يؤكد أن قصيدة النثر بالمغرب ليست بخير، وهي مهددة من قبل أبنائها المتحاربين فيما بينهم في حروب وهمية. لفت الشاعر القصري محمد العناز الأنظار إليه بعد فوزه بجائزة القناة التلفزية المغربية الثانية، طنجة الشاعرة الدولية. وهو إلى جوار إخلاصه لقصيدة النثر، منشغل بالبحث النقدي وأيضا الإعلام الثقافي على مستوى قراءة الكتب نقديا وتقديمها للقراء. فضلا عن مشاركته في عدد من الملتقيات العربية والدولية ترتبط بأسئلة الإبداع وثقافة السلم. ** بداية نتعرف على ولادتك شاعرا، المناخ والبيئة التي استقبلت موهبتك وتأثيرها عليك؟ * هل يمكن جلب كاميرا لتصوير لحظة ولادة الشاعر؟ لا أعتقد ذلك فولادة الشاعر ليست عينية، وغير قابلة للضبط على نحو محدد مهما بلغت درجة المخرج السينمائي؛ ذلك أن ثمة عوامل متعددة ساهمت في هذا المنعطف الذي سينتج عنه هذا الحب الجارف نحو الإبداع بصفة عامة ونحو الشعر بصفة خاصة. الكتب المدرسية لم تحفزني بأي شكل من الأشكال على عشق الشعر، وكان لزاما علي البحث عن الحياة في مكان آخر، ولن يكون إلا فضاء نادي الثقافة بثانوية أحمد الراشدي بالقصر الكبير الذي سمح لي برفقة زمرة من المشاغبين إبداعيا باستضافة عدد من الأدباء والجمعيات العاملة في المجال المدني الثقافي. وأخص بالذكر جمعية الامتداد الأدبية بالقصر الكبير التي لعبت دورا طلائعيا في الإشراف على عدد من الأوراش والدورات التكوينية. فضلا عن تنظيم مسابقات ثقافية وندوات أدبية وعلمية تنتصر فقط لقيم الإبداع وليس لآراء إيديولوجية ما. * في حديث بيننا ذكرت أن بدايتك كانت مع القصة، فما السر وراء تحولك للشعر؟ ** كنت أميل إلى سرد التفاصيل، والوصف، والقصة القصيرة بما تتوفر عليه من مساحات الحرية التي تغري بدخول دهاليزها، غير أني اكتشفت مع تجارب متعددة لقصيدة النثر قدرات هذه الأخيرة على استثمار إمكانات السرد (الحكي والوصف)، وتميزها بالكثافة التي تجعلها تصمت عن المعنى المباشر لصالح قدرة المتلقي على التأويل. وتبعا لمسار الغواية الشعرية وجدت نفسي متورطا في قراءة وكتابة شذرات لما يمكن تسميته بملامح تجربتي الشخصية في الكتابة الشعرية المنتمية لقصيدة النثر. هذه النصوص ستجد طريقها إلى النشر في المنابر الورقية والإلكترونية وإمكانية للمشاركة في عدد من الملتقيات الوطنية بخاصة وأن مدينة القصر الكبير كانت سباقة إلى الاحتفاء باليوم العالمي للشعر في فضاأت عمومية في تجربة تاريخية متفردة لجمعية الامتداد الأدبية. وقد كان لي شرف المساهمة في هذه اللقاأت التي أصبحت اليوم جزأ من التاريخ الثقافي لمدينة أوبيدوم نوفوم أكبر مدينة صغيرة في العالم. * حدثنا عن تجربة ديوانك "خطوط الفراشات"؟ ** ديواني الأول "خطوط الفراشات" لقي ترحابا كبيرا من لدن النقاد والشعراء، لكونه يرتبط بشكل مباشر بما يمكن أن نصطلح عليه بشعرية الماء حيث المكان يأخذ تاريخيته انطلاقا من ذاكرة الماء: حوض اللوكوس، والمحيط الأطلسي، والبحر الأبيض المتوسط. إضافة إلى الشعريات المجاورة التي يتضح حضورها المعرفي في ديواني الأول. لكن انتقالي للعمل في زاكورة بجنوب المغرب سيكون له تأثير كبيير في تغيير موضوعات وطرائق الكتابة. وهو ما يشكل انعطافة في تجربتي الشعرية المتواضعة. * وماذا عن تجربة "عقارب الماء" وهي تجربة شعرية تبحث في متخيل الصحراء؟ وما هو وجه الإضافة بين عمليك خطوط الفراشات وعقارب الماء؟ ** أحبذ تسميته بأوجه التحول على مستوى التخييل الشعري، وعلى مستوى طرائق بناء القصائد. فالانتماء إلى الجنوب معناه الانتماء إلى متخيل خصب له معجمه الخاص وعوالمه المجهولة والساحرة؛ قد يقال إن قساوة الحياة في ما يشبه الصحراء تأثر على نعومة القصائد، لكن الأمر غير صحيح لأني أحمل الماء في قلبي. الماء الذي يروي عطش الصحراء من بداية أول حبة أصادفها في طريقي على زاكورة. وتجربة الديوان الجديد ترتبط في الوقت نفسه برؤية جديدة للذات الشاعرة وللعالم وللتحولات التي يمر منها بداية من انهيار البرجين في نيويورك وأحداث ماي الإرهابية بالدار البيضاء، وصولا إلى الحركات الاحتجاجية بالعالم العربي والمغرب. فالشاعر هو جزء من هذه البلاد يفكر في حاضرها ومستقبلها على نحو مسئول، لكن الشاعر يختار القول الشعري لأنه يخلّصه من مكائد ودسائس السياسة. الشاعر في رأيي أكثر حرصا على سلامة البلاد وتنميتها. وهذه المسؤولية تحتم علي إضافة على انخراطي في المجتمع المدني التفكير في مستقبل هوية يهددها عطش الرأسمالية الوحشي لاستنزاف الإنسان والأرض. * أنت تنتمي إلى الحساسية الشعرية الجديدة بالمغرب، حدثنا عن هذه التجربة وما تعنيه داخل المشهد الشعري المغربي؟ ** الحديث عن الحساسية الشعرية الجديدة بالمغرب يدفعني إلى استحضار كتابات رصينة كتبت عن هذه التجربة؛ سواء منها المنشغلة بالمجال التنظيري أو المنشغلة بدراسة نصوص إبداعية متعددة. وإذا كانت القصيدة المغربية التي كتبت في سبعينيات القرن الماضي قد حظيت بدراسات عديدة أبرزها دراسة محمد بنيس وعبد الله راجع، ونفس الاهتمام حظيت به القصيدة التي كتبت في ثمانينيات القرن الماضي، نستحضر هنا الدارسة الرصينة التي قدمها الشاعر الأستاذ أحمد هاشم الريسوني؛ والتي رصد فيها سمات التحول في تاريخ الشعر المغربي المعاصر. فان التجربة التسعينية لم تحظ إلا بدراسات قليلة لا تساير الطفرة النوعية في الكتابات الشعرية المنتمية لنهاية القرن العشرين وبداية القرن الجديد؛ غير أن هذه التجربة وهي تتطور في اتجاه المستقبل لم تعد وفية لمشروعها المعبر عنه في تجارب ناضجة بالمغرب خاصة في تجربة" الغارة الشعرية"، والتي كانت تضم كل من الشعراء: ياسين عدنان، طه عدنان، سعد سرحان، رشيد نيني، سعيد الباز... ويمكن القول إن التجارب التي راكمتها التجربة التسعينية هي تجارب ناضجة ومهمة للغاية في بناءها ومتخيلها وتنوعها. يضاف إليها تجارب جديدة في بداية الألفية الجديدة التي ستدشن تراجعا قويا لجنس الشعر مقابل الحضور القوي لجنس الرواية. وأسباب هذا التراجع متعددة. لكنها تستدعي منا وقفات أخرى لإخضاعها للتحليل والمساءلة. * أنت باحث في بلاغة السرد القديم لماذا بلاغة السرد القديم وليس الحديث وليس الشعر؟ ** لقد تمكنت طيلة سنوات الدراسة بكلية الآداب والعلوم الإنسانية، بجامعة عبد المالك السعدي من الاضطلاع بشكل علمي على عيون الأدب العربي والعالمي بفضل أساتذة مشهود لهم بإبداعيتهم وأبحاثهم الأكاديمية الرصينة، وسمح لي هذا التكوين بالانتقال من وضعية" الكاتب الهاوي" إلى وضعية"الكاتب المحترف" المتمرس بأصول علم الشعر قديمه وحديثه. ولعل هذا هو أحد أسباب تراجع الشعر العربي بالمغرب وهو استسهال الكتابة لدى كثير من الأسماء التي تدعي لنفسها التميز الإبداعي. الشعر صعب للغاية" والشعر طويل سلمه" يتطلب الصبر والوفاء له وحد. لان الحبيبة لا تقبل بحب مزدوج. فكذلك هو الشعر لا يقبل أن يشاركه هذا الحب أي جنس أدبي أو اهتمام آخر. * هل لك أن تضعنا في المشهد الشعري المغربي عامة والشبابي خاصة وما موقع قصيدة النثر؟ ** قصيدة النثر بالمغرب ليست بخير، فهي مهددة من قبل أبنائها المتحاربين فيما بينهم في حروب وهمية، وهي تعاني اليوم من تكرار النماذج السالفة ومن عدم الانفتاح على التجارب الجديدة في البلدان العربية وغير العربية. وقصيدة النثر تعاني من غياب المواكبة النقدية لما ينشر خاصة من أعمال شعرية تطبع على حساب أصحابها في غياب تحمل الدولة لدورها في تشجيع القراءة والإبداع، وترك المجال للأمية الثقافية في ظل عالم يتطور بشكل مذهل في شتى المجالات. * ما مرد تخلف النقد الأكاديمي عن مواكبة التجارب الشعرية الجديدة ؟ وما هي مرجعيتك في الكتابة الشعرية؟ ** النقد الأكاديمي يعاني عالميا من هذا الإشكال. سواء في مجال الفلسفة أو الأدب أو الفنون. إن أغلب الأسماء التي نعتز بها تغادر في صمت، والأجيال الجديدة لم تقدم لنا مقترحاتها الجيدة اللهم نماذج محدودة عربيا ومغربيا. وهذا يتطلب من الجميع التفكير في هذا الوضع المختل. أما مرجعياتي في الكتابة الشعرية فهي ترتبط بما تعلمته، تتصل بتكويني الأكاديمي المتخصص، وارتباطا بتجاربي الشخصية في القراءة والحياة. وأقصد بذلك تجارب السفر التي أسهمت في إغناء مخيلتي وانفتاحي على تجارب أخرى خاصة بمصر وتونس وتركيا. * الشعر والثورة الرقمية. إلى أي حد استطاع الشاعر المغربي استثمار التقنية؟ ** الثورة الرقمية وضعت حدا لاحتكار المعلومة كيفما كان نوعها؛ وهي وسيلة لترويج المنتوج الثقافي الذي أصبح منتوجا مدرا للدخل، فتحول من دوره الرمزي إلى دور إنتاجي مادي مساهم في حركية الاقتصاد العالمي؛ ويكفي أن ننظر إلى حجم المبيعات لكبريات الروايات العالمية لنتأكد من هذا الأمر. غير أن العالم العربي تفصله سنوات ضوئية عن هذا المسار لغياب الوعي الحداثي بأهمية المنتوج الرمزي ودوره في التنمية، ولعتاقة التفكير العربي الذي لا يؤمن إلا بما هو مادي محسوس. والشاعر بين ذلك لم يصل إلى مرحلة استثمار منتوج من أجل حياة أفضل؛ لأنه لا يزال في دور المروج لأعماله. وهذه مهمة مؤسسات إعلامية وليس مهمة المبدع أو الأديب. * وماذا عن الحراك الثقافي ودوره وفاعليته؟ ** الحراك الثقافي مطلوب لأنه يسائل كل شيء، انطلاقا من قدرته على القيام بأدواره التاريخية. لكن هذا الأمر لا وجود له إلا على المستوى النظري؛ فالمثقف الآن هو خادم لإيديولوجية الدولة أو الحزب، أو لحماية مصالحه الخاصة. أما المثقف على الطريقة الغرامشية فقد توفي ولم يحضر أحد جنازته غير الرسمية. * كيف هو واقع المشهد الثقافي المغربي في ظل الحراك العربي؟ ** يشبه الواقع العربي لأنه ليس هناك استثناء مغربي اللهم بوادر صحوة بدأت تتشكل الآن في ضوء صعود الحركات الإسلامية لتسيير الشأن العام. وما تقدمه هذه الحركات من رؤى حول الإبداع والحياة يستدعي من الكل مراجعة شاملة وتقديم نقد موضوعي من أجل المستقبل.