تسود العالم الآن حالة من الترقب تجاه أداء البورصات العالمية بعد أدائها السلبي المتواصل، وما تعكسه من مشكلات في الواقع الاقتصادي، ولم يعد الاهتمام بالبورصات من شأن المتخصصين فقط، ولكنه أصبح اهتمام عامة الناس. وما يشهده العالم اليوم من انتكاسات للبورصات ليس بالأمر الجديد، وإن كان يختلف من حيث انتشاره وتوسعه على مستوى العالم، فنذكر هنا ما تعرضت له بورصات جنوب شرق آسيا في عام 1997، أو ما شهدته أسواق روسيا وأمريكا اللاتينية، ومؤخرا ما مرت به بورصات البلدان العربية، وقد تعارف الإعلام على تسمية الأيام التي تنتكس فيها البورصة بيوم "كذا" الأسود. ومن هنا نجد أنه من المناسب أن نعرف بالجوانب الفنية والشرعية لأداء البورصات، من أجل أن يكون القارئ والمتابع لشأن البورصات على بينة من أمره، وما نتناوله هنا بمثابة إيضاح للقواعد العامة الحاكمة لعمل البورصات. فسوق الأوراق المالية "البورصة" واحدة من آليات اقتصاد السوق، وقد عرفت منذ فترات طويلة، ويعتبر مسمى البورصة هو الشائع لسوق الأوراق المالية، وقد اشتق هذا الاسم من خلال ما عرف عن مقابلات التجار في فندق بمدينة "بروج" البلجيكية في القرن الخامس عشر لإنهاء تعاملاتهم المالية، وكان الفندق الذي يتقابلون فيه يحمل اسم صاحبه (فان دين بورص) أو العائلة التي تمتلكه[1]. ولكن مع مطلع التسعينيات من القرن الفائت وسيطرة اقتصاديات السوق على مقدرات الاقتصاد العالمي اتجهت معظم البلدان لتتبنى ما سمي ببرامج الإصلاح الاقتصادي، والتي حملت في طياتها إنشاء بورصات في معظم أسواق البلدان العربية، وكذلك في بلدان أمريكا اللاتينية ودول أوروبا الشرقية، وهي البلدان التي تحولت لاقتصاديات السوق. ولكن يتبادر إلى الأذهان عندما تُذكر البورصة أمران، وهما: إما الربح السريع أو الخسارة الفادحة، وقد عكست وسائل الإعلام هذا التصور وترسخه لدى العامة من خلال آلياتها المتعددة، كالأفلام، والمسلسلات، والكتابات الصحفية. وإن كان لسوق الأوراق المالية أدوار وأهداف أخرى، إيجابية على الصعيد النظري، ولكن هذا الدور الإيجابي تخفيه أو تمحوه الأجواء السائدة في أسواق الأوراق المالية حيث المضاربات على أشدها، وحتى نعرف أهمية وجود أسواق الأوراق المالية يمكننا في إشارة سريعة أن نعرف حجمها في بلداننا العربية. أولا: حجم أسواق الأوراق المالية في البلدان العربية يشير تقرير مناخ الاستثمار لعام 2007 الصادر عن المؤسسة العربية لضمان مخاطر الاستثمار إلى أن القيمة السوقية لأسواق المال العربية بلغت في نهاية عام 2007 حوالي 1.3 تريليون دولار، وهو ما يزيد عما كانت عليه الأوضاع في نهاية عام 2006 بنحو 51%، وفي العديد من البلدان العربية يتجاوز حجم الأسواق المالية حجم الناتج المحلي الإجمالي كما هو الحال في معظم بلدان الخليج (عمان 208%، البحرين 143%، الكويت 109%، قطر 115%)، ويصل لنحو 87% في مصر من حجم ناتجها المحلي الإجمالي، وذلك حسب بيانات عام 2007، وقد بلغت الأسهم المتداولة في عام 2007 نحو 323 مليار سهم بالمقارنة بنحو 168 مليار سهم في عام 2006 أي أن نسبة الزيادة بلغت 92%[2]. ولكن تجدر الإشارة إلى أن أسواق الأوراق المالية في البلدان العربية قد شهدت نشاطا ملحوظا خلال عامي 2006 و2007 بسبب الوفرة النفطية، وهو ما لمس من خلال التزايد الكبير على الاكتتابات التي أعلن عنها خلال الفترة الماضية، حيث تم تغطيتها بمعدلات عالية جدا، وقد أرجع العديد من الخبراء هذه الزيادة إلى الوفرة النفطية، كما شوهد ارتفاع في أسعار الأوراق المالية غير مبرر، بسبب قلة المعروض من الأسهم والسندات والصكوك، ووجود وفرة مالية لدى الأفراد والمؤسسات، ولكن عام 2008 كان شهد انهيار البورصات العربية والعالمية وتكبد المستثمرين في البورصات خسائر فادحة. ثانيا: أهمية سوق الأوراق المالية للاقتصاد القومي هناك مجموعة من المبررات التي تدعو لوجود أسواق الأوراق المالية؛ نظرا لحاجة الاقتصاد القومي لمثل هذه الأسواق، بفرض أن هذه الأسواق تعمل بصورة صحيحة بعيدا عن المضاربات، أو أن المضاربات بها ليست الأصل، وأن الاستثمار هو الصبغة الغالبة على أداء هذه الأسواق، ومن هذه المبررات الآتي[3]: * تعبئة المدخرات وتوجيهها إلى الاستثمار على نحو يلبي احتياجات تأسيس الشركات وزيادة رءوس أموالها. * التوزيع الكفء للأموال على أوجه الأنشطة الاستثمارية المختلفة. * تجنب الآثار التضخمية الناتجة عن التمويل بالائتمان المصرفي. * إعطاء مؤشرات مهمة عن الأوضاع الاقتصادية، واتجاهات الأسعار. * تيسير عمل السياستين النقدية والمالية للدولة، وجعلهما أكثر فاعلية. * توسيع نطاق ملكية الأموال بما يعزز من عدالة الدخول والثروات، وذلك من خلال إتاحة توزيع حصص الملكية على عدد أكبر من المساهمين. * جذب رءوس الأموال الأجنبية إلى الاستثمار المحلي. ثالثا: ماهية البورصة البورصة سوق منظمة تقام في مكان ثابت، يتولى إدارتها والإشراف عليها هيئة لها نظامها الخاص، تحكمها لوائح وقوانين وتقاليد معينة، يقصدها المتعاملون في الأسهم والسندات والصكوك من الراغبين في الاستثمار، والناشدون الاستفادة من تقلبات الأسعار، وتنعقد جلساتها في المقصورة يوميا، حيث يقوم الوسطاء أو السماسرة الماليون بتنفيذ أوامر البائعين والمشترين، وعادة ما تحتوي البورصة على سوقين رئيستين هما[4]: أ- السوق الأولية: وهي ما يطلق عليها سوق الإصدار، أي أنها تلك السوق التي تصدر بها الشركات أو المؤسسات الراغبة في التمويل الأسهم أو السندات الخاصة بها لأول مرة بقصد الحصول على التمويل المطلوب لممارسة نشاطها وقيام مشروعاتها، وهذه السوق تعد من الأمور الإيجابية التي يحتاجها الاقتصاد القومي بشكل حقيقي، حيث إنها تعكس بشكل جدي حالة الاقتصاد القومي، فإذا كان في حالة انتعاش ورواج نشطت هذه السوق، حيث تقام المشروعات وتزيد الأيدي العاملة ويزيد الإنتاج وتوفر السلع والخدمات للسوق المحلي أو التصدير، والعكس صحيح، فتدني نشاط هذه السوق يعكس حالة الركود والثبات للاقتصاديات التي توجد بها، ومن هنا يطالب الاقتصاديون والمعنيون بقضايا التنمية أن تنمو هذه السوق وتنتعش على حساب سوق التداول أو السوق الثانوية. ب - السوق الثانوية: أو ما يطلق عليها سوق التداول، وهي السوق التي يتبادل فيها أصحاب الأسهم والسندات والصكوك ما لديهم منها عند أسعار معينة تلبي رغباتهم في جني أرباح لارتفاع أسعار هذه المنتجات، وهذه السوق لا تمثل سوى زيادة نقدية فقط ولا تضيف سلعا أو خدمات لارتفاع أسعار المنتجات المتبادلة داخل البورصة، وعادة ما تشهد هذه السوق المضاربات التي تهز العديد من الاقتصاديات. رابعا: المتعاملون في البورصة يوجد عدة أطراف يمثلون المتعاملين في سوق الأوراق المالية، وهم[5]: أ- المستثمرون: وهؤلاء سواء أكانوا أفرادا أو مؤسسات يدخلون سوق الأوراق المالية، سواء الأولية أو الثانوية بغرض توظيف ما لديهم من أموال، والحصول على عائد أفضل مما هو متاح في مجالات أخرى، ويحتفظون بما لديهم من منتجات تتيحها البورصة، وينتظرون نتائج أعمال المؤسسات التي يملكون فيها حصصا من رءوس الأموال، ويحصلون على أرباح موزعة في نهاية كل عام. وعادة ما يلجأ لهذه الأسواق متعاملون يريدون استثمار أموالهم بطريقة تتيح لهم سرعة تسييل ما لديهم من مدخرات دون الدخول في مشكلات بيع أصول مشروعات أو تصفيتها، فالبورصة تمكنهم في أي وقت من بيع جزء من حصصهم أو كلها حسب الحاجة دون الدخول في مشكلات للمشروعات التي يشاركون فيها. ب- المضاربون: وهم آفة أسواق الأوراق المالية، فهم يصنعون أسعارا معينة ويغرون الآخرين للدخول بالشراء منها ثم ينسحبون عند نقطة معينة تحقق لهم أرباحا عالية، وعادة ما تكون هذه الأسعار التي يصنعونها غير حقيقية ولا تعبر عن أسعار المنتجات التي يعرضونها، وهم يعتمدون في ذلك على الشائعات، أو سيطرتهم على بعض وسائل الإعلام، أو الحصول على معلومات عن نشاط الشركات قبل غيرهم، أو بطرق غير مشروعة، أو حتى قد يصل الأمر بهم إلى تهديد مديري الشركات بأنهم سوف يسيطرون عليها من خلال ملكية الأسهم وأنهم سيغيرون الإدارات من خلال الجمعيات العمومية؛ وهو ما يجعل القائمين على هذه الشركات يخشونهم ويدفعون الآخرين لشراء ما لدى المضاربين من أسهم، وهنا يجد المضاربون ضالتهم ويرفعون الأسعار، وهنا نجد أن الموقف الشرعي تجاه هؤلاء ملتبس؛ حيث إنهم يقومون بعمليات بيع وشراء صحيح، ولكنها تحمل في طياتها العديد من المخالفات، فضلا عن أنهم يفوتون على الاقتصاد القومي فرصة الاستفادة من هذه الأموال، والفرصة البديلة هي إقامة مشروعات وتداول للمال والثروة بوجه حق، أي تحقيق مقصد الشرع من المال. ج- السماسرة أو الوسطاء: وهؤلاء قد يكونون أفرادا أو مؤسسات، وينظم القانون عمل هؤلاء ويضع الشروط الفنية الواجب توافرها فيهم، وهؤلاء سواء أكانوا أفرادا أو مؤسسات تنطبق عليهم أحكام الوكالة في الفقه الإسلامي، وأن ما يحصلون عليه من أجر هو نظير هذه الوكالة، ووكالة هؤلاء الوسطاء أو السماسرة هي وكالة مشروطة، حيث تصدر إليهم الأوامر من البائعين أو المشترين عند لحظة معينة وبأسعار معينة. خامسا: المنتجات المتاحة بالبورصة 1. الأسهم: الأسهم جمع سهم، والسهم يمثل حصة على المشاع في رءوس أموال الشركة أو الجهة المصدرة له، ويتحمل حائز السهم الحصول على نتيجة الأعمال في نهاية العام، ربحا كانت أم خسارة، وتزيد قيمة السهم أو تنخفض حسب مجموعة من المؤشرات، أهمها المركز المالي للشركة أو الجهة المصدرة، وكذلك طبيعة النشاط الذي تمارسه، ويتداول السهم في البورصة إذا كان مرخصا له بذلك من خلال إدراج الشركة في جدول أعمال البورصة، وتوجد أنواع متعددة من الأسهم، حسب تقسيماتها منها: - التقسيم حسب الحيازة: * الأسهم الاسمية، وهي التي يدون بها اسم صاحبها. * الأسهم لحاملها، وهي أسهم لا يدون بها اسم صاحبها ولكنها تكون مملوكة لحائزها، ولكن العديد من القوانين المنظمة لعمل البورصات في البلدان العربية تمنع وجود هذا النوع من الأسهم حفاظا على حقوق أصحاب الأسهم؛ إذ من الممكن أن تكون الأسهم في حوزة غير مالكها بطريقة أو بأخرى. - التقسيم حسب الحقوق المالية * الأسهم العادية: وهي تلك الأسهم التي يترتب على ملكيتها حقوق وواجبات متساوية لكل حائزيها. * الأسهم الممتازة: وهي تلك الأسهم التي يكون لها وضع تفضيلي عند تصفية الشركة، بحيث تكون حقوقهم مقدمة على أصحاب الأسهم العادية، وبعد سداد الدائنين الآخرين. ومن الناحية الشرعية فإنه يجوز التعامل في الأسهم بشروط منها: أن تكون أسهما عادية غير الأسهم الممتازة، وأن تكون صادرة عن شركات لا تتعامل في إنتاج وتوزيع سلع أو خدمات محرمة مثل الخمور والخنزير والقمار أو الأدب والفن المكشوف أو أسلحة الدمار الشامل، أو تتعامل بأساليب محرمة والاحتكار، وهي ما يطلق عليها في أمريكا "أسهم الخطيئة"[6]. وهنا مسألة أخرى، وهي وجود بعض الشركات في الأصل تمارس نشاطا معتبرا شرعيا ولكنها خلال مزاولة نشاطها اقترفت بعض المخالفات، مثل الاقتراض بالربا لتمويل صفقات أو عمليات معينة، ولكن أصل رأس مالها بعيد عن الربا، وقد أفتى الأستاذ الدكتور محيي الدين القرة داغي بأنه إذا كان غالب الأموال الحلال فيجوز التعامل في تلك الأسهم من قبيل التيسير على الناس، ولكن إذا كان الغالب في أموال هذه الشركات هو الحرام فلا يجوز التعامل في هذه الأسهم[7]. 2. السندات: جمع سند، والسندات هي صكوك متساوية القيمة تمثل ديونا في ذمة الشركة أو الجهة التي أصدرتها، وتثبت حق حائزها فيما قدمه من مال على سبيل القرض للشركة أو الجهة التي أصدرت السندات، وحق حائز السند في الحصول على الفوائد المستحقة دونما ارتباط بنتائج أعمال الشركة أو الجهة المصدرة، ربحا كانت أو خسارة، واقتضاء قيمة الدين المثبتة على الصكوك في مواعيد استحقاقها، وتكون هذه الصكوك قابلة للتداول بالطرق التجارية، وتتنوع السندات من حيث جهة إصدارها سواء من قبل الحكومات أو من قبل الشركات، وعادة تقسم السندات إلى الأنواع الآتية[8]: * السندات العادية، وهي التي تتفق قيمتها الاسمية مع قيمة إصدارها، ويستردها المقرض في نهاية المدة بالإضافة إلى الفوائد المقدرة عليها في تواريخ استحقاقها. * سندات بخصم إصدار، وهي سندات تصدر بقيمة أقل من قيمتها الاسمية ترغيبا في ترويجها لدى المقترضين، فيدفع المقرض قيمة أقل من القيمة المدونة في صك القرض، ويحصل في نهاية المدة على القيمة المدونة بالإضافة إلى الفوائد المقررة سلفا. * السندات ذات الجوائز، وهذه السندات تصدر بسعر فائدة أقل من سعر السوق ولكن لها ميزة أنه يتم عليها سحب خلال فترة استردادها وإعطاء جوائز للفائزين، ومن يكتتبون في هذه السندات يرغبون في قيمة الجوائز والتي قد تفوق في بعض الأحيان قيمة ما لديهم من سندات، بالإضافة إلى استرداد قيمة السند الأصلية في نهاية المدة. * السندات القابلة للتحول، وهي مثل الأسهم العادية تماما، إلا أنها في نهاية المدة قابلة للتحول إلى أسهم في الشركة المصدرة إذا ما رغب المقرض. والحكم الفقهي في شأن هذه السندات ما ذهب إليه مجمع الفقه الإسلامي برابطة العالم الإسلامي (الدورة السابعة، القرار الأول) "رابعا: أن العقود العاجلة والآجلة على سندات القروض بفائدة بمختلف أنواعها غير جائزة شرعا؛ لأنها معاملات تجري بالربا المحرم[9]. ولكنّ ثمة نوعا آخر من السندات محل خلاف، وهو السندات ذات العائد المتغير؛ فالذين ذهبوا لجواز التعامل بها اعتمدوا على أنها تعطي عائدا متغيرا وليس ثابتا، في حين من ذهبوا بعدم جواز التعامل بها اعتمدوا على أنها قرض في الذمة ويضمنه المقترض. 3. المؤشرات: وهي أرقام قياسية تحسب بطريقة إحصائية للدلالة على مستوى التعامل في السوق، فهي مثل درجة الحرارة، ويتم التعامل عليها بيعا وشراء في بعض البورصات، وهي من التعاملات غير الجائزة شرعا، وذلك استنادًا على قرار رقم 11/62/6 لمجمع الفقه الإسلامي الدولي التاسع لمنظمة المؤتمر الإسلامي والذي نص على "لا يجوز بيع وشراء المؤشر لأنه مقامرة بحتة وهو شراء خيالي لا يمكن وجوده". 4. الصكوك الإسلامية: الصكوك الإسلامية هي عبارة عن وثيقة بقيمة مالية معينة تصدرها مؤسسة بأسماء من يكتتبون فيها مقابل دفع القيمة المحررة بها، وتستثمر حصيلة البيع سواء بنفسها، أو بدفعه إلى الغير للاستثمار نيابة عنها، وتعمل على ضمان تداوله، ويشارك المكتتبون في الصكوك في نتائج هذا الاستثمار حسب الشروط الخاصة بكل إصدار، وتختلف الصكوك من حيث آجالها (القصيرة، المتوسطة، طويلة الأجل) أو حسب صيغتها (مضاربة، مشاركة، إجارة، سَلَم، استصناع)، وتعتبر الصكوك الإسلامية بديلا للسندات التقليدية، ويشترط فيها مراعاة الضوابط التي يضعها نظام الاستثمار وفق النظام الاقتصادي الإسلامي؛ فهي استثمارات لا توجه إلى أنشطة منهي عنها شرعا، أو يحوط بها شبهة ربا، أو تعتمد على سعر الفائدة[10]. سادسا: الضوابط الشرعية للعمل في البورصة سوق الأوراق المالية (البورصة) مثلها مثل العديد من المؤسسات المالية والاقتصادية، عادة ما ينظر إليها في الإطار الشرعي من عدة جوانب، منها: المنتجات التي يتم تداولها داخل سوق الأوراق المالية، ومن جهة أخرى طبيعة الدور الذي تؤديه هذه السوق، ومن هنا نجد الآراء تختلف من جهة إلى أخرى، وذلك باختلاف الزاوية التي تم تناول القضية من خلالها. وثمة ملحظ مهم يجب الإشارة إليه عند تناول الضوابط الشرعية، وهو المقصد الشرعي للأموال، والذي يبينه العلامة "الطاهر ابن عاشور" بأنه ينحصر في خمسة أمور هي: رواج الأموال، ووضوحها، وحفظها، وثباتها، والعدل فيها، ويقصد برواج الأموال دورانها بين أيدي كثير من الناس بوجه حق، ويرى أن من معاني الرواج انتقال المال بأيدي عديدة في الأمة على وجه لا حرج فيه على مكتسبه، وذلك بالتجارة والمعاوضة لتيسير دوران المال على أفراد الأمة[11]، كما يفهم من قوله تعالى { كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاء مِنكُمْ} (الحشر:7). وعن الضوابط الشرعية في سوق الأوراق المالية فيمكن الإشارة إليها فيما يلي[12]: 1. حرية المنافسة، ويقصد بحرية المنافسة في سوق الأوراق المالية تحديد أسعار الأوراق المتداولة بها، وفق التقاء آليات العرض والطلب، بعيدا عن الاحتكار أو التسعير الإداري، ولكن هذه المنافسة لا تترك على إطلاقها، ولكن يحد منها خروجها عن الحدود العليا التي قد تضر بالمتعاملين، وتوجد آلية منظمة في بعض الأسواق تسمح بارتفاع أو انخفاض الأسعار في حدود هامش معين يوميا، وذلك تخوفا من حدوث صدمات عنيفة نتيجة المضاربات. وقد حرص الإسلام على عدم التدخل في تسعير المنتجات أو الخدمات بالأسواق في الوضع الطبيعي، أما إن كان السعر نتيجة احتكار فإن لولي الأمر أن يتدخل ويفرض ثمن المثل، وقدر روى أنس بن مالك رضي الله عنه: غلا السعر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا رسول الله سعر لنا فقال: "إن الله هو المسعر القابض الباسط الرزاق، وإني لأرجو أن ألقى ربي وليس أحد منكم يطلبني بمظلمة في دم ولا مال". 2. الإفصاح، نظرا لطبيعة عمل الشركات المطروح أسهمها في البورصة، حيث تنفصل الملكية عن الإدارة، ويتطلب هذا وجود قوائم مالية ونشر للميزانيات بصفة دورية تعكس المركز المالي للشركة لكي يكون المشتري أو البائع على بينة من الموقف الحقيقي للشركة. والإسلام حرص على توافر الإفصاح في التعاملات، ودل على ذلك شواهد كثيرة، منها ما رواه حكيم بن حزام عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "البيعان بالخيار ما لم يتفرقا - أو قال حتى يتفرقا - فإن صدقا وبينا بورك لهما في بيعهما، وإن كتما وكذبا محقت بركة بيعهما". 3. تحريم المقامرة: هناك بعض التعاملات تتم داخل البورصة تقع في نطاق المقامرة، مثل ترويج الشائعات أو البيوع بالمقابلات، وصورة بيوع المقابلات هي أن يتفق اثنان على رفع أو خفض سعر سهم معين دون وجود بيوع حقيقية ولكنْ بيوع شكلية لكي يتورط الآخرون فيتعاملون على الأسهم بيعا وشراء وفق الأسعار التي يريدها مديرو بيع المقابلات، كما أن هناك بيوعا تتم تحت مسمى الخيارات أو المستقبليات، وهي في حقيقتها بيوع صورية من أجل الحصول على ربح بدون وقوع عمليات البيع، وصورة بيع الخيارات هي أن يقول المشتري للبائع أشتري منك سهم كذا بعد مدة كذا بسعر كذا ارتفاعا أو انخفاضا، ويقدم له مبلغا بسيطا عادة ما يكون في حدود 5% أو 10%، فإذا حل الأجل فالمشتري في حل من الشراء فإذا ارتفع السعر أخذ ما دفعه كدفعة مقدمة مضاف إليه فارق السعر، وإذا انخفض السعر أو ثبت ولم يرد الشراء يخسر المقدم الذي دفعه، أما بيوع المستقبليات فهي اتفاق كل من البائع والمشتري على عقد صفقة ما في ميعاد ما دون وجود السلعة لدى البائع ودون دفع الثمن من المشتري، فإذا حل الميعاد تتم تصفية الصفقة حسب سعر السوق ربحا أو خسارة، وقد ذهبت كل الآراء إلى حرمة هذا النوع من البيوع لأنه يقع تحت طائلة بيع الكالئ بالكالئ. 4. تحريم الربا: وحرمة الربا ثابتة من الكتاب والسنة، يقول الحق تبارك وتعالي: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَن جَاءهُ مَوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّهِ فَانتَهَىَ فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ * يَمْحَقُ اللّهُ الْرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ * إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ * فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَإِن تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ} (البقرة: 275 - 279). وقوله صلى الله عليه وسلم: "ما ظهر الزنا والربا في قرية إلا أحلوا بأنفسهم عذاب الله"، وتظهر معاملات الربا في سوق الأوراق المالية بأشكال عدة منها: السندات بكافة صورها والتي تعد دينا في الذمة مقابل فائدة محددة، والصورة الأخرى أن يتم الشراء بسوق الأوراق المالية عن طريق الاقتراض من البنوك أو من شركات السمسرة، على أن يتم الدفع عند بيع الأوراق المشتراة، وتوجد صورة أخرى وهي البيع بالهامش، وصورته أن يتفق العميل مع شركة السمسرة على شراء عدد معين من الأسهم ولا يمتلك ثمنها فيدفع جزءا تحت الحساب، وإذا باع الأسهم بسعر أعلى من سعر الشراء أخذ الربح والهامش المدفوع مسبقا مخصوما منه الفائدة على القرض وعمولة السمسرة، وإذا باع بسعر أقل خسر الهامش المدفوع واستكمل ما عليه من قيمة متبقية من سعر الأوراق المالية، وإذا أراد الاستمرار في العملية في حالة الخسارة فعليه أن يعيد تعلية الهامش لدى شركة السمسرة مرة أخرى. 5. تحريم النجش: والنجش هو الاتفاق بين البائع ومشتر صوري لا يقوم بالشراء حقيقة ولكنه يرفع السعر لكي يغري غيره ليشتري عند هذا السعر المرتفع، ويتجلى النجش في سوق الأوراق المالية من خلال الشائعات حول أسعار أسهم بارتفاع أو انخفاض، وكذلك ما يتم في بيع المقابلات الذي أشرنا إليه من قبل، قال النبي صلى الله عليه وسلم: "الخديعة في النار ومن عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد". 6. تحريم الاحتكار، ويظهر السلوك الاحتكاري في البورصة بما يسمى عمليات الإحراج، والتي يسعى من خلالها المضاربون لجمع وحبس الصكوك ذات النوع الواحد في يد واحدة، ثم التحكم في السوق، واستغلال حاجة المتعاملين بالسوق تعاملا للوفاء بالتزامهم، عن طريق فرض سعر معين عليهم بالنسبة لهذه الصكوك، وتعرف الأسواق العالمية صورا عدة لهذه الممارسات، والمعلوم أن الإسلام قد حرم الاحتكار، فعن معمر بن عبد الله رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: "لا يحتكر إلا خاطئ". 7. تحريم الغرر، يطلق الغرر على البيوع التي تحتوي على جهالة وخداع، والتي لا يوثق بتسليمها وتؤدي للغبن، وتعرف سوق الأوراق المالية صورا عدة تندرج تحت باب الغرر منها بيع الاختيارات والمستقبليات، وقد سبق أن تناولنا صورتهما، ومنها أيضا البيع على المكشوف، وصورته أن البائع يقوم ببيع أسهم ليست عنده ويتعهد بتسليمها في تاريخ لاحق، ويراهن على أن ثمن هذا الأسهم أو السندات الآن أعلى مما سيكون عليه في تاريخ التسليم، وبذلك يشتريها فيما بعد مستفيدا من الفارق بين السعرين. في الختام، تظل التعاملات الاقتصادية الحديثة مجلبة للاجتهادات الشرعية التي يحتاج إليها مسلمو العصر، بل تحتاج إليها الإنسانية جمعاء، باعتبار أن المال من المقاصد الشرعية العامة التي تشمل كل بني آدم، والإسلام بشموله وسعة شريعته يستطيع أن يقدم حلولا وبدائل تخرج الإنسانية من النظرة المادية البحتة التي غلبت على معظم توظيفات المال الاقتصادية، لتقدم منظورا جديدا يجمع بين الروح والمادة، مبينا أن هناك رسالة للإنسان في هذا الكون جديرة بأن تعرف وتتبع، ألا وهي عبادة الله عز وجل.