صعدت سيدة مغربية في سن الثمانين إلى طائرة تربط بين الدارالبيضاء والعاصمة الفرنسية، فأخذت لها مكانا بجانب رجل أوروبي. وكانت كل الدلائل تشير إلى أن صاحبتنا من أصول أرستقراطية راقية، وأن جهلها للقراءة والكتابة لم ينل كثيرا من كبريائها. وعند إقلاع الطائرة، بدا عليها ارتباك كبير، فبدأت تصلي وتدعوا الله بشكل مثير وتضغط على حبات سبحتها بشدة وخشونة، وهي أمور انزعج لها جارها. وبعد فترة، حين هدأت الطائرة في الأجواء، طلبت من المضيفة ان تأتيها بكأس من الويسكي. عندئذ ثارت حفيظة الأوروبي المسيحي، فأعرب لها عن اندهاشه من تصرفها المتناقض. فأجابته في هدوء تام: "سيدي، اعلم أن السبحة هي وسيلتي لإرضاء الله، أما الويسكي فهو وسيلتي لإرضاء نفسي". كتاب: الملكية والإسلام السياسي في المغرب، محمد الطوزي ترجمة محمد حاتمي وخالد شكراوي صفحة 14 هذه الرواية الطريفة نقلناها لكم على سبيل الاستئناس لا غير. يبدو أننا هذه المرة أيضا أخطأنا الموعد مع التاريخ. ففي كل مرة تثار فيها وقائع وأحداث وقضايا، بدلا من أن نستغلها في نقاشات موضوعية ومثمرة ونحول السلبي فيها إلى الإيجابي ونراكم معارف عن أنفسنا، تُحَرَّفُ هذه النقاشات وتدخل في منعرجات التفاهات والخوض في هوامش الإشكالات الرئيسية والجوهرية، تارة عبر شخصنة هذه المواضيع ومحاكمة النوايا وتارة عبر تحويلها إلى مجالات لتصفية الحسابات السياسية أو حتى الشخصية أو عبر اتهام أيادي خارجية أو تخوين الأشخاص أو توجيه تهم المس بقيم الأمة والملة وما يلي ذلك من سخاء في السب والقدف والشتم والتخوين والتكفير وهكذا تضيع الفرص منا متتابعة. وهذا ما عايشناه على الأقل في السنين الأخيرة مع ما الكثير من نقاشات حول قضية الأمازيغية وحول المساوات في الإرث أوعن كتاب "صحيح البخاري نهاية أسطورة" وهذا ما بدى أيضا من خلال الصور لأشخاص عموميين المسربة عبر وسائل التواصل والصحافة. هل يمكننا أن نخرج من هذه النقاشات المشخصنة وندفع بالنقاش في اتجاه ما هو أهم ومفيد أي الخوض في الحريات العامة والخاصة وعلاقة الخصوصي بالعمومي وأين يقف الفرد في ثقافتنا مثلا ؟ يبدو أن هناك شهية مفزعة تفتحت مؤخرا لبعض وسائل الإعلام والتواصل وراح أصحابها ينهشون في أعراض الناس ويعملون بجميع الطرق-كما لو أنهم محاكم التفتيش- للكشف عن نوايا وتضاريس أجساد الآخرين الظاهرة والباطنة. وهناك ما يكفي من التلوث الفكري كي لا نذهب بنقاشاتنا إلى ما هو رئيسي وجوهري، بل فقط أن نظل حبيسي ماضينا ونراوح أماكننا وأن نظل نحوم وندور حول الحواشي والهوامش بعيدا عن أي إفادة. لقد ضاعت منا الكثير من العناوين الأخلاقية وصرنا لا نُوَقّْعَ إلا تحت أشكال من التفاهة والرداءة. وثمة سكوت مريع ورهيب عن هذا الواقع الذي طبعته كل أشكال اللامسؤولية وعمته الضحالة: صحافة تقتات من كل ما هو فضائحي طفت على السطح، واللهث وراء كل ما هو خصوصي وحميمي للأفراد أصبح الرياضة المفضلة للعديد من وسائل الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعية. فعلا ثمة خيبة أمل وما يدعو للدهشة من حجم هذه الأوساخ ومن هذا الكم والعدد من الجبهات التي فتحت في كل ركن وكل زاوية داخل الفضاء العمومي ومن كثرة المعارك القذرة التي أصبحت تخاض تحت أي شعار أو مبرر من المقدس إلى المدنس. إن الأصل في الإيمان هو حرية الضمير، أي كونه مسألة شخصية، لكن الذين حولوا هذا المبدأ إلى سجن وراحوا يراقبون درجات إيمان الناس ومدى تطبيقهم لمناسكه وفرائضه وحولوه إلى أداة ابتزاز لكل من هو ليس منهم ومعهم واستغلوه سياسيا، هم الآن من أصبحوا يكتوون بهذه القيود التي أقحموها إقحاما في الدين ودفعوا بها للإشتغال في السياسة. إن الذين وضعوا سقفا منحدرا للناس كما لو أنهم حيوانات زاحفة وليسوا قامات بشرية وراحوا يقدفون كل من خالفهم الرأي: بالعهر والانحلال الأخلاقي والزندقة وربما الكفر هم نفسهم من أصبحوا غير قادرين على الاحتماء تحت هذه السقوف والحدود والخطوط الحمراء التي صمموها. سوف لن نتحدث عن شخص معين وبذاته أو حتى عن الخيمة التي خرج منها كل من السيدة أمينة ماء العينين وقبلها الوزير يتيم وقبلهما الشيخ عمر بنحماد والواعظة فاطمة النجار وهم مائلون. بل سنتساءل، ماذا عن ممارسات وسلوكيات تصدر عن أفراد من داخل حزب ما أو جماعة وهي لا تتوافق مع منظومة القيم والمبادئ التي تنادي بها هذه التنظيمات ؟ هل على هذا الحزب أو الجماعة تسديد فاتورة الممارسات الاستثنائية لبعض أعضائه البارزين ؟ هل ما سرب وسجل مؤخرا من صور وأصبحت تصول وتجول على مواقع التواصل الاجتماعية وبعض الجرائد الالكترونية والورقية، من أفعال فردية لبعض القياديين من حركة التوحيد والإصلاح وحزب العدالة والتنمية وهي مما يتنافى مع قيم ومبادئ هذه التنظيمات، هل هي دعوات صريحة للتخلص من قيود لم تعد صالحة للاستعمال ؟ أم مجرد تداريب خجولة لأفراد معدودين من حزب محافظ على أشكال من الحريات الفردية ؟ لكن علينا أن نتساءل أيضا ما الذي ذهب بهم إلى خارج الوطن هل هو الهروب من العيون المتلصصة تطبيقا لما اعتبر حديث نبوي أو ما شبه ذلك "إذا ابتليتم فاستتروا " وبذلك نعتبر هذه الأفعال مجرد ابتلاء وبالتالي الفعل وقع ونفذ تحت الأمر والوصية النبوية أي طلب السترة في أي فعل مخالف لما هو شرعي دينيا وبالتالي هؤلاء غير متناقضين مع عقيدتهم ؟ لكن مع عصر العولمة والرقمنة لم يعد هناك من مكان آمن للستر والتستر غير الوضوح، إذ قد تمتد العيون والكاميرات إلى المواقع الحميمية بل حتى إلى بواطن الناس. هكذا وجب مراجعة معنى ووظيفة "السترة" وأيضا "الحجاب". أم هو دعوة إلى الرقص على جميع الحبال، أي نفاق من نوع ما، وهذه الأفعال تقع تحت طائلة قوله تعالى في سورة الصف الآية (3) "كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ" ؟ أم أن هذه الممارسات تندرج ضمن ما صرحت به السيدة التي أوردنا حكايتها أعلاه: "سيدي، اعلم أن السبحة هي وسيلتي لإرضاء الله، أما الويسكي فهو وسيلتي لإرضاء نفسي". أي ما يعبر عنه المغاربة ب" شوية لربي شوية لعبدو" إذ الأمر لا يخلو من المألوف والمعتاد عند المغاربة ؟ لكن ما الذي جعل السيدة أمينة في أول الأمر تتنكر لصورها ولا تمتلك من الجرأة ما يكفي كما السيدة العجوز التي أوردنا قصتها أعلاه لتواجه المجتمع رغم أنها تمتلك جرأة سياسية وخطاب حجاجي، هل هو عدم اقتناعها بما فعلته أم خوفا من سلطة الأسرة والمجتمع والحزب ؟. أو أن الفضاء العمومي داخل الوطن لا يوفر لهم من الحرية ما يكفي إلى الحد الذي يقفز فيه بعض المنتمين إلى ما هو سلفي ومحافظ عن الحدود والخطوط الحمراء التي وضعوها لأنفسهم ؟ أم أن في الفضاء العمومي الغربي من الحرية والجاذبية ما يغري ويكفي لجعل الأفراد يتصالحون مع أنفسهم وذواتهم ؟ ربما الحج الروحي يتم إلى الشرق حيث الأماكن المقدسة (مكة والمدينة…) والحج الجسدي يتم إلى الغرب حيث الأماكن المدنسة (باريس وروما…) ؟ أو قد تكون مجرد نزوة عابرة من فعل وتأثير السلطة والمال ؟ أو مراهقة متأخرة ؟ أو لحظة ضعف إنساني أمام إغراءات الحرية ؟ أو ربما لعنة من لعنات الحداثة التي اكتسحت كل شيء دون تمييز ولم يعد يصمد أمامها لا المتحرر ولا المحافظ ؟ على أية حال مهما اختلفنا مع هؤلاء الأشخاص أو غيرهم (إسلاميين أو حداثيين)، فإن الأمر يدخل في خانة الحريات الفردية وحق الفرد في الانتماء إلى نفسه، واختيار شكل الحياة المناسب له، التي هي من حق أي كان أن يتمتع بها وأن يمارسها بالشكل الذي يراه ملائما له وفي الأمكنة التي أحبها هو دون وصاية أو استشارة أي أحد أو تدخله، وفعل التصوير والتسريب الذي تم من خارج إرادة هؤلاء الأفراد هو شكل من أشكال التجسس والتلصص والاعتداء على حرمة وحرية الغير. أكيد أن هناك الكثير من الأسئلة التي تستوجب علينا طرحها، وقد يطفو على السطح سؤال أولي تقليدي حقوقي قانوني هو: هل يحمي القانون الذين لا يؤمنون به ؟ لكن نحن هنا لسنا في تشابك أو عراك مع من لا يؤمن بالقانون الوضعي السائد داخل دولة ما بعد الاستقلال. قد نتساءل، حينما يتم الاصطدام بقيم الحريات الفردية التي لا يؤمن الفرد بشرعيتها الأخلاقية هل يمكنه أن يحتمي بهذه القيم التي لا يؤمن بها ؟ وكيف لشخص أو جمعية أو جماعة أو حركة أو حزب أو مجموعة أفراد أن يلتجؤوا إلى قيم لا يؤمنون بها للدفاع عن ممارسات وأفعال قاموا بها وهي تنتمي إلى هذه القيم التي لا يؤمنون بشرعيتها وذلك من أجل حماية أنفسهم ؟ هل نحن أمام فعل انتهازي ؟ هل يمكننا أن نتحدث عن نفاق سياسي وليس عن ما هو مبدئي ؟ أو عن شرخ بين الأقوال والأفعال خصوصا مع الإجابات والردود الأخيرة للأمين العام السابق لحزب العدالة والتنمية السيد بنكيران دفاعا عن أمينة ماء العينين وهي العضو النشيط بالحزب، أي الفهم الجاهلي لمقولة "أنصر أخاك ظالما أو مظلوما" ؟ إن تصوير هؤلاء (السيدة أمينة ماء العينين ويتيم وعمر بنحماد وفاطمة النجار وغيرهم) وهم في وضعيات تتنافى مع خطاباتهم، مع تسريب صورهم، ليس هدايا لنا من أيادي خفية أو من جهات ما أو حتى من السماء أو من الصدف المحمودة، كما أنهم ليسوا قرابين من نوع ما سنقدمها على مذبح الحريات الفردية. بل لا يجب أن نستقبل ونتقبل الحدث كما لو أنه هدية للفكر الحر ولثقافة حقوق الإنسان، فكل من تعرض لشكل ما من المضايقات أو الاضطهاد لا تفاوض حول حقوقه الفردية مع أي كان. ولابد أن نعمل كي يجد الجميع مكانه تحت سقف ثقافة حقوق الانسان دون أن ننتبه أو حتى نُذَكِّرْ أحد بجنسه أو بشكله أو بانتمائه أو اعتقاده وبعيدا عن التشفي والانتقائية، أي، إن كان مني فهو ضحية وإن كان من خصومي فهو مذنب وجبت معاقبته. لا يجب أن نتعامل مع هذه الظواهر كما لو أنها صيد ثمين أو طريدة طرية من نوع خاص سنحولها إلى زاد دسم ونحن في طريقنا إلى حقوق الإنسان والحريات الفردية، بل هي لا تسمن ولا تغني أي ديمقراطية بقدر ما تشوش على مساراتها. قد تكون مفيدة بالنسبة للسياسي الذي يحسن تسديد الضربات تحت الحزام وليّ الأذرع، وهي أيضا مجدية بالنسبة للسلفي العدمي الذي صار يعلن عن وجوده عند أي فعل أو حدث مناقض لكل ما هو حرية وديمقراطية، كما أنها مجرد فتاة لأولئك الذين يقتاتون من كل ما هو هوامش وخصوصيات الأفراد قصد التشهير بأعراض الناس، أو لمن له العداوة الشخصية-قد يكون حتى أخ أو رفيق- مع أي نجاح فردي خصوصا إذا كان أنثوي المصدر. أما بالنسبة للحقوقي لا تعدو أن تكون سوى هدية مفخخة أو طرد ملغوم أو حتى امتحان ذاتي لما راكمه من خبرة وعلم ومعارف وممارسات داخل حقل الحريات وحقوق الإنسان، لذلك يجب عليه الاحتراس والتفطن عند دخوله إلى هذه الرمال المتحركة. إن حقوق الإنسان هو العنوان الأرحب، هو الفضاء وهو الأفق الذي يجب أن ينضم وينضوي تحته الجميع ومن داخله وتحت سقفه، أي من داخل قيم الحريات والحقوق يجب أن ندافع عن الإنسان وإن سجل أو أعلن أو حتى ناضل وتموقع هذا الفرد أو ذاك ضدها. إن عدم انتماء هذا الفرد أو حتى الجماعة إلى قيم الحريات الفردية لا يعطي أي شرعية للمنتمي إليها كي يواجهه أو يضحي به ولو رمزيا بل عكس ذلك هو مطالب بالدفاع عنه تحت فضاء رحب وأفق أرحب الذي هو ثقافة حقوق الإنسان والحريات العامة. إذن يجب علينا الاحتراس من كل عمل يصبو إلى تفريغ قيم الحداثة والعلمانية وحقوق الإنسان من جوهرها وتحويلها إلى مجرد شعارات جوفاء لا تسعفنا في شيء ونحن نتقدم نحو المستقبل، هكذا سنخسر أي خطوة نحو الديمقراطية. فالديمقراطية هي المجال الوحيد والإطار القانوني الذي سوف يجد فيه كل فرد أو جماعة كامل حقوقه. على المنتمين إلى المشروع الحداثي العلماني الديمقراطي وإلى ثقافة حقوق الإنسان أن يعملوا على تأمين وتوفير الحماية الحقوقية اللازمة لكل هؤلاء الذين لا ينتمون إلى هذه الثقافة أو إلى أولئك الذين لا ينتمون لها إلا عرضًا لأن منظومتها كونية (القاعدة القانونية عامة ومجردة) لا تفرق ولا تميز بين الأفراد مهمى تعددت وتنوعت أجناسهم وانتماءاتهم وبذلك المبدأ مطلق. نحن مطالبون أكثر من أي وقت بأن ننتمي إلى ثقافة حقوق الإنسان في شموليتها ودون أي انتقائية أو تحيز.