وضع "السي أحمد" الجريدة جانبا، ثم نزع نظارتيه، و أغمض عينيه ليريحهما من عناء قراءة بلا طائل. و عندما أعاد فتحهما وجد حفيدته "ملاك" تقف قبالته، و تبتسم ابتسامة ماكرة، ثم تقدمت منه و عانقته و قبلته، فابتسم في وجهها و قال: -إذا كنت تريدين مالا فلا تتعبي نفسك.. جدك مفلس!! لكن الحفيدة هزت رأسها و أبقت على ابتسامتها، و قالت: -لا أريد مالا.. أريدك أن تساعدني! تساءل الجد : -أساعدك في ماذ؟ اقتربت الطفلة و قالت مستخدمة "سحرها" كله: -الأستاذ طلب منا كتابة موضوع إنشائي حول بلدنا.. و قد تملص الجميع من مساعدتي و أحالوني عليك أنت "مثقف" العائلة! ضحك الجد كثيرا من الوصف الباذخ، لكنه أعلن رفضه الفوري و الحازم، و تحجج بضرورة اعتماد التلاميذ على أنفسهم، لكنه في الحقيقة خشي أن يعجز دماغه الهرم عن تركيب جملة واحدة، و بالتالي سيفقد "مكانته" و هيبته بين أفراد أسرته، لكن "الشيطانة" الصغيرة حاصرته حصارا رهيبا، فلم يجد بدا من الاستسلام، و ما هي إلا لحظات حتى كانت الحفيدة تحمل قلما وتنتظر ما ستجود به قريحة الجد/المثقف. حاول السي أحمد اخفاء خوفه و ارتباكه، فاعتدل في جلسته، ثم قال: -اكتبي (يعتبر المغرب من أجمل بلدان الأرض، بمساحة تقارب مليونا إلا ربعا من الكيلومترات المربعة، و بشواطئ يتجاوز طولها ثلاثة آلاف كيلومتر) و بينما الحفيدة تكتب ما أملاه الجد، تساءل الأخير في نفسه: -كيف يكون في البلد كل هذه الأراضي و أنا قابع في شقة بحجم قفص في الدور الرابع؟ و كيف تكون لنا كل هذه الشواطئ و لم أجد سمكة واحدة عندما ذهبت لسوق السمك هذا الصباح؟ هزت الحفيدة جدها بعدما لاحظت شروده، فواصل: (و لقد حبا الله بلدنا تضاريس متنوعة، ففيه الجبال و السهول و الصحاري و الواحات…) ثم وجد نفسه يشرد ثانية، و تذكر سائحا فرنسيا كان قد التقاه منذ زمن بعيد، و قد ضحك السائح كثيرا عندما علم أن السي أحمد لم ير في حياته ثلجا و لا وطئ أرض صحراء، و أنه لولا الأغراض الإدارية ما غادر مدينته. عادت الطفلة لهز جدها فواصل: (و المغرب بلد ديموقراطي، حيث تتيح الانتخابات للمواطنين اختار من يمثلهم) فوجد نفسه يبتسم و هو يتذكر عبثية المشهد السياسي، و كيف تحول بعض الرعاع إلى مسؤولين محليين و وطنيين.. نظرت الطفلة إلى جدها فأكمل: (و يتمتع المواطنون كافة بحقوق متساويةتضمن لهم العيش الكريم) أحس الجد بغصة في قلبه، و تذكر معاشه الزهيد، و كيف ترقى بعض منعدمي الكفاءة و صاروا رؤساء له لأنهم "خبراء"في الوشاية و لعق الأحذية، و تذكر صديقه الذي طرد بعد أحد الاضرابات، و قريبه السياسي الذي اختطف و لم يعد… تذكر و تذكر.. لكن الحفيدة الشقية عادت لهزه قائلة : -أظن هذا يكفي.. أحتاج فقط لخاتمة. صمت الجد و قال: -(ما أجملك بلدي… و إني مستعد لأهب روحي و دمي دفاعا عن عزتك وشموخك) انصرفت ملاك فرحة ب"غنيمتها".. بينما تمتم الجد قائلا: -بلادي و إن جارت علي عزيزة….