أصبح لمدينة القصر الكبير دلالات متعددة ومتناقضة في القاموس الاجتماعي والسياسي والتاريخي كذلك، فالقصر مرادف للجهاد والنضال والورع والتصوف والتواضع، وهو أول مدينة في المغرب عتيقة لازالت آهلة بالسكان تمارس أنشطة الحياة، تحولت إلى مجرد قرية في الوقت الذي تحولت فيه كثير من القرى والبوادي إلى مدن وحواضر، وبعضها إلى عمالات. والقصر مرادف للبطالة والانحراف، ومرادف كذلك للإبداع الفكري والأدبي والفني بمفهومه الشامل، وبقدر ما غصت شوارع المدينة بالشباب العاطل الجانح امتلأت قاعات العروض والندوات بالمثقفين ورواد الفن، وسطعت نجوم من العلماء والأدباء والفنانين، يتجاوز إشعاعهم حدود الزمان والمكان ليضيء كافة الأمصار. والقصر مرادف للفوضى المنظمة والعشوائية، في التجارة والحركة والتجول والجولان، واحتلال الملك العام والعمران، ومن زاوية أخرى هو نموذج للانضباط والتعايش السلمي مع الآخر، والتأقلم مع الواقع على كل حال. ومدينة القصر الكبير فضاء إسمنتي بين الحقول والبساتين، زحف فيه أخطبوط البناء على كل الحدائق وملاعب الأطفال، اغتال كل جميل في هذه المدينة، التهم السينمات والحدائق والفضاءات، وأجهز على حديقة السلام الوحيدة في هذه البيداء، فقطع أشجارها، واغتصب ورودها وأزهارها، وشوه جمالها. والمدينة مرادفة للإهمال والتهميش واللامبالاة، ذلك قدرها، وقيدها الذي أدمى معصمها، فجميع المجالس البلدية المنتخبة المتوالية المتنافسة على امتصاص درعها لم تحاول انتشالها من كماشة التهميش والبطالة، ولم تحظ المدينة بأي مشروع تنموي، محلي أو وطني، يوفر فرص الشغل، والعيش الكريم لأبنائها وسكانها، بل كل ما وصلت إليه عبقرية المجالس هو ترصيف الأرصفة، ومد قنوات الوادي الحار في هذه الحارة أو تلك وعلى الدنيا العفاف. مدينة القصر الكبير عنوان للنبوغ والتميز في عالم الفكر والأدب والرياضة والفن، أنجبت العديد من رموز هذا الوطن، غير أنهم اكتفوا بالتغني بأمجاد القصر وماضيه التليد، وغضوا الطرف عن حاضره المتردي، ومستقبله الرمادي، فقد أفادوا العباد وأهملوا الأهل والبلد. فالقصر قصران: قصر في الجغرافيا، وقصر في الوجدان، قصر التنمية الفكرية والإبداع، وقصر البطالة والتهميش والإهمال، هو مدينة المتناقضات، يجتمع في فضائها المناضلون من أجل الكرامة وإنصافها، والمتنكرون لجميلها وفضائلها، وخارج أسوارها ومجالها الجعرافي يتفرج المهاجرون من أبنائها، وبين اللحظة واللحظة يترقب الأهالي وسكان المدينة وصول الابن البار، والفارس المغوار، الذي يفك عنها عقال التهميش، ويكسر الأغلال وقيود الإهمال، فتستفيد من حقها المشروع من برامج التنمية الوطنية، والإنصاف والمناصفة.