الأمس القريب مهمشة، أو تذويب الحزب الوحيد داخل دواليب السلطة، وهو الذي كان يمثل صوت المعارضة المنبثقة من الشعب داخل المؤسسات، وبالتالي فسح المجال لمعارضة متنامية نجحت خلال الشهور القليلة الماضية في تحويل الشارع إلى سلطة حقيقية مضادة يصعب احتوائها بدون الاستجابة لمطالبها. هذا الموضوع كتب خصيصا لموقع دوتشفيله