كلما حاول المرء الخوض في حقيقة الصداقة "الفيسبوكية"، وعلاقتها بالصداقة الواقعية فإنه يصطدم بصعوبة كبيرة على مستوى تحديد جوانب التلاقي والافتراق بينهما. ولكنه يقتنع منذ الوهلة الأولى بعدم صلاحية معيار المفاضلة في التعامل معهما وتقويمهما،ولا يمكن القول طبعا بأن هذه الصداقة أهم من الأخرى،وأكثر فائدة بحكم استقلال كل منهما بمتطلباتها وخصائصها المتفردة إلى درجة اعتبارها بنية متكاملة العناصر. إنه من المحتمل حدوث تفاعل جدلي،وتأثير متبادل بين الصداقة الافتراضية والواقعية،يفضي مع مرور الأيام إلى تغيير مظاهرهما وتجلياتهما في الحياة اليومية،فكم من صداقة كانت مجرد خيال ووهم "فيسبوكي"أصبحت حقيقة واقعة…بيد أن هذا التحول البديهي يحتاج إلى توافر مجموعة من الشروط الضرورية والضوابط التفاعلية، ويمكن الإشارة على سبيل التوضيح والمكاشفة الواقعية إلى شرطين أساسيين وهما،أولا: استمرار الشعور بالإعجاب والرضى والتفاعل الإيجابي المتبادل بين طرفي الصداقة بنوعيها، والشرط الأساسي الثاني يكمن في ثبوت الافتراضات المتميزة،والمواصفات المتخيلة الفاعلة،وملامستها على أرضية الواقع المباشر من غير طلاسم ولا حجب توهيمية،أو ماكياجات طامسة ومحرفة لحقيقة الأمور. فهل يعقل الجزم بإلغاء الصداقة الافتراضية المتقوقعة في دائرة التواصل الالكتروني عبر المواقع الاجتماعية؟ فقط لأن الأشخاص المعنيين بها لا يلمسون أثرا لها في الواقع الحقيقي،بحيث يتم لقاؤهم أحيانا وجها لوجه في جو من التجاهل والفتور،فيصاب بعضهم بالاستغراب والاستياء،وينتابهم شعور الإحباط لكونهم يرون أنفسهم وكأنهم لم يسبق لهم أن تبادلوا طلبات الصداقة،وتوافقوا عليها بمحض إرادتهم. وهل يجوز أن يفضي التناقض التواصلي بين توهج الميولات والمشاعر في ظل المواقع الاجتماعية،وبين فتورها وبرودتها الجليدية في الحياة المعيشة واقعيا إلى الشك في مصداقية هذه العلاقة الافتراضية العنكبوتي، ووصفها بالشكلانية والزيف والتصنع،وبأنها آلية أكثر مما هي علاقة إنسانية؟ الواقع أن هذه الاستنتاجات والأحكام المسلطة على صداقة "الفايسبوك"سرعان ما تتبخر،وتتلاشى أمام الاعتبار اللامشروط لعقدها وقيامها والانصهار في بوتقتها ألا وهو توفير مساحة واسعة للتبادل الثقافي،، والانفتاح الاجتماعي والاحتكاك بمختلف التيارات الفكرية والأدبية والفنية،مع الترفيه عن النفس والبحث عن التسلية خلال الوقت الثالث. على أنه ينبغي في هذا السياق التسليم بعدم جدية بعض المصادقين،وافتقار اعترافهم بالصداقة لروح الالتزام الرزين،وخاصية الثبات على المبدأ المتعهد به.ومن هنا يتضح مدى تباين المعاشرة القائمة واقعيا بحميميتها العاطفية عن آصرة الصداقة الاحتمالية التخيلية،ومع ذلك فإن كل واحد من زاويته الخاص،وحقيقته السيكولوجية وظروفه الاجتماعية،ورؤيته إلى الحياة يفضل إحدى هاتين الصداقتين،أو لعله يحتفظ بهما معا،ويجاوز بينهما حين يجد المجال سانحا. ومن دون شك فإن الصداقة الواقعية تظل أبطأ بكثير من حيث نشوؤها وتبلورها،بالنظر إلى المدة الوجيزة التي يستغرقها إبرام الصداقة "الفيسبوكية"،وهي كذلك تبدو أشد إلحاحا على رزانة التواصل وجديته،وعلى التقيد بسلطان العاطفة وبالمشاركة المثمرة والتلقائية في السراء والضراء.