مصطفى ملو "إلى كل المشققة أقدامهم بغبار الجنوب الشرقي". "إهداء إلى تلامذة و أطفال إميضر". "إلى الطفل الإميضري بدر الذي تحدث أحسن مما يتحدث بعض المسؤولين". "إلى الطالب المهندس موحى". كانت تلك أول مرة أهبط فيها بالرباط,وكانت أول مرة أركب فيها القطار من مكناس متوجها صوب العاصمة,كانت أول مرة أركب فيها المصعد الكهربائي,قلت في نفسي يا لك من متخلف عن الركب,أحسست كأن كل العيون ترمقني,تراقب كل تحركاتي,هكذا خيل إلي,كل خطوة أقدم عليها أحسب لها ألف حساب,فكنت أقدم رجلا و أؤخر أخرى,وأتساءل في قرارة نفسي,هل أنا فعلا كبقية الناس؟هل كل حركاتي لا يشوبها شيء مريب يجعلني متميزا عن الآخرين-سلبا طبعا وليس إيجابا-؟أسئلة وأخرى تناسلت إلى ذهني وأنا أراقب الناس يغدون ويجيئون بسلاسة وسيولة كبيرتين, بينما أنا أتردد في اتخاذ القرارات, وأي قرارات؟ - مؤذنو الجنوب الشرقي ليسوا هم مؤذنو الرباط. أول ما أثار انتباهي وأنا أتجول في شوارع الرباط هو منظر السيارات الفاخرة وحتى المتواضعة جدا,أغلبها مخدوشة من مختلف الجوانب,خاصة من "البارشوك" الخلفي,بعضها قابع عند محلات صباغة السيارات,منها ما اعوجت أبوابه أو "مؤخرته" بفعل قوة الاصطدام,قلت مع نفسي يعلم الله كم من النزاعات والمشاكل تنجم عند احتكاك سيارة بأخرى ويعلم الله كم من الصباغة يحتاجها أصحاب محلات الصباغة لإعادة السيارات المخدوشة إلى لونها و بريقها الأول,كثيرا ما أشاهد مثل هذه النزاعات التي تنشب حول احتكاك سائق سيارة بسيارة آخرى,خاصة عند الدخول أو الخروج من المواقف. قرر صديقنا موحى الذي نزلنا عنده في الرباط أن نتوجه هذا المساء إلى صومعة حسان لاكتشاف المكان, صادف وصولنا إلى هناك آذان المغرب, قلت لموحى ولبقية الأصدقاء؛هل تظنون أننا نتوفر في الجنوب الشرقي على مؤذنين بهذا الصوت؟ بعضهم أجاب بأن هناك مؤذنون أعذب صوتا من مؤذني الرباط,بعضهم أنكر ذلك,أما أنا فكان لي تفسير آخر للموضوع,تفسير مضحك إلى حد ما,حيث قلت لأصدقائي ساخرا وبأسلوب استنكاري؛كيف تريدون لحناجر المؤذنين بالجنوب الشرقي,حيث الغبار المتناثر في كل مكان,وحيث العواصف و الارتفاع المفرط لدرجة الحرارة وحيث المياه الرديئة,أن تكون بعذوبة صوت المؤذنين بالرباط؟ ذاك كان تفسيري,لاعتقادي بأن سكان الجنوب الشرقي خشنون في كل شيء,حتى في أصواتهم. -أطفال الجنوب الشرقي ليسوا هم أطفال الرباط. الساعة تشير إلى حوالي السابعة والنصف صباحا,الحركة دؤوبة في شوارع باب الحد,حركة المرور مختنقة بكثرة السيارات والحافلات,الناس يغدون روحة وجيئة,الأطفال يجرون محافظهم ذات العجلات متوجهين إلى المدارس,حينها تذكرت أطفال الجنوب الشرقي وهم يحملون محافظهم على ظهورهم متوجهين إلى فصول الدراسة,المحظوظون منهم من يسكنون بمدن هذه المنطقة,آخرون يضطرون لقطع الكيلومترات للوصول إلى حجرة الدرس,تذكرت حينها ذلك "الطفل الجنوب-شرقي" ب "خنونته" الخضراء و أسماله البالية و نعله البلاستيكي,الذي يحاول جاهدا المقاومة رفقة أسلاك حديدية أو خيوط"الصبايلو",وكعبيه المشققين,والأطفال الرباطيين الأنيقين الذين صادفتهم في تلك اللحظة-التي رحل فيها مخي إلى الجنوب الشرقي-,يركضون أمامي قاصدين مؤسساتهم أو منتظرين النقل المدرسي رفقة أمهاتهم ليقلهم إلى مدارسهم الخاصة. وأنا على ذلك النحو تبادرت إلى ذهني مقارنة غريبة,جعلتني أفسر الأمور على نحوي الخاص,ورمتني بأسئلة محيرة وانسلت,هل بإمكان أطفال مدن الجنوب الشرقي من الرشيدية و تنغير و زاكورة و ورزازات وإن كانت هذه الأخيرة أوفر حظا من سابقاتها لاشتهارها بالسياحة,أن يجروا محافظهم على الأرصفة كما يفعل أطفال الرباط؟ يا لك من سؤال سخيف أجبت عن سؤالي؟,الأجدر بي أن أطرح سؤالا آخر أعم و أشمل؛هل لنا أصلا أرصفة بالجنوب الشرقي؟ هل تصلنا المحافظ ذات العجلات إلى الجنوب الشرقي أم أن هناك معامل مختصة بصناعة محافظ تلامذة الرباط وأخرى متخصصة في صناعة محافظ أطفال الجنوب الشرقي,لا تكلف نفسها عناء وضع العجلات لأن وزارتنا المكلفة بالتخطيط و التنمية و...ترسل تقاريرها بأن لا أرصفة و لا شوارع هناك,فلا تكلفوا أنفسكم بوضع العجلات؟ حتى إن وضعت العجلات للمحافظ الموجهة للجنوب الشرقي فلن تنفع,لن تنفع ولن تستطيع الصمود أمام الأحجار و الحفر والغبار المتناثر في كل مكان,حينها سخرت مع نفسي من الوضع واقترحت حلا آخر,يجنب أطفال الجنوب الشرقي عناء حمل المحافظ التي تقوس ظهورهم,ويتمثل هذا الحل في صناعة محافظ خاصة ذات الدفع الرباعي,فهي الأصلح لتلك المناطق,مادامت الوزارات والمصالح الوصية لا تريد أن تمنح هذه المناطق حقها من الاهتمام والتنمية وحقها من الأرصفة والطرقات والشوارع,فكل شيء مركز في الرباط,كل شيء,الترام واي مقابل البغال بقرى الجنوب الشرقي,هذا إن وجدت,السيارات الفارهة في مقابل فاركونيت تكتظ بعشرات المتسوقين,قناطر ضخمة في مقابل طرق مهترئة ومتآكلة, معاهد ومدارس ومؤسسات تعليمية خاصة ذات مستوى عال هنا وحجرات دراسية تكاد أسقفها تقع على التلاميذ ومعلميهم ,وتشكل تهديدا لحياتهم في أي لحظة هناك,حينها تيقنت أن أطفال الرباط ليسوا هم أطفال الجنوب الشرقي ولن يكونوا كذلك,وتأكدت أن المقارنة مجحفة من الأساس. -المغرب مغربان. أصيبت بالحيرة و أنا أقارن بين الرباط والجنوب الشرقي,فالفوارق شاسعة جدا ولا حدود لها,وتوصلت إلى نتيجة مفادها أن المغرب مغربان,مغرب حقيقي ومغرب مزور ولكن أيهما المزور و أيهما حقيقي؟ و أنت تتجول في الرباط أغلب من تسألهم عن مكان ما لا يعيرونك أدنى اهتمام,في أحسن الأحوال "يرسلك" أحدهم إلى شخص آخر,أو يجيبك" ما نعرف" حتى وإن كان يعرف,أو يرد عليك" دوز من هنا أودور هنا",يحدث هذا في الشارع,أما في الإدارات فهي هي سواء في الجنوب أو في الوسط أو في الشمال,في الشرق كما في الغرب,فأول درس يتلقاه الموظفون هو كيفية عدم الاهتمام بأسئلة واستفسارات المواطنين,أو كأنه الشرط الأول لولوج الوظيفة العمومية. في الجنوب الشرقي أغلب من تسألهم تجد أن لديهم حماسا ليدلوك على مبتغاك,إنها الطيبوبة التي يعرف بها أهالي هذه المنطقة,فأي المغربين حقيقي و أيهما مزور؟ إذا جاز لنا أن نصف الجنوب الشرقي بالمغرب الحقيقي من حيث قيم و أخلاق سكانه المحافظين,الطيبين,فإنه مغرب مزور من حيث التنمية والتجهيز,والرباط في هذه الحالة يكون هو المغرب الحقيقي,حيث كل شيء يجتمع فيه,حتى الجواسيس و المخبرين الذين أعرف أنهم يراقبون تحركاتي أو هكذا خيل إلي,لكن حدسي تأكد,فبعد حضوري في ندوة عن حقوق الإنسان تدخلت فيها للحديث عن معتقلي القضية الأمازيغية ومعاناة الجنوب الشرقي الذي اعتبرته قنبلة موقوتة قابلة للانفجار في أي لحظة,بلغني من أحد الأصدقاء أنه و أثناء خروجي من قاعة الندوة,كان هناك شخصان يتبعانني ويراقبان خطواتي إلى أن "سرقت القطار" من محطة الرباطالمدينة إلى محطة أكدال,لم أشأ أن أخبر أحدا,ليقيني المسبق بأن هناك أشخاص لا يتقنون سوى فن الاتهام,مستعدون لاتهامي بحب الظهور والبحث عن الشهرة,رغم أن كل ذلك لا وجود له إلا في مخيلتهم و لا يهمني منه شيء. في الرباط رجال العسكر من مختلف الرتب,قلما أراهم في مدن الجنوب الشرقي المعسكرة أكثر من الرباط,في مدينة الرشيدية مثلا,التي تعتبر من أكبر المدن المغربية المعسكرة,لا أصادف سوى رجال من "دوزيم كلاص",في الرباط نادرا ما أصادف رجلا عسكريا من هذه الرتبة. -في المدرسة الوطنية للصناعة المعدنية. في المدرسة الوطنية للصناعة المعدنية,نزلت عند أحد الأصدقاء,لم أكن أعرفه جيدا,أو لأقل لم أكن أعرفه بالمرة,كنت أعرفه "معرفة العين"فحسب,تعرفت عليه من خلال الفايسبوك فقط,"الله إجازيك بخير ألفايسبوك",لكن روح التضامن التي يتميز بها أهالي الجنوب الشرقي جعلته يقبلني للمكوث عنده لمدة شهر. روح التضامن والتآزر حاضرة بقوة عند السكان المنحدرين من مناطق الجنوب الشرقي, ومن تجليات هذه الروح,أننا كنا نقتسم وجبة غداء واحدة من الوجبات التي تعد في مطعم المدرسة لفائدة الطلبة المهندسين,كنا نأكل في صحن واحد,ولم يكن يمثل لنا ذلك أي مركب نقص,في الليلة الأولى اكتظت غرفة صديقي,بعض الطلبة جاء للتسجيل في الماستر,بعضهم جاء باحثا عن عمل لدى إحدى الشركات,بعضهم مكث للاستراحة بالرباط ليكمل طريقه نحو تطوان أو طنجة حيث يتابعون دراستهم أو حيث يعملون. ضاقت الغرفة بما رحبت,وحلقنا حول الطاجين للعشاء,كنا سبعة عشر فردا,يتوقف أحدنا عن الأكل ليسمح لآخر بالمرور نحو الطاجين,بعد العشاء وجدت نفسي مضطرا للنوم أنا و صديقي على نفس السرير,باقي الزملاء بعضهم توجه للمبيت في غرفة أخرى عند معارفهم,والبقية الباقية ناموا كالسردين. أخبرني صديقي أنه عند كل موسم دراسي جديد,يخضع الطلبة الجدد ل"البيزوطاج",وطلب مني في حالة استوقفني أحدهم قائلا''بيزو'' أن أجيبه بأني لست طالبا من المدرسة الوطنية للصناعة المعدنية,وإلا تعرضت للبيزوطاج,سألته و ما البيزوطاج؟ لم يخبرني حينها,واكتفى بالقول ستكتشف ذلك فيما بعد. و بالفعل مع توالي الأيام عرفت ما المقصود بالبيزوطاج,إنها عملية يخضع لها كل طلبة و طالبات السنة الأولى,و تهدف بالأساس إلى خلق جو من التعارف و المرح بين الطلبة,وكسر حاجز الخجل لدى البعض,العملية تشرف عليها لجنة مكونة من طلبة قدامى,و بموجب هذه العملية فطالب السنة الأولى يجب أن يخضع و ينفد كل ما يأمره به طالب من السنة الثانية أو السنة الثالثة. العملية أشبه بتلك التي يخضع لها التلاميذ المجندون في الجيش,فحلاقة الرأس هي أول ما يخضع له الطالب الجديد,حيث يمرر موسى الحلاقة بشكل عشوائي على جزء من شعره,فيضطر الطالب لإزالة شعره كلية,وما أن ينبت شعره قليلا حتى تتكرر العملية مرة أخرى,العملية تقتضي كذلك أن يحمل الطلبة الجدد دفاترهم و كتبهم في علب بلاستيكية,و أن يرتدوا بدلات رياضية أو جلابيب بالنسبة للطالبات,أحيانا يطلب من الذكور قلب سراويل دجينز. العملية التي تستمرر ما بين أسبوعين إلى شهر,ترمي كذلك إلى إزالة التكبر من قلوب بعض المتكبرين,خاصة من المنتمين إلى العائلات الراقية وخلق نوع من الإحساس بالمساواة بين الطلبة و تقريب المسافات بينهم,رغم اختلاف الطبقات والأوساط الاجتماعية التي ينتمون إليها.العملية كثيرا ما تخرج عن أهدافها,سواء في حالة عناد و تعنت أحد الطلبة الجدد و رفضه الامتثال لأوامر''جينرالاته'',أو في حالة شطط هؤلاء ''الجينرالات'' في استعمال سلطتهم,أو استغلال أقدميتهم للنيل من الطلبة الجدد وتحميلهم ما لا طاقة لهم به,بعضهم يستغل الفرصة للتقرب إلى إحدى الطالبات أو حتى التحرش بهن, كما قد يكون ذلك سببا في ربط علاقات غرامية بينهم. -حتى الطلبة الإسلامويون و الإسلاميون ها هنا. ما أثار انتباهي في المدرسة الوطنية للصناعة المعدنية,هو وجود عدد لا بأس به من الملتحين,سألت صديقي عن انتماءاتهم,فقال لي إن أغلبهم مستقلون و منهم المنتمون إلى جماعات و حركات إسلاموية, لكنهم لا يعلنون عن انتماءاتهم تلك. أثار إعجابي الجو الأخوي الذي يعيش فيه الطلبة في هذه المدرسة,وإن كنت لا أخفي تضايقي من بعضهم,حيث يضحكون بشكل هستيري و بدون سبب,كما يطلقون كلمات نابية دون مراعاة لأي أخلاق,ربما لأن بعضهم لم ينضج بعد,ربما أن الفارق العمري بيني و بينهم يجعلني انظر بعدم الرضى إلى تصرفاتهم,ولكن رغم كل ذلك فكلهم يحترمون بعضهم البعض,رغم اختلافاتهم الإيديولوجية,ويتضامنون في حالة تعرض أحدهم لسوء من طرف أجنبي عن المدرسة. ما أثار إعجابي أكثر هو بعض الطلبة الملتحين القادمين من مناطق سوس,الذين يدافعون عن الأمازيغية جهد أيمانهم و لا يجدون في ذلك غضاضة و لا تنافرا مع الدين,تأكدت حينها أنهم إسلاميين كبقية أغلب الشعب المغربي وليسوا إسلامويين,ممن خدروا بالإيديولوجيات الإسلاموية المختلفة التي ما أنزل الله بها من سلطان,وتمنيت ألا تصلهم رياح هذه الإيديولوجيات التي تعارض أشد ما تكون المعارضة سنة من سنن الله,ألا و هي اختلاف الألسن و الديانات و المعتقدات و الألوان و الأجناس. ذكرني هذا المنظر بمنظر الثورة الليبية,حيث الملتحين الأمازيغ إلى جانب غيرهم في لحمة و التحام رائعين,حاملين الأعلام الأمازيغية,ومحاربين جنبا إلى جنب ضد الطاغية,وتساءلت مع نفسي قائلا؛متى يصبح الإسلامويون المغاربة,إسلاميين بالدين أمازيغ بالهوية كباقي الشعب؟ ومتى يدركون أن العروبة والتعريب شيء و أن الإسلام شيء آخر؟ متى يدركون أن من العرب من هم أشد كفرا و نفاقا من الأمازيغ؟