المملكة العربية السعودية تخوض معركة البناء والنماء ... ومحاربة الإرهاب تميز موسم حج هذا العام بالأمن الشامل والهدوء والسلاسة. وقد اختارت السلطات السعودية أن تؤجل الإعلان عن الكشف عن عدد من الخلايا الإرهابية التي ضبطت خلال الفترة الأخيرة، إلى ما بعد انتهاء الموسم. وهو اختيار حكيم. وكان الأمير نايف بن عبد العزيز، النائب الثاني لرئيس مجلس الوزراء وزير الداخلية، رئيس لجنة الحج العليا، وقبله الأمير خالد الفيصل، أمير منطقة مكةالمكرمة، رئيس لجنة الحج المركزية، قد أعلنا في تصريحات صحافية لهما بعد انتهاء أيام التشريق، نجاح جميع الخطط التي أعدت لهذا الموسم من النواحي كافة. وهو نجاح ملموس يشهد به جميع الحجاج، ويحسب للمملكة العربية السعودية التي شرفها الله سبحانه وتعالى، بخدمة الحرمين الشريفين، وبالعمل على توفير وسائل الأمن والطمأنينة والراحة واليسر لضيوف الرحمان. ولقد كنت أحد هؤلاء، بعد انقطاع مني عن الحج منذ سنة 2004. ولكن المتأمل البصير في الواقع على الأرض، يجد نفسه أمام ظواهر جديرة بأن تسجل، على سبيل التذكير والنصح والإسهام بجهد مخلص، في تحليل جوانب من الحالة العامة أراها مهمة ، مع الاعتراف لهذا البلد الشقيق الكبير، بالفضل في النهوض على أكمل وجه، بالرسالة الدينية التي شرفه الله بها، وعلى نحو غير مسبوق من الجدية والفعالية والتفاني والإخلاص في العمل، بقيادة خادم الحرمين الشريفين، الملك عبد الله بن عبد العزيز آل سعود، عجّل الله بشفائه. أثناء توقفنا في إحدى الاستراحات، على الطريق الرابطة بين المدينةالمنورةومكةالمكرمة، قام أحد الشباب ممن كانوا يرافقوننا لتقديم الخدمات عند الضرورة، بإغلاق جهاز الراديو المثبت في الحافلة الذي كان يذيع إحدى الأغاني من إذاعة الرياض. فلما سألته من موقعي خلف السائق المصري، عن سبب إغلاقه الراديو، أجابني في انفعال: «أغان وموسيقى حرام». ولما قلت له: «من حرم الأغاني والموسيقى؟»، ردّ قائلاً وبانفعال أيضاً: «العلماء .. المشايخ يحرمون هذا المنكر». ولم أشأ أن ألوذ بالصمت، فقلت: «هذه إذاعة الرياض، وليست إذاعة أجنبية». فردّ عليّ قائلاً في حنق: «ولو ..». أثارت هذه الواقعة اهتمامي، فحرصت على أن أعرف المستوى الدراسي لهذا الشاب ولزملائه الذين كانوا يتوزعون على الحافلات الخمس التي نقلتنا من المدينةالمنورة إلى مكةالمكرمة. وكانت المفاجأة أن هؤلاء الشباب يتابعون دراستهم في جامعة أم القرى في مكةالمكرمة، وفي جامعة الملك عبد العزيز في جدة. وهم نموذج للجيل الجديد الذي نشأ في أجواء التشدّد والتعصب والتطرف الذي يؤدي في كثير من الأحيان، إلى الوقوع في حبائل الضلال، حسب التعبير الذي تستخدمه السلطات السعودية التي تصف الإرهابيين المجرمين بالفئة الضالة، وتقصد بذلك (الفئة الإرهابية)، و(الفئة الإجرامية). قبيل صلاة الصبح، وقفت عند إحدى أبواب الحرم المكي، على أحد رجال الأمن الذي كان يجلس على كرسي وبجواره ثلاثة كراس صغيرة يستخدمها الحجاج للصلاة، وعلى كل منها عبارة (وقف لله). استأذنته في أخذ أحد الكراسي الثلاثة، لتستخدمه زوجتي في الصلاة، فما كان منه إلاّ أن قال في خشونة وغلظة: «ممنوع». قلت له: «الكرسي مكتوب عليه وقف لله. ونحن لن نأخذه معنا، ولكن سنردّه إلى موضعه بعد الصلاة». فبادرني بالقول: «ممنوع. لا تتدخل فيما لا يعنيك. هل أنت مفتٍ؟». قلت له: «يا أخي أنا ضيف الله، وهذا بيت الله الحرام، والكرسي وقف لله، فما موجب المنع إذن؟». فنظر إليَّ شزراً ولسانه يردد: «قلت ممنوع ممنوع، لا تعمل من نفسك مفتياً ..». في مدينة الحجاج بمطار الملك عبد العزيز في جدة، كان هناك حرص شديد ومبالغ فيه، للفصل بين الرجال والنساء، عند الدخول إلى القاعة قبل الصعود إلى الطائرة. ولم يكن هذا الإجراء مبرراً على الإطلاق، لأن الجميع سيصعد طائرة واحدة، لا يفصل فيها بين الذكور والإناث. استفسرت عن الداعي إلى ذلك، فقيل لي إن (المشايخ يحرمون الاختلاط). فقلت في نفسي: «ربما يحرمون غداً الاختلاط في الطواف والسعي». إن التيار المتشدد حالة قائمة ملموسة في قطاعات من المجتمع السعودي. وهذا التيار هو الرافد الأساس للتطرف والدافع الرئيس إلى الانحراف الذي هو (الضلال) بعينه، أو لنقل بصراحة: «هو التطرف المفضي إلى الإرهاب»، الذي هو جريمة ضد الإنسانية بكل المقاييس. وفي المبنى التجاري الضخم الذي يقع في المساحة المواجهة لباب الملك عبد العزيز وباب الملك فهد للحرم المكي، يفصل بين الرجال والنساء في محلات الصرف، وفي الكافتريات الصغيرة التي لا مكان فيها للوقوف بله الجلوس، وإنما يكتفي من يرغب في شرب القهوة أو العصائر، بطلب حاجته، ثم ينصرف إلى حاله. بينما الدخول إلى المحلات التجارية في هذا المبنى وفي غيره، مباح للجميع دون تفرقة. في واجهة مكتبة صغيرة داخل مبنى ابن داود التجاري في مكةالمكرمة، لفت نظري كتاب بعنوان (النساء أكثر أهل النار). تقدمت إلى البائع الذي كان وجهه مقطباً متجهماً، وقلت له: «كيف تسمحون ببيع هذا الكتاب». فكان ردّه في خشونة: «هذه أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم». وهذا نموذج من الفهم غير الصحيح للدين، الذي أصبح يسود قطاعاً واسعاً من المجتمع السعودي في هذه المرحلة التي تبذل فيها الحكومة السعودية جهوداً ضخمة وكبيرة، بإرادة حازمة وبتصميم قوي، للقضاء على بؤر الإرهاب، ولمحاربة التطرف الذي يفتح أبواب الإرهاب أمام الفئات الضالة، ولتوفير الأمن والاستقرار للمواطنين وللمقيمين الذين يقارب تعدادهم الثمانية ملايين. إن مظاهر التشدّد والتنطع والتطرف بادية للعيان في جل المواقع، على الرغم من أن الدولة السعودية تقوم بعمل كبير من أجل تصحيح المفاهيم، ونشر الثقافة الدينية الصحيحة، من خلال تغيير بعض مناهج التربية والتعليم، وتوجيه الخطاب الديني في المساجد والجامعات ووسائل الإعلام وترشيده. ولكن مع ذلك فإن حجم انتشار الفكر المتشدّد والفهم غير الصحيح للدين، أكبر بدرجة لافتة للانتباه، بحكم أن تأثير الغلاة المتشددين هو أقوى من تأثير المعتدلين الوسطيين، لأسباب ليس هذا مجال الخوض فيها. إن السلطات السعودية المختصة تخوض معركة مشرفة ضد الإرهاب، في موازاة مع المعركة الإنمائية الكبرى من أجل البناء والنماء، وتحقق نجاحاً كبيراً ملموساً في هذا المجال. ويقود هذه المعركة الأمير نايف بن عبد العزيز، النائب الثاني لرئيس مجلس الوزراء وزير الداخلية، ويساعده في خوض هذه المعركة ابنه الأمير محمد بن نايف، الذي يشغل منصب مساعد وزير الداخلية للشؤون الأمنية، وهو الذي يمسك بالملف الأمني ويعنى بالتصدّي للإرهاب. ويشهد الجميع للسلطات السعودية، بالنجاح في محاربة الإرهاب وتطهير البلاد من رجسه وتجفيف منابعه، ومنها منبع التشدّد الديني الذي ينشأ من تغلغل الأفكار غير السوية والمفاهيم غير الصحيحة في أوساط المجتمع، خصوصاً بين الجيل الصاعد ذكوراً وإناثاً. بل يمكن القول إن المملكة العربية السعودية تخوض اليوم معركة ضد الإرهاب لفائدة ولصالح المجتمع الدولي كله؛ لأن أي أضرار تصيب هذه البلاد، لا قدر الله، من جراء استفحال ظاهرة الإرهاب فيها، ستكون لها عواقب وخيمة على الأوضاع في عديد من دول العالم. ولذلك فإن تأييد المملكة العربية السعودية ومؤازرتها والتضامن معها في هذه المعركة، واجبٌ مقدس ومسؤولية ثابتة وضرورة مؤكدة. إن استقرار المملكة العربية السعودية وقوتها وصلابتها، كل ذلك جزء لا يتجزأ من استقرار العالم العربي بل العالم الإسلامي وقوته وصلابته. وإن ما تقوم به هذه البلاد من توسعة شاملة للحرمين الشريفين، وللمشاعر في منى، أمر يفوق الخيال. وأذكر أن الأمير خالد الفيصل أمير منطقة مكةالمكرمة، وصف حجم الأموال التي تنفقها الدولة السعودية في هذا المجال، بأنها فوق الخيال. غبت عن المشاعر المقدسة ست سنوات، ولما عدت إليها هذه السنة، وجدت المنطقة قد تغيرت بالكامل، بحيث شمل التطور كل شيء، وأصبح الحرمان الشريفان أوسع بدرجة كبيرة جداً مما كانا عليه من قبل، وصارت منى إلى حال تيسرت فيها أداء المناسك بسهولة وسلاسة وانسياب.