الظاهر أني سأموت قريبا؛ يقال أنه كلما حكى الإنسان إلا واقترب من قبره، وأنا أجدني هكذا وبلا مقدمات، راكبا لساني مطلقا العنان لقلمي يطير بي على بساط من ورق، وأنا في أعالي بحور السرد المديد، أجدني أرشح كلاما ما ورد على لسان عربي، و لا في قصص الغابرين و المغتربين، والأفكار الطائرة تلقي ببناتها على قلمي، الذي كباقي المغلوبين على أمرهم يستسلم و يخط قصصا تتطاير مني كما أوراق الخريف من على ظهر "سيزيف" وقت ريح، و الأساليب تأتيني صحون فواكه تنفرش تحت أناملي، تستجديني الانتقاء أما الأحداث فأقول لها انكتبي فتنكتب، بل تأيني دون طلب ناسجة بعضها من بعضها، و كلها من كلها، و نسيجها من نسيجها، فيسحبني قلمي من رواية إلى رواية، و من قصة إلى أخرى، وأحيانا – في طريق السرد – تأتيني قصة حبلى فتلد على صفحتي البيضاء أقصوصة بعمر الومضة، وأحيانا قد تنام معي رواية ببهاء "السندريلا" بعد ما صارت معي فردتها الثانية، وتارة تسر لي خنفساء صغيرة ببعض أسرار الكون، الموجدة تحت النعال. تحبكني القصص تتقاذفني فجائعها ككرة الطاولة بين مضربي بطلين شهيرين، في نهاية قبل الأوان، وأحيانا في الليل البهيم، وفي عز الزمهرير توقظني قصة ناعمة الملمس، وقد تسللت إلى فراشي باحثة عن دفء الورق، فنتمازج حتى نصير خليطا من حبر وقرطاس تفرش لي كل مفاتنها، فأنصهر وأفرغ فيها أنا و شبقي، بل حتى في نومي لا تتركني وحيدا بلا حكايا أحلامها: تأتيني بمنامتها البيضاء وشعرها الناعم المقفى، تسحب الغشاوة من فوق وسادتي، تمسكني من قلمي وتطير بي إلى روضة السرد الفيحاء، كي أحضر مجالس الشعر من متنبيها إلى درويشها، ومجالس المسرودات بمستملحاتها اللذيذة من أشعبها إلى جحاها، و مآنس ليال للأنس، بالضبط كما نتخيلها في قصور بني العباس، قبل أن يهزمهم الوسواس. وأنا لا أفعل شيئا عدا أني أدون و أدون، ثم أدون وأدون، دون ملل – بل بعشق- بدائع النتف و روائع التحف، في ما لم يعرف. لم أغب أبدا عن أية مسامرة من مسامرات إمتاعها و مؤانستها – إن استدعيت لها طبعا- . أدركت – متأخرا- أن التي ظلت تتصدر المقام طوال هذه الليالي لم تكن سوى "شهرزاد" إذ بسردها غلبت الموت، وأن وصيفتها "الخنساء"، التي كانت دوما تبخر المكان لم أتأكد من هويتها إلا بعد كثرة نواحها، وأن ذاك المدمن على الوقوف وسط زحمة الجواري الحسان، لم يكن سوى نزار يغششهن الغزل و الغنج و الدلال، أترى الذي لا تفارق القنينة كأسه هو أبو النواس بذاته ولواطيته، ماذا كان يفعل مع الغلمان وقت غفوة و غفلة؟ لا يجلس إلا ليقوم معهم ولا يقوم معهم إلا لقضاء حاجة طرأت.ما هي تلك الحاجة؟ لست أدري- الفاهم يفهم-. ما هذا الذي يحدث؟ أهو الجنون بعينه؟ أم أن هذا ما يطلقون عليه فنون ؟ بلا إنه حقا حافة الجنون أو أدنى يا رجل، أو ربما هو الجنون ذاته، مالي أنا والجنون؟ ليحرس كل منا حدود مسافته، إليك عني أيها الجنون، ما أنا منك و لا أنت مني. ما أعلمه هو أن الفنون – وكما خبرت- إبداع، وأن الجنون – و كما لم أجرب – فنون حسب ما يقولون، أو أنك ترى غير ذلك؟ يا سميري القاعد. – إنك تخرف؟ بهكذا بساطة واختصار أجابني صديقي "عمار" معتبرا أن ما قلته مجرد هلوسة من هلوسات القاعد دون شغل. فيا قارئا لا يخيب، وليتك زمام الحكي بعدي، وأورثك سردي. وقف حمار سردي في منحدر الورقة، إني أفرغ… أفرغ…إني : -أموت….