الشخصية الثالثة التي تلوح كباقي الوشم بظاهر اليد بعد أحساين بوشقيفة والعربي جْراد، من خلال ما كتبتُ على عمود مزكيدي ،هي شخصية الكُرادي : سي محمد بوكْليبات، الذي اعتاد زيارة البلاد من حين لآخر وقت القيلولة، لارتشاف كؤوس من الشاي على وقع حديث مطول يحكي فيه" السبْتي الطويل والمطْوي القصير "، أحلى الكلام وأعذبه ،مع أحْدى أويوسف شمي ،ويوسف اوحميدة،و لَفْقيه يوسف ابراهيم رحمة الله على الجميع....، وهو حديث لا يحس بنغماته، إلا لغْيام والجوماط، وعدي ويجيل ولحسن لهري .... ، ومن يجالسهم طوال ليل الصيف والشتاء ،من الأحباب ب : رَكْ اوهرى، أو بجانب لبَانَا..... فيا عجبا للرجل ومن الرجل : شعر أصفر مسدل على الكتفين ، ،شاربان طويلان ومخيفان ،مُشَعر الصدر ،ساعدان خشنتان قويان ،قوامه منتصب ،كأنه غير متقدم في السن أو أن الأعوام فشلت في تركيعه ، ،أنفه كتلة لحمية مستطيلة تنتهي بفتحتين مشروطتين يتطاير منهما شرر حين ينفعل ، لباسه لباس جندية ،حذاؤه بلاستيكي (بوط) ،يتأبط كُلَيْبا صغيرا وأحيانا اثنين يطعمهما مدة من الزمن فيذبحهما ويشوي لحمها ويتلذذ بمذاقهما ... والعُهدة على الراوي ..... أتذكره صامتا، هادئا ، لا عدوانيا ، يضج بالحديث بينه وبين نفسه ،نتأدب أمامه.... ، وحين يمر نصيح هاربين مرددين : الكرادي دهروا ماضي وتطورت العبارة إلى الكرادي كَعْرو ماضي مع جيلنا .." ونختبئ خوفا من أن ينفجر البركان الذي بداخله فيقضي علينا جميعا ،.... عبارة نرددها دون أن ندري مدلولها ، لكن الرجل يرتجف لها من الانفعال، فيعاتبنا الكبار على مُناكفته ونزداد باللوم اشتعالا، ونتربص عودته بعد العصر، لنقيم الدنيا ونقعدها عليه ،.......تراني أسال نفسي هل الكرادي شخص واحد أو اثنان أو ثلاثة ؟ أُحرك أرنبتي بسبابتي متحيرا من أمر ما سألت ،دون أن أجد جوابا مريحا،فمن هو أيها القارئ الذي أشترك معه في ذكرياتي غير المنسية ؟،وما اسمه؟ وما قضيته ؟أسئلة محيرة أردت استفزاز القارئ بها من أجل البحث في هوية هذا الشخص لإفائها حقها من التاريخ ولو بالذكر من حين لآخر، حتى لا تكون حياتها منسية لدى جيلنا الجديد .... فما أغرب الذكريات حين ننبش في الذاكرة ونحاول ترميمها عبثا ولو بالقليل ،....ومن خلال مهاتفة أصدقاء هم إخوان لي طبعا ، من مناطق مختلفة عثرت على معلومات شحيحة ، فالكرادي سي محمد بوكليبات من قصر أبو عام بالريصاني، كان تاجر تمر، وهو أخ ل احسيني الخضار بالسوق المحلي، وحسب الرواة الذين اتصلت بهم، يحكون أنه سافر بشحنة كبيرة من التمر، لبيعها بمكناس فباع بضاعته، ومر على مدينة خنيفرة والمناطق القريبة منها ، واشترى بثمنها كؤوسا دهاقا من النبيذ ، وعاش الفيلالي المسكين بين الهوى، والجوى والعشق والصبابة بالإسراف ليل نهار مدة من الزمن ، منتشيا بوجوه بيضاء ، وضاءة كالبدر، وأجساد رطبة ناعمة كالحرير ، ،حتى فرغ الجراب ولم يعد بداخله غير البرد والسراب والهوام ، وعاد بخفي حنين يضرب الكف بالكف شماتة....لا تمْر... لا أموال... .. ولا وجه نقي يلقى به أهله ، ...... ضاع الشرف والمال والحسنات ولا حول ولا قوة الا بالله يا أحبابي ... وأصبح منذ ذاك الزمن صديق السبتي الطويل الذي لا يحرم أي طالب له صغيرا أو كبيرا... إنها صور تملأ الخواطر ونحاول عبثا إبعادها لتحل محلها صور حضارية ،....إنه موقف مخز يدعو إلى القرف الصريح أمام هذه الشخوص ،التي تحملت وقامت من حفرة ووقعت في أخرى ،فكيف مات هؤلاء الرجال ؟ لا أحد يدري المهم أنهم ماتوا....... وجدوا طريقا... وساروا... صامتين دون بلادة ولا غباء ...ماتوا مثلما سوف نموت جميعا ، فلم يختاروا قبرهم ولم يتركوا وصايا لكن تركوا وابلا من الأسئلة .... رحلوا منفردين ومنعزلين بعدما ذبلت أرواحهم في أجسادهم ....فمشوا إلى القبر ،كما مشى غيرهم إلى الحج أو إلى المجهول ...والدنيا ماشية باعت لهم العيش يالميزان .... فلا يترك الزمن آثاره علينا من خلال ملامحنا التي تتغير فقط ،بل يحفر آثاره العميقة من خلال الموت ولوعة الفقدان. ، فمن يموت بعيدا عنا لا ندري عنه شيئا . ..نجد من يقوم بعبء إبلاغنا...، نتلقي الخبر واجمين،.... نتلقاه والذاكرة تحاول أن تسعفنا بملامح هؤلاء الذين رحلوا ، وهنا تكمن قمة معاناة الاسترداد.....، قمة معاناة الترميم. تثير سيرة الكرادي وغيره الكثير من أوجه الأسى والحزن والاستياء من واقعنا الجاثم فوق صدورنا، نمشي في طريق غير طريقهم ،طريق مسالكه وعرة وفجاجه مرعبة ،.....فخذ العبرة من حكماء ذاك الزمان فربما تكون حفرتك أشد عمقا ومقتا وعنفا وقسوة، ورحمة الله عليهم رغم كل شيء وإلى شخصية أخرى بحول الله.